في دائرة الضوء
د. زيد بن محمد الرماني
استحوذت العولمة على أوسع اهتمام في أدبيات العالم العربي الاقتصادية
والثقافية والسياسية والتربوية والإعلامية والتقنية، وسيتضاعف هذا الاهتمام في
القرن الحادي والعشرين الذي ستصبح العولمة من أبرز مظاهره، والأكثر تأثيراً
على صياغة ملامحه وقسماته وتضاريسه.
إن العولمة التي أصبحت لغة دارجة في الأدبيات المعاصرة ما زالت تعاني
من بعض الغموض؛ فهناك غموض فيما يتعلق بمعنى العولمة وبحقيقتها: فهل هي
ظاهرة حياتية جديدة، أم مجرد موضة فكرية طارئة مصيرها للزوال؟ وهل هي
حركة تاريخية ستستمر في النمو، أم هي فقاعة من الفقاعات التي ولدت لتموت؟!
وهناك غموض فيما يتعلق بنتائج العولمة ومترتباتها بالنسبة للواقع العربي؛
فهل العولمة حالة صحية، أم مرضية؟ وهل هي حركة استعمارية، أم تحريرية؟
هل ستصب في سياق الاستقلال والذاتية، أم التبعية والاستتباع؟ !
ثم هل المطلوب منا الانغماس فيها، أم الانكماش عنها؟ هل ستحتوينا، أم
سنحتويها؟ هل ستزيدنا تقدماً أم ستضاعف تأخرنا؟ ! !
إن مؤلفات: مثل كتاب: «نهاية التاريخ» لفوكاياما، وكتاب: «صراع
الحضارات» لهنتنجتون وكتاب: «صعود وهبوط الإمبراطوريات» لبول كيندي،
وكتاب: «الموجة التالية» لتوفلر، وكتب أخرى من تلك التي برزت خلال
السنوات الأخيرة، تأتي ضمن سياق المشروع الفكري في الدول المتقدمة لفهم
العولمة والكوكبية الاقتصادية، باستكشاف آفاقها وفرصها وتحدياتها ومساراتها
المستقبلية.
يقول د. محيي محمد مسعد في كتابه: «ظاهرة العولمة: الأوهام
والحقائق» [1] : إن الكتابات السابقة تشكل درجات عالية من الوعي بالعولمة
(اللحظة الحضارية القائمة) .
لقد كان ملفتاً للمتأمل ما تعرضت له العولمة من نقد صارم وعنيف برهن على
تخوفات حقيقية؛ فالأمم والحضارات ليست على استعداد للاستتباع الحضاري لتيار
العولمة الجارف، وما أطلقته من أحلام وردية ووعود سحرية تخفي وراءها
أضراراً خطيرة، كالتي حاول أن يصورها كتاب «العولمة والجنوب» [2]
لكرولين طوماس وبيتر ولكين، الذي اعتبر العولمة آلية لتكريس الفوارق بين
الشمال المتخم بالغنى والجنوب الذي يعاني من الفقر المدقع.
أو التي صورها كتاب «العولمة: النظرية والممارسة» [3] لمؤلفيه: إلينور
كوفمن وجيليان ينغز؛ حيث اعتبر أن ظاهرة العولمة قد دشَّنت عهداً فظاً من
العدوان على البيئة، كان من مظاهرها انتشار التلوث وتآكل طبقة الأوزون،
وانكماش التنوع الأحيائي، والهدر في مصادر الطاقة.
أو الذي تحدثت عنه فيفيان فورستر في كتابها: «الرعب الاقتصادي» [4]
حيث عرضت السؤال الآتي: ما الذي يحصل عندما نعلم أنه ليس ثمة أزمات، بل
مجرد تبدل وتحول يقودان مجتمعاً بأكمله، بل وحتى حضارة بأجمعها إلى
المجهول؟ !
وقد انتقد هذه الأصوات الغاضبة آلان ميك في كتابه: «العولمة
السعيدة» [5] الذي حاول أن يقدم العولمة على أنها ليست شراً أو خيراً في ذاتها،
ولا داعي للإفراط في وصفها بالوحشية أو الفتك والرعب ونشر الأجواء المفزعة
حولها.
ومن ثم فإن البشرية بحاجة إلى تكوين وعي عالمي له خاصية الاتصال
والتواصل على الأصعدة والمستويات المختلفة، لمواجهة المخاطر والتحديات التي
يتأثر فيها العالم كله، مثل: ظاهرة العولمة ومشكلات البيئة والتلوث، والاحتباس
الحراري، وقضايا الصحة والسكان والفقر والمجاعة ونقص الغذاء والمياه.
يقول زكي الميلاد في كتابه: «المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلنا في
عالم متغير؟» [6] : إن المشكلة الحقيقية ليست في العولمة، وإنما جذر المشكلة
في تباين مستويات التطور الحضاري في العالم، الذي يجعل من الغرب الطرف
المستفيد من هذه العولمة، باعتباره أنجز مشروعه في التقدم.
والمشكلة مع الغرب أنه حوَّل مشروعه في التقدم إلى تكريس التبعية وضبط
آليات السيطرة على العالم.
فالمواجهة الحقيقية للعولمة هي عن طريق الإنماء والبناء وإنجاز مشروعات
التقدم والعمران.
يذهب صادق جلال العظم في مقالة له بعنوان: «ما هي العولمة؟» [7] إلى
أن العولمة هي عقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول
المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير
المتكافئ.
ويشير محمد عابد الجابري في مقالة له بعنوان: «العولمة والهوية
الثقافية» [8] إلى أن العولمة هي ما بعد الاستعمار، وأنها مجرد آلية من آليات
التطور الرأسمالي يعكس إرادة الهيمنة على العالم.
وفي مقالته: «أصل العولمة وفصلها» [9] يقول جورج طرابيشي: إن
مفهوم العولمة لم يعرف الاستقرار بعد، وتبقى العولمة هي الظاهرة التاريخية لنهاية
القرن العشرين أو لبداية القرن الحادي والعشرين.
هذه العولمة، إذن، إنما تخدم مصالح وأفكار الطرف القوي في العالم،
وتطمس الأطراف الأخرى، وهي ليست العولمة التي يحتاجها العالم في هذه
المرحلة، أو التي يتطلع إليها مع القرن الحادي والعشرين.
فهذه العولمة التي عبر عنها الغرب ترتكز على الانتفاع المادي والجشع
الاقتصادي واحتكار الثروات ورفع القيود عن الأسواق والبضائع وامتصاص
الأموال، وهذه الأمور هي من أكثر العوامل سبباً وتحريضاً على النزاع والصدام
والصراع.
إن عولمة الغرب اقتصادية في الأساس تتوخى الربح والنفع المادي؛ والأبعاد
والحقول الأخرى التي ارتبطت بها كالثقافة والاجتماع والتربية والإعلام وغيرها
إنما وظفت لذات الغاية الاقتصادية النفعية.
إن الخوف الحقيقي على هويات العالم وثقافاته من اكتساح العولمة الغربية
وفرض الاتجاه الواحد جاء نتيجة وجود الضعف والضمور في بنية بعض تلك
الهويات والثقافات وتكويناتها، مما يستدعي ضرورة التجديد الداخلي لمزيد من
الحماية والمناعة والتحصين [10] .
ومن ثم، فإن العولمة التي يحتاج إليها العالم هي العولمة التي يشترك الجميع
في صنعها وصياغتها لا أن ينفرد طرف واحد بها ويسخِّرها لصالح امتيازاته،
ووفق فلسفته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كانت العولمة قد قوبلت في العالم باعتراضات شديدة وانتقادات قاسية،
فلأنها تخدم طرفاً واحداً، وتعبِّر عن رؤية هذا الطرف وهو الغرب.
إن العولمة تضع أمام المفكرين المسلمين سؤال المستقبل عن المشروع
الحضاري الإسلامي المعاصر الذي تجد فيه الأمم والحضارات خياراً واتجاهاً مقنعاً
وفعالاً ومختلفاً عن الخيار والاتجاه الذي يفرضه الغرب على العالم.
والمستقبل ليس مفتوحاً على الغرب فحسب، بل هو مفتوح على كل الثقافات
والأمم والحضارات وبحاجة إلى اكتشاف جديد في زمن زحف العولمة.
إن الأدبيات الإسلامية والعربية في هذا الوقت مطالبة وبإلحاح لتكثيف الحوار
والمناقشة والتباحث حول المشروع الحضاري الإسلامي، والآلية الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية والإعلامية والفكرية التي تتناسب مع إمكانات وقدرات كل
دولة.
وأخيراً، فإن العولمة تستدعي من الأمم والحضارات أن تجدد نظرتها إلى
العالم وتعيد تقويمها حضارياً فهل ستكون العولمة آخر مطافات الغرب؟ أم أنها
ستكون قاعدة انبعاث الحضارات الأخرى؟
هذا يعني أن للعولمة أسئلتها الصامتة والمتجددة، وأنها ستفتح أكثر من
احتمال على العالم والمستقبل.
ورغم ما سبق، فإنه سوف يستمر الجدل الذي يختلط فيه المعقول باللامعقول،
والحقائق بالأوهام، والوقائع بالافتراضات، والموافق والمخالف، في قضية
العولمة! !