المسلمون والعالم
وجاؤوا بسحر عظيم! !
الدلالات الإعلامية في انتفاضة القدس
حسن قطامش
دخل أحد الجنود الصرب على أم بوسنية مسلمة في مطبخها، وكانت تعد
طعام الغداء، ففتح إناء الطعام الساخن، وسألها: ألا يوجد في طعامكم هذا لحم؟
فأجابته بالنفي، فبادر الجندي الصربي بوضع قطع من اللحم في ذلك الوعاء وهو
على النار.. كان هذا اللحم هو أشلاء ابن هذه المرأة، الذي قُطِّعت أوصاله أمام
عينيها! !
حادثة بشعة قرأناها في الصحف.. لم نرها، ولم تصورها عدسة مصور، لا
ثابتة ولا متحركة حتى تتحرك معها القلوب عطفاً وشفقة.
صور أخرى عُرضت في أحد المواقع الإسلامية الإندونيسية عن المجازر
البشعة التي ارتكبت في حق مسلمي جزر الملوك، رأيتها، ورآها كثير من الناس،
في هذا الموقع، وفي أماكن أخرى، جرائم تقشعر لها الأبدان، رؤوس مفصولة
عن الأجساد، أطراف ممزقة، بطون مبقورة ومحشوة بالأحجار، عُلِّق الأطفال
على الأشجار وهم أحياء، واستُخدِمُوا أهدافاً للتدريب عليها بالخناجر والبنادق،
وكان يُرفع بعضهم إلى الهواء ويتلقاهم النصارى على أسنة رماحهم التي تخترق
الأجساد الغضة.
هذا واقع حقيقي، ونشر في عدد من المطبوعات العربية، ونشرت بعض
المجلات تحذيراً لأصحاب القلوب الضعيفة من أن في الداخل صوراً مروعة! !
وجاءت انتفاضة الأقصى الأخيرة لتحمل في طياتها مجازر جديدة للمسلمين،
ولتضيف أرقاماً منهم إلى قوائم سبقتهم في ذات الطريق.
وجاء مقتل الطفل محمد الدُّرة ليزيد من آلامنا الكثيرة، كان أول إحساس
انتابني عندما شاهدت صورة الحادثة الأليمة أنني تخيلت نفسي مكان ذلك الأب،
وماذا عساي أن يكون شعوري في هذا الموقف، ولَكَم هو ألمي وعجزي؟ !
لم يكن مشهد قتل محمد الدُّرة بأشد بشاعة مما ذكرت عن تلك الأم البوسنية،
ولا يقارن بما حدث لأطفال جزر الملوك المسلمين بحال.
ولم يكن محمد الطفل الفلسطيني الوحيد أو الأول الذي قتل على يد يهود، بل
سبقه آلاف.. بنفس الرصاص.. من نفس البندقية.. من نفس العدو.. في نفس
البلد.. فلماذا فعل مشهد موته ما فعل، وهو مجرد طفل كغيره من أبناء الأرض
المباركة؟
ما الذي جعل صورته تصل إلى كل بيت، واسمه يردد على كل الألسن؟ وما
الذي جعلني أكتب هذه الأسطر عنه، وسبقني مئات سطروا المقالات والقصائد
حول موته؟ ما الذي صنع من موت طفلنا هذه القصة الكبيرة التي ألهبت الحماس،
وأججت الصدور حقداً وغيظاً؟
إنهم السَّحَرة [1] ! ! السحرة الجدد، سحرة الصورة المتحركة، والبث المباشر،
والإعلام الحي، وأكاد أجزم أن هذه الجريمة البشعة كانت ستلحق بأخواتها في
سجل النسيان المرير، لولا هذا التكرار، والنكء المستمر للجرح الأليم.
لقد كان للإعلام بلا شك دور رئيس في أحداث انتفاضة الأقصى، كما له
الدور ذاته في جوانب أخرى من حياتنا، إيجابية وسلبية، إلا أنه في هذه الأحداث
ظهرت دلائل هامة من خلاله، أظهرها هو، فكان منها ما يحسب له ومنها ما
يحسب عليه، أو ظهرت بتأثيره وبصدى الفاعلية المؤثرة التي صاحبته في تلك
الأحداث، فكان لا بد من قراءة لهذه الدلالات بإيجاز.
ولا أحسب أنني أذهب بعيداً إن قلت إن حجم التغطية الإعلامية لأحداث
الأقصى كان العامل الأكبر في تفاعل الجماهير المسلمة في كل مكان، وهو ما أدى
بدفع القمة العربية إلى الانعقاد في القاهرة، نزولاً على ضغط الشارع وغضبه
ومحاولة لإسكاته بالطبع ولم يكن هذا الغضب إلا صدى لهذه الحملة الإعلامية.
ولذلك من غير المستبعد أبداً أن يلعن بعض من الناس المصور الفلسطيني الذي قام
بتصوير المشهد، كما لُعنت القناة الفرنسية وأخواتها بسبب ما جرَّته تلك المشاهد
مما تلاها.
كانت الدلالات كثيرة ولها مغازٍ هامة، منها:
1 - كانت أهم النقاط الإيجابية التي ظهرت هي مدى وضوح العداوة
والبغضاء في قلوب الجماهير المسلمة لليهود، وإدراك أن الصراع معهم صراع
ديني، وأن تلك الحملات التي ما فتئت تحرض على التعايش السلمي مع اليهود،
وتَقبُّل الدولة الصهيونية كجارة يجب أن تُعطى حقوق الجيران التي حث عليها
الشرع! ! لم تؤثر في الأمة المسلمة بالحجم الذي يوازي ثقل هذه الحملات وثقل
المنافحين عنها والمحركين لها.
2 - أثبتت الجماهير المسلمة وبالرغم من عدم التوجيه المباشر لها أن الأمة
ما زالت حية، بل تنبض بالحيوية في كافة فئاتها، أرتنا الأحداث نماذج تنحني لها
هامات الرجال وقمم الجبال، لم يحتج الأمر لديهم لإظهار مشاعرهم وصدق إيمانهم
إلى فلسفة أو تنظير أو كثير تفكير أو تعمق واستعراض واستقراء للواقع وتحولاته
أو موازنات أو غير ذلك، سمعنا عن أطفال يغتسلون قبل نزول الميدان المفتوح في
كل فلسطين يرجون الشهادة، سمعنا عن أطفال قطعوا القفار رغبة في نصرة
إخوانهم المسلمين، وقرأت ذلك الحوار الذي أجري مع الطفل أحمد شعراوي
(13 عاماً) بعدما أعادته السلطات المصرية من حدود مدينة رفح إلى والده، وقد
سأله المحاور: ألم تفكر في أمك وأبيك، أختك، أهلك، والقلق على غيابك؟
أجاب وانظروا الإجابة من طفل قال: لو فكرت في ذلك فلن أقدر على فعل شيء،
هناك أشياء أكبر لا بد أن نحبها أكثر من أنفسنا وأهلنا، أكثر من أي شيء.
وسأله المحاور: هل أنت سعيد بما فعلت؟ أجاب: كنت سأبقى سعيداً جداً لو
نجحت ودخلت فلسطين واستشهدت هناك! ! وقد سأله والده: كيف ستصنع في
مراجعة المواد التي تأخرت فيها؟ فأجابه: الذي يذهب للجهاد لا يرجع مرة
أخرى! ! وسمعنا بالأمهات اللواتي يباركن خطوات فلذات أكبادهن نحو الموت
والشهادة، وعن الشباب، فحدِّث ولا حرج، رأينا في الأمة كلها الحياة. رأينا
الأيدي البيضاء التي تصدقت من مالها، وجاءت بذهبها وفضتها طيبة نفوسها في
سبيل نصرة إخوانهم في الدين، كانت صورة التبرعات من أجلى صور صدق
الولاء مع المسلمين، ودليل حياة في القلوب.
3 - القناعة التي ظهرت لدى تلك الجماهير من أن الحل الأمثل لهذه القضية
إن لم يكن الوحيد هو الحل الإسلامي، الجهاد في سبيل الله؛ حيث ترسخت القناعة
بإخفاق كافة الحلول إلا هذا الحل، وقد أخبرني مَنْ شاهد إحدى المحطات الفضائية
أن إحدى المذيعات سألت فتاة متبرجة عن رأيها في القمة العربية الأخيرة، وهل
ستحل الأزمة الحالية؟ فأجابت: لن تقدم القمة أي حلول! ! ومن وجهة نظري أن
تعطوا (حماس) مالاً وسلاحاً وستقوم هي باللازم! !
قناعة وإن كان يشوبها بعض القصور والبراءة إلا أنها تحمل في طياتها
استقراراً لمفاهيم جديرة بالإشادة والتحفيز.
بل أصبحت هذه القناعة أكثر رسوخاً لدى أعداء الإسلاميين، وأنهم أهل
للأخطار الكبيرة، وإلا فما مغزى إطلاق عرفات لبعض أفراد حماس مهدداً بهم
إسرائيل، ثم عاد بعدما أعاد النظر وتعقل واعتقلهم مرة أخرى؟ !
حتى يهود أعادت تلك الأحداث هذه القناعة لديهم وأكدها الجنرال (داني
روتشيلد) مدير قسم الأبحاث السابق في جهاز الاستخبارات العسكرية حين قال:
«ويل لدولة إسرائيل إذا سمحت للأصوليين أن يكونوا بمثابة الجبهة التي تتطلع
إليها الجماهير العربية» ، أما المستشرق والباحث في شؤون الحركات الإسلامية
في مركز ديان للأبحاث (د. إيلي ريخس) فقال بصراحة: «كل نجاح
للإسلاميين يمثل خسارتين في آن معاً؛ فمرة لأن الخوض في مواجهة ذات طابع
ديني ويقودها متدينون مسلمون صعبة لنا، ومرة أخرى؛ لأن نجاح الحركات
الإسلامية يعني إفلاس الأنظمة العربية في نظر الجمهور العربي؛ وهذا أمر لا
يقل خطورة عن الأول؛ لأننا يجب أن نكون معنيين بأن تكون الأنظمة الحاكمة مقنعة
لجمهورها» ! !
ازدياد تلك القناعة لدى فئات عدة، لا بد أن يزيد قناعة الإسلاميين أنفسهم
بصحة قضاياهم ومنهجهم وطريقهم الذي يسلكونه طلباً لرضى الرب الكريم.
4 - لم يفلح الاستفراد الإسرائيلي بفلسطين بعد اتفاقية السلام مع عرفات في
عزل الشعوب المسلمة عن قضيتهم الكبرى؛ ففي الوقت الذي استراحت فيه دول
من حمل همِّ القضية، وأن لفلسطين رئيساً يحميها، وتخلت تلك الدول عما كانت
تسميه دعماً سياسياً للقضية بصورة مباشرة، واكتفت بالبروتوكولات الباردة من
شجب وإدانة وتأييد على صفحات الجرائد الرسمية، لم يحمل هذا الشعوب على
التخلي عن قضية فلسطين، وأثبتت الأحداث أنها ما زالت في بؤبؤ العين وعين
القلب.
ومن هنا فقد زاد اتساع الهوة بين الشعوب والحكومات، وإن كانت الشعوب
على حالها الراهن لا تستطيع تغييراً كبيراً في الأحداث لقلة حيلتها وهوانها على
الحكومات، إلا أن الحنق والغضب والازدراء ازداد في النفوس، والقناعة بعدم
أهليتها لتحقيق مطالب الأمة أصبحت يقيناً، وهو أمر إيجابي للغاية؛ فلم تعد
الشعوب تقنع بامتصاص غضبها بمؤتمرات قمة أو غيرها.
ولقد كان الموقف الشعبي من القمة الأخيرة ونتائجها في غاية الوضوح، بل
كان واضحاً قبل انعقادها؛ فمن خلال استبيان أجري في أحد المواقع على شبكة
الإنترنت أفاد 88% من المشاركين أن القمة لن تسفر إلا عن الإدانة والشجب.
ولا يدفعنا هذا الموقف من الجماهير المسلمة إلى الوقوع في الوهم الجماهيري،
وأنها قادرة بمفردها على التغيير بغير توجيه واستفادة قصوى من طاقاتها بحسب
ضوابط واضحة؛ فهي تقاد ولا تقود، ولا يدفعنا ذلك كذلك إلى إغفال دورها وثمين
حياة قلوبها مع قضايا الأمة.
كما شاركت الجماهير فئات من الناس يعدون من سقط متاعهم، كالفنانين
والراقصين، تفاعلوا مع القضية وتظاهروا واعتصموا وغنوا ورقصوا من أجل
القضية! ! يجب ألاَّ ينسينا هذا التفاعل حقيقتهم، وأن يوضعوا في الحجم الحقيقي
لهم، وإن كان الملمح هنا أنه حتى أولئك تأثروا وتفاعلوا.
5 - أسقطت هذه الأحداث ورقة التوت الأخيرة التي كان يستتر بها دعاة
السلام والداعون له والمنظرون لثقافته؛ فها هي المذابح تقع الآن تحت غصن
الزيتون الذي يرفعونه، وأظهرت أن غصنهم الملعون يسقى بدم الأبرار، وأن
ثماره بنادق وصواريخ تحرق القلوب والأجساد، وتخرب الديار، ورغم ذلك،
ورغم القناعة التي ترسخت لدى قطاع عريض من الناس، عامتهم وخاصتهم
بإخفاق ما يسمى مسيرة السلام إلا أن بعض أولئك لا يزالون يدافعون عن إسرائيل
ويراهنون على طاولة المفاوضات ويقبضون على شفاههم استنكاراً لفكرة الجهاد.
أحد أولئك التطبيعيين حتى النخاع وهو المسمى (علي سالم) يقول في ذروة
الأحداث الأخيرة: «إن إسرائيل تضم الملايين من دعاة السلام، ولكنكم في العالم
العربي ترون أن الحق في جانبكم فقط وأن الآخرين هم الجناة، نحن نعيش حالة
حرب في عقولنا فقط، ونرفض الاستماع إلى أصوات السلام داخل إسرائيل، إن
من العبث تصور أن إسرائيل وحدها المخطئة، لقد رأيت صورة محمد الدُّرة،
ورأيت أيضاً الجنود الإسرائيليين الثلاثة وهم يذبحون وتحرق جثثهم لماذا تتجاهلون
ذلك أيضاً، لقد انتصر اتجاه العنف في النهاية! !» .
ومن نفس جماعة كوبنهاجن يخرج آخر، وهو ناشر وكاتب يدعى (أمين
المهدي) ليزايد على قرينه في السوء ويقول: «نعم، ما يجري (من الفلسطينيين)
عودة لسيطرة الفاشية وإحراج قوى السلام في إسرائيل؛ فحركات السلام كانت
في الحكم! ! وكانت تضغط في اتجاه إقرار السلام، لكن ما جرى عصف بكل
شيء، فحتى المظاهرات التي خرجت في الشوارع العربية لم تكن إلا تمهيداً لهذه
الفاشية، والمقاومة التي تقوم بها حماس هي أيضاً قسم من هذه الفاشية وليست في
صالح الشعب الفلسطيني، أنا أتحدث لمصلحة الشعب الفلسطيني، وهذا الشعب
عليه إدراك أن من يهتف بالقدس عربية أو إسلامية، لا يريدون الخير للشعب
الفلسطيني؛ لأن القدس فلسطينية، لا عربية ولا إسلامية! !» [2] .
ويبدي أحدهم أسفه الشديد، ويثير التعاطف مع اليهود؛ حيث إن قطاعات
مهمة وواعية بين الإسرائيليين واليهود عالمياً يؤمنون بمنهج اللاعنف، وما زال
الجميع منهم يعملون ضمن جماعة «السلم الآن» وغيرها من المنظمات اليسارية
الإسرائيلية، وكثيراً ما يشعر هؤلاء بالحرج والحيرة عندما يجدون الفلسطينيين
يضربون إخوانهم الإسرائيليين بالحجارة أو الرصاص أو العمليات الانتحارية [3] .
ونسوق لهذا التعيس خبر رفض المسؤولين في حركة «السلم الآن»
الإسرائيلية تنظيم أية مظاهرات تأييداً لعملية السلام؛ فقد قال إميرام جولد بلوم أحد
قادة الحركة: «إننا نشعر بالإحباط؛ لأن إسرائيل قامت بخطوة كبيرة نحو السلام
والفلسطينيين ولكن لم يحذُ الفلسطينيون حذوها، إن رئيس الوزراء الإسرائيلي
إيهود باراك قدم للفلسطينيين تنازلات في قمة كامب ديفيد لم تحدث من قبل،
وخاصة في شأن القدس! ! لا يمكننا الدعوة حالياً إلى تنظيم مظاهرات تأييداً للسلام
إذا كان الفلسطينيون غير مستعدين لذلك» .
لا أحسب أن هذا الكلام من هذا اليهودي يختلف في شيء منه عن ذلك
المحسوب على المسلمين، أرأيتم كيف كانت الأحداث في بعض جوانبها إيجابية
برغم دمويتها؟ فما انكشف ستر أولئك مثلما انكشف مع تلك الأحداث.
6 - كان من أجلى ثمرات هذه التغطية الإعلامية، هو إثبات مدى القدرة
الفائقة لجهاز الإعلام في تشكيل رأي عام حول قضية بعينها، سلباً أو إيجاباً،
وعلى سبيل المثال فقد طلبت دولة موريتانيا من سفير لإحدى الدول لديها وقف
تكرار مشاهد الانتفاضة الفلسطينية في القناة الفضائية الخاصة ببلده، خوفاً من
غضبة الشارع الموريتاني الذي سوف يتفاعل مع هذه المشاهد! !
وبرغم أن هذه الماكينة الإعلامية العملاقة تتحرك من خلال سياسات مرسومة
حسب التوجه لأصحابها أو القائمين عليها إلا أنه بالإمكان استغلالها في خدمة قضايا
الأمة بشكل جيد.
ولم يكن للإعلام العربي فضل في السبق ببث حادثة مقتل الدُّرة، بل كان
تابعاً للإعلام الفرنسي، ولولا الحياء من الاتهام بالتخاذل لغض الطرف عن ذلك،
فتسابقت القنوات في رصد القضية ومتابعتها مجاراة للأحداث، كما تابعت في
الوقت ذاته مباريات كرة القدم وغيرها مما يُتابع، نعم! هذا واقع الإعلام العربي،
لكن بالإمكان استغلاله بصورة أكثر فاعلية كتلك التي حدثت مع انتفاضة القدس،
وإن كانت قضية فلسطين لها خصوصيتها باعتبارين:
- باعتبار العداوة المتأصلة في النفوس المؤمنة تجاه اليهود على مر التاريخ
الإسلامي، والتي تربت عليها أجيال الأمة إلى اليوم.
- وباعتبار أن اليهود السبب الرئيس والمباشر في مأساة فلسطين المعاصرة؛
فكانت القضية واضحة تماماً لدى الجماهير، وبرغم هذا فيمكن الاستفادة من هذه
الماكينة الضخمة التي اخترقت العالم أجمع في خدمة قضايا المسلمين.
وقد كان لعدد من المجلات الإسلامية حضور مشكور متميز، إلا أن هناك
وسائل أكثر تأثيراً ما زالت بحاجة إلى تفعيل واستغلال.
وإن كان وضوح القضية لدى الشعوب ساعد على تفاعلها؛ فإن ذلك لا بد أن
يلفت انتباهنا إلى ضرورة الطرح الصحيح لقضايا الأمة الأخرى وترسيخ القناعة
بصحتها وأهميتها حتى يؤتي زرعنا أُكله. ولقناعة دولة الكيان اليهودية بخطورة
الإعلام وقيمته فقد قامت بحملة إعلامية مضادة عقب تلك الحملات التي أظهرت
مشهد الطفل الدُّرة، فقد كشف السفير الإيطالي (سرجو فنتو) مندوب إيطاليا الدائم
في الأمم المتحدة أن إسرائيل قامت بالتضحية بالجنود الثلاثة الذين قتلوا في رام الله
حتى تستعيد التعاطف العالمي، وأكد السفير الإيطالي أن الحكومة الإسرائيلية
أرسلت جنودها الثلاثة إلى رام الله بدون مسوِّغ وحدهم وسط الانتفاضة الغاضبة
ليلقوا مصيرهم المحتوم، وهي تعلم هذا المصير، وأرسلت شبكات التلفزيون
لتسجيل الحدث الذي من شأنه أن يحقق توازناً دعائياً لإسرائيل أمام الرأي العام
العالمي [4] .
وأكد السفير أنها تمثيلية درامية قدمت فيها إسرائيل الجنود قرباناً لدعايتها ضد
العرب.
وبالفعل استغلت إسرائيل هذا الحدث إعلامياً من خلال السيطرة اليهودية على
شبكات الإعلام العالمية، وقد أدلى أحد المصورين البريطانيين وقد حضر مقتل
الجنود بدلوه في هذه المسرحية الإعلامية حين قال: لقد صورت الكثير من المشاهد
العنيفة في العالم خصوصاً في الكونغو وكوسوفا، لكن ما شهدته هناك كان أسوأ ما
رأيته في حياتي.
كانت دولة الكيان مقتنعة بأن ما تأتي به صورة تذهب به أخرى، ولهذا فقد
صنعوا صورهم، كما صنعوا مآسينا.
7 - أكدت الأحداث مدى بغض المسلمين لراعي الغنم، راعي حمامات
السلام؛ حيث كان التأييد لدولة الكيان أعمى من العمى، هذا ما أكدته الأحداث،
ولم يكن جديداً؛ كان الجديد هو ما نحن بصدده، فكما صنع الإعلام لدينا القناعات
السابقة وكانت له دلالات واضحة التأثير، في جلها إيجابية، كانت الصورة مغايرة
على الجانب الأمريكي، كانت الصورة لدى العالم في غاية الوضوح لا تحتاج إلى
تأويل، أو مزيد شرح وتفسير، أقوى جيوش الشرق الأوسط في مواجهة شعب
أعزل من كل سلاح مادي إلا الحجارة، مئات القتلى في مقابل قليل من قليل من
الجرحى، أشد الناس ظلماً وضيماً لا يستطيع أن ينحرف أو يجور أمام هذه المشاهد،
ولكن الإعلام الأمريكي كان أكثر من ظالم وأكثر من جائر، لقد حمل هذا الإعلام
الناس على لوم الضحية، والشفقة على الجاني، ولنأخذ مثالاً واحداً من هذا الجور
الإعلامي، من هذا السحر الذي صُنع في دولة بحجم الولايات المتحدة، صورة
أخرى غير التي لدينا، جريدة نيويورك تايمز، أهم الصحف الأمريكية كتبت في
افتتاحيتها عقب زيارة شارون للمسجد الأقصى، وحملت عنوان: (مواجهة دموية
في الشرق الأوسط) تقول: «بالأمس هاجم بعض الفلسطينيين الغاضبين
والمتطرفين القوات الإسرائيلية والمدنيين في أنحاء القدس، والضفة الغربية
وقطاع غزة والمناطق الإسرائيلية المأهولة بالسكان العرب، بالحجارة والقنابل النارية
والرصاص! ! وقد رد الجيش الإسرائيلي مستخدماً الأسلحة والصواريخ المضادة
للدروع» ! ! وحمَّلت الصحيفة السلطة الفلسطينية المسؤولية؛ لأن معظم هذا
العنف قام به الفلسطينيون، وتفهمت الصحيفة تصرفات باراك الذي يتحتم عليه أن
يدافع وبقوة عن حياة الجنود الإسرائيليين والمدنيين من هجمات الفلسطينيين، وقس
على ذلك ما شئت من الصحف.
وفي الوقت الذي كانت وسائل الإعلام في الشرق تتناقل صور القتلى
والجرحى الفلسطينيين، كانت شبكات الإعلام الأمريكية مثل الـ C. N. N.
تعيد وتزيد من عرض صور بعض اليهود وهم يهربون من جانب حائط البراق
خشية أن تصيبهم الحجارة الفلسطينية، ولا تخلو هذه الصور من تعليقات ذات
مغزى.
ولو تتبعنا ما قام به الإعلام الأمريكي فلن نقف إلا على ظلم وجور وغبن
وخداع، وما شئت أن تضيف إلى قائمة الباطل فأضف.
لقد صنع الإعلام لدينا أحداثاً ورسخ قناعات، وكانت له دلالات هامة تحتاج
إلى تأمل أكثر.. فلنتأمل.