مجله البيان (صفحة 3710)

البيان الأدبي

الورد والهالوك وقفة مع شعراء الحداثة في مصر

د. حسين علي محمد

ظهر في مصر منذ السبعينيات جيل جديد من الشعراء أقله يجدد في تؤدة،

ولا ينفصل عن تراثه، ويُعانق هموم بلاده وعالمه الإسلامي، ويفيد من إنجازات

القصيدة المعاصرة دون أن يفقد اتصاله بالشعر العربي الذي أنجزته أمته خلال

خمسة عشر قرناً، ومعظمه يقطع أي صلة بالمنجز الشعري العربي، ويهرف بما

لا يعي، ويكتب نثراً «يظنه بل يسميه! ! شعراً» ، ويعادي عقيدة الأمة، ولا

يعبأ بمقدساتها، ويعبث بكل شيء: المقدَّس، والتراث، واللغة، وجسد الأنثى!

عن هذه الظاهرة كتب الدكتور حلمي محمد القاعود في 240 صفحة من القطع

المتوسط كتابه «الورد والهالوك: شعراء السبعينيات في مصر» الذي صدر عن

دار الأرقم بالزقازيق في مصر [1] ، ويهديه: «إلى عبده بدوي: الشاعر

والإنسان» .

وقد درس في القسم الأول «شعراء الورد» : أحمد فضل شبلول، وجميل

محمود عبد الرحمن، وحسين علي محمد، وصابر عبد الدايم، وعبد الله السيد

شرف.

وقال المؤلف عن أسباب اختياره لهؤلاء الشعراء الخمسة: «اخترت الخمسة

الأوائل من شعراء الأصالة للدراسة في السِّفْر الأول من هذا المبحث، وركزت

على أبرز الظواهر في الرؤية والفن عند كل منهم، مستخلصاً في النهاية العناصر

المشتركة التي تجمع بينهم، وتمثل قاسماً مشتركاً يدخل في نسيج أشعارهم،

والخمسة الأوائل من الذين لا يعرفون أضواء العاصمة، ولا يملكون سنتيمتراً مربعاً

في صحافتها أو مجلاتها. ولا يعرفون الطريق إلى منتدياتها ومهرجاناتها، وهم في

الوقت نفسه لم يحاولوا الانتماء إلى قبيلة أدبية أو عشيرة ثقافية تتبنى إنتاجهم وتدعو

إليه» [2] .

ينطلق هؤلاء الشعراء من خلال «رؤية عامة تهتم بالقضايا الكبرى التي

تشغل الأمة والوطن، وتؤثر في مسيرته سلباً وإيجاباً. وهذه القضايا تسبق ما هو

ذاتي وشخصي لديهم بخطوات كثيرة، مما يعني انصهارهم في بوتقة الواقع

وتواصلهم معه وانتماءهم إليه. وهم في معالجتهم لهذه القضايا يرتكزون على

تصور واضح وصريح ينتمي إلى هوية الأمة الحضارية، ولا يتنكر لها، وقد رأينا

التصور الإسلامي الناضج حاضراً وساطعاً في أشعارهم مما يعني أن هذا الجيل

يملك مفاتيح الرؤية الحقيقية الناضجة التي ترفض الانسلاخ والتبعية والتبشير

بالولاء للغير، كما ترفض الغمغمة واللجلجة والدمامة الفكرية التي تعتمد على

التراث الباطني، ومضمونه التخريبي» [3] .

ويعبر هؤلاء الشعراء عن ملامح الهوية الإسلامية الكامنة في ذلك السر الذي

يقوم على الجسارة ويزايل الخوف والتردد، والذي كان في البدء وما زال ترويه

الدماء. يقول صابر عبد الدايم في قصيدة: «المسافر في سنبلات الزمن» [4] :

كنتُ وحدي والتواريخ وأمشاج الليالي

في ظلام الرَّحم الكونيِّ تنمو وتُشكَّلْ

كنتُ وحدي وبعرش اللهِ آفاق تُظلّلْ

واندلاعُ السِّرِّ من جوفيَ كان الصَّرخة الأولى

لطفل العنفوانْ

كان في البدء وما زال تروّيه الدماءْ

طالما أسقيه ذاتي وأنا سرُّ البقاءْ

راحلاً عنهُ لألقاهُ وأحيي في بواديهِ النَّماءْ

وتفتَّحْتُ بعينيْهِ زهوراً،

ونبوءاتٍ،

وأمطاراً،

وجنَّاتِ إباءْ [5]

ويقول صابر عبد الدايم في قصيدته «أسماء: الثورة، والعطاء،

والتحدي» :

أسماءْ

في لُبِّ الأغصانِ نداءْ

لم يُصغ لسيْفِ الحجّاج الغارق

في بُركان دِماءْ

لمْ تهتزَّ جذورُ الحقل أمام الإعصار الأمويِّ

المصبوغ بأشلاءِ ابن عليّ

عيناها اختزنتْ كلَّ تجارب رحلتها

لليوم الموعودْ:

عبدَ اللهْ!

لا حاكمَ إلا الله

لا تُعط السارقَ بُستانَكْ

لا تتركْ في وجهِ الإعصار الأهوج أغصانَكْ

صغْ من أوتار هداكَ رماحاً

تُفني منْ يخنقُ ألحانَكْ

واجعلْ منْ نبضِ يقينِكَ صاعقةً

تنقضُّ على من يغتال اللحظة إيمانَكْ [6]

إن صابراً يتكئ على التراث هنا ليعانق هموم الحاضر، وليكون أكثر جرأة

في تناولها.

ومن الملاحظ على شعراء الورد أنهم يمتلكون كما يقول المؤلف: «قدرة

ملحوظة على الأداء الشعري من خلال الشعر العمودي، وإن غلب على معظمهم

النظم من خلال شعر التفعيلة، ويرتفع مستوى بعضهم إلى درجة عالية، مما يؤكد

على أصالة الشعراء أولاً، ويؤكد ثانياً على قدرة الشعر العمودي حين تتوافر

الموهبة والثقافة والوعي على حمل الرؤية الشعرية المعاصرة بأبعادها المختلفة،

وعناصرها المتعددة» [7] .

ودرس في القسم الثاني «شعراء الهالوك» الذين يمثلون كما يقول المؤلف:

«حالة من الادعاء والاستعلاء والعدوان في الواقع الشعري والاجتماعي المعاصر؛

فهم كالهالوك متسلقون، لا يملكون قدرة على العطاء ولا المنح؛ لأنهم عالة على

عناصر وأدوات وظروف غير شعرية بالمرة جعلت لحركتهم ضجيجاً يصم الآذان،

وما يقولونه عبر الآلة الإعلامية الرسمية لا قيمة له؛ حيث هو ثرثرة عقيم؛ لا

تبشر بأي جديد، ولا تعطي إضافة مفيدة» [8] ، ومن هؤلاء (الشعراء) : حسن

طلب، وأمجد ريان، ومحمد فريد أبو سعدة، وأحمد زرزور، وجمال

القصاص، ومحمد بدوي.

يقول أحدهم:

الأرض إمكانية واحدة

أنت تمر فوقها

كالغيم

من مصطبة

إلى مصطبة

تجلس في أروقة الشيوخ

تشهد الأطفال يكبرون

لكي تخط في حلوقهم

مشروعك الدائم

أن يحرروا جسومهم

بالموت

والمكوث فوقها

هذا الشاعر المليء

بالصفائح الفارغة

بالمنازل الفارغة

الصبيان

والبنات

والمعلمين

الكتل البيضاء من عظام الجد

والغاليوم

كافة المهدئات [9]

إنه كلام بلا معنى، لا يقول شيئاً.

ويقول آخر في نموذج سماه: «فهرس» (مع ملاحظة أنه لا توجد أخطاء

مطبعية) :

تقف البدائيات قرب سفائن الشحن المرام

أتى الصدام بالمرتجى يا بنت

دست رأسها جنب الحقائق

وهي تغلب فكرة رفت على شفة المؤرخ

كان رأس الصقر متسقاً مع العنق المُنَزَّل

صار جمر الكاشفات خبيئهن محركاً للموريات

وجلد بنتي مرهفاً بالكهرمان

أنا وأنت مؤيدان بمحنة

من صنع باب النصر [10]

ويقول آخر مجسداً الله (بأنه يجلس في الكعبة، ويوزع الخبز، ويمسح دموع

المنكسرين! !) في قصيدة بعنوان: «باب مكة» (محاكياً تصورات امرأة

تكرونية كما يتخيل! !) :

وتهمس في أذنيها الأمواجُ:

هناك بمكة بئر الله

وحجر الله

وأن الله هناك

يجلس وسط ملائكة سوداء

يوزع بين المقهورين الخبز

ويمسح بالجلباب دموع المنكسرين [11]

وفي قصيدة أخرى يقول عبد المنعم رمضان، وهو كما يقول المؤلف:

«يعبث بالذات الإلهية بطريقة لا تحتمل التأويل أو الدفاع عنها» ، يقول:

سمعت صرخة

عرفت أن الله كان ها هنا

وإنني بإذنه

أنحل كالغمام

إنني بإذنه أسرق بعض الريش

«فهو يتعامل مع الذات الإلهية كما يتعامل مع رفاقه الذين يأتون ويذهبون،

ثم يسخر من الله تعالى الله عما يقول علواً كبيراً حين يجعل من إرادته ومشيئته

وإذنه وسيلة لينحل، أو يسرق» [12] .

ويشير الدكتور حامد أبو أحمد إلى نص آخر للمذكور يقول فيه:

وهأنذا واقف كالإله المريض [13]

ويعلق عليه قائلاً: «إن هذا الكلام متهافت، ومعنى ملفق، والفرق بين

التعبيرين واضح، والبون بينهما شاسع؛ فعندما يشبه الشاعر نفسه هنا بأنه واقف

كالإله المريض، أو واقف كالإله يكون في مجال التعميم، ولعله يشبه نفسه بآلهة

الأساطير أو آلهة الوثنية، ولكنه عندما يحدد اللفظ بكلمة (الله) ندخل من مجال

التعميم إلى التخصيص، وتصبح المسألة كلها تلفيقاً لا معنى له، وخيالاً مريضاً،

وعنجهية كاذبة، خاصة إذا كانت القصيدة في حد ذاتها متهافتة لا قيمة لها» [14] .

«وأشد المتعاطفين معهم، وعرَّابهم أحمد عبد المعطي حجازي يقول في

كلمة عنهم كما ينقل القاعود عنه:» التعمية المجانية وتكلف الإبهام، وإعفاء النفس

من معرفة اللغة واحترام القارئ، وطلب الرضا من خارج الحدود نوع من الرفض

الذي يعدُّ انتحاراً، وليس الرفض الذي يعد نوعاً من النبل « [15] .

ويقول نزار قباني عن واقع القصيدة العربية التي صارت إليه على أيدي

أمثال هؤلاء:» إن القصيدة الجديدة تنتقل بتذاكر مرور مؤقتة، بعضها صالح،

وبعضها انتهت مدة خدمته، بعضها إنجليزي، وبعضها فرنسي، وبعضها مزدوج

الشخصية. وما لم تعثر القصيدة على جوازها العربي المناسب، فإن تشردها

سيطول « [16] .

ويقول عن فهم أمثالهم المغلوط للتجديد في كتابه» الكتابة عمل انقلابي «:

» إن الحرية الشعرية هي أخطر أنواع الحريات ولا سيما عندما تُعطى لمجموعة

من المجانين لم تكتمل أضراس العقل لديهم بعد، ولا يُفرقون بين الألف وعمود

التليفون، وبين الشاعر عمر بن أبي ربيعة والممثل عمر الشريف، وإنه لمن

المفارقة أن تكون كل الثورات الثقافية في العالم قد قامت على أكتاف المثقفين

والجامعيين، باستثناء الثورة الثقافية العربية التي يُراد لها أن تقوم على أكتاف

الفوضويين، والمشاغبين، وأنصاف الأميين « [17] .

بقي أن تعرف أن» الهالوك «نبات متسلق ينبت في شمال الدلتا بمصر،

لكن لا جذور له، فمن السهل اقتلاعه وتنظيف الأرض من شروره.

نحن لا نريد اجتثاث الآخر الهالوكي، بل نريد التبصير بخطره على الشعر

وعلى اللغة. وفي هذا السياق يأتي كتاب الدكتور حلمي محمد القاعود بعد خمسة

أشهر من كتابه:» الحداثة تعود «؛ ليؤكد أن الساحة ليست خلواً لنقاد الحداثة

وشعرائها، وأن النقاد المنتمين لهذه الأمة لديهم البصر والبصيرة ليبشروا بما يمكث

في الأرض، ويشيروا إلى الزبد والغثاء، ويُدلوا بشهاداتهم في هذا الزمان الأنكد

الذي استولى فيه الحداثيون والعلمانيون على مقاليد النشر؛ لكنهم لحسن الحظ لم

يتملكوا مقاليد الإبداع والنقد والتواصل مع روح هذه الأمة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015