المسلمون والعالم
إبراهيم بن محمد الحقيل
«عزيزي الشاب: ليكن عندك طموح لتصبح قديساً كما أن عيسى قديس.
ياشباب العالم في كل قارة: لا تخشَوْا أن تصبحوا قديسي هذه الألفية؛ لعل المسيح
يصبح لكم رصيداً ثميناً، ولعل مريم العذراء القديسة تعطيكم القوة والحكمة
لتستطيعوا التحدث مع الإله وللإله» .
كان هذا نداء بابا الفاتيكان «يوحنا بولس الثاني» وقد وضع هذا النداء في
إطار ومُيّز بخط واضح ضمن نشرة تعريفية بالتجمع العالمي للشباب الذي دعا إليه
البابا، وقد طبعت هذه النشرة التعريفية بست لغات في كتيب صغير وهي:
الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية، ووزعت منه
ملايين النسخ في روما والفاتيكان خاصة على كل الزوار والسيًّاح.
واللافت للنظر صورة في آخر كل صفحة من اللغات الست المذكورة وفيها
رجل ذو لحية وعليه لباس عربي جبة وعمامة وقد فتح يديه مستقبلاً شخصاً قادماً
من بعيد يتوكأ على عصا كأن زيه زي راهب والشمس قد أشرقت من جهته. ولعل
هذه الصورة تومي إلى حاجة الشرق الإسلامي إلى التنصير أو ترحيبه بالرسالة
التي يحملها الرهبان، ولم يذكر عليها أيُّ تعليق، وأغلب الظن أنها رسالة إلى
هؤلاء الشباب للانخراط في أعمال الكنائس وممارسة التنصير لا سيما أن نداء البابا
آنف الذكر واضح في دعوة هؤلاء الشباب المغرر بهم لأن يكونوا منصرين.
والتنصير هدف رئيس يسعى إليه الفاتيكان وباباه بكل قوة، ويسخِّرون في سبيل
نجاحه كل وسيلة، وما فتئ البابا يهتبل كل فرصة للدعوة إليه والتأكيد عليه،
منطلقاً في ذلك من نص ورد في إنجيل متى (28/19) يقول: «فاذهبوا وتلمذوا
جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس» .
اسم التجمع ووقته ومدته:
سمي هذا التجمع الشبابي بـ «اليوم العالمي للشباب» وصادف
الـ (Givbileo) أي: العيد الخمسيني أو (اليوبيل) وهو يعني الفرحة
الكبرى بالغفران أو الصفح أو العفو البابوي الذي يمنحه البابا كل نصف قرن؛ مما
جعلهم يطلقون عليه أيضاً «يوبيل الألفية الثالثة للميلاد» .
وأما مدته الرسمية فخمسة أيام (15 - 20 أغسطس 2000م) ، واهتمت
الكنيسة به، وسخرت كل إمكاناتها لنجاحه والدعاية له؛ لأنه صادف بداية الألفية
الثالثة؛ التي جعل النصارى الاحتفال بها ممتداً من أول السنة إلى آخرها، وقسّمَ
البابا أعيادها وأيام الاحتفال بها على مختلف الفئات النصرانية؛ فمنها أيام للعمال،
وأيام للمعاقين، وأيام للسجناء، وأيام للأطفال، وأيام للشباب ... وهكذا، ومنها
يوبيل الشباب هذا.
وتم هذا التجمع الضخم في موعده المحدد؛ إذ حضرته جموع غفيرة من
شباب النصارى الذكور والإناث زادوا على مليوني شاب وشابة قدموا من ستين
ومائة بلدٍ من مختلف القارات السبع حسبما أذيع رسمياً في أجهزة الإعلام الإيطالية
والصحف؛ حتى ازدحمت روما في هذه الأيام الخمسة بالشباب والشابات، وخلت
من أهلها الذين كانوا يقضون إجازة نصف الصيف في أطراف إيطاليا وخارجها.
واستعدت له الفاتيكان والأجهزة الحكومية وبلدية روما بما يناسب حجمه،
ووفرت ما يحتاجه الزوار؛ فبيوت قضاءِ الحاجة المتنقلة قد صُفت على الأرصفة،
ومراكز الإسعاف المؤقتة أقيمت في جنبات ساحة الفاتيكان وكافة الكنائس،
وسيارات الإسعاف تقوم بدورياتها لنقل المصابين من الزحام أو حرارة الشمس التي
بلغت 37 درجة مئوية.
وقد أعد الفاتيكان وبلدية روما المدارس والكنائس ليسكن فيها الشباب بالمجان،
ورحبت بعض الأسر بإقامة بعض الشباب عندهم، ووفر الفاتيكان للحضور
وجبات الطعام والمياه دون مقابل، وتطوع سبعون ألفاً من الشباب والشابات بالقيام
على التنظيم وحركة السير وتوزيع المنشورات وتقديم الإرشادات للزوار إضافة إلى
ما تقوم به أجهزة الأمن في روما.
الصبغة العالمية لهذا التجمع:
أراد بابا الفاتيكان لهذا اليوبيل الشبابي النصراني أن يكون عالمياً؛ ولذلك
نص في ندائه على: «شباب العالم في كل القارات» وحثهم على التنصير كما مرّ
ذكره وكأنه لا يوجد في العالم إلا شباب النصارى.
وزاد ذلك وضوحاً أن أعلام جميع الدول قد رُفعت في ساحة الفاتيكان أثناء
هذا اليوبيل مع أن دولاً عدة ليس من مواطنيها نصارى البتة، وهذا التعميم له
دلالات لعل منها:
1 - إضفاء الصبغة العالمية على الفاتيكان ونشاطاته، واعتبارها مهمة لكل
الدول ولكل سكان الأرض، وسيأتي مزيد إيضاح ذلك في ذكر أهداف مثل هذه
التجمعات.
2 - الإيماء إلى أن كل بلد في العالم لا بد أن يكون فيه مواطنون نصارى،
وإذا لم يكن فيه نصارى في حقيقة الأمر فلا بد أن يوجدوا، وهذا ما تدل عليه
إحصائياتهم التابعة للمنظمات الدولية أو المؤسسات الغربية التي تتعمد إنقاص نسبة
المسلمين عن النسبة الحقيقية في الدول التي فيها مسلمون وغير مسلمين، كما تتعمد
رفض وجود دولة ليس فيها إلا مسلمون وغير مسلمين، كما تتعمد رفض وجود
دولة ليس فيها إلا مسلمون أي نسبة المسلمين فيها 100%؛ فهم في إحصاءاتهم لا
بد أن يقللوا هذه النسبة 2% أو أكثر كأقلية غير مسلمة مخترعة في واقع الأمر
وذلك لأمور أهمها:
أ - تنشيط التنصير في البلاد التي ليس فيها نصارى البتة على أمل أن
يتنصر بعض أبنائها ومن ثم المطالبة بحقوقهم.
ب - إيجاد ذريعة لبناء المدارس والكنائس لهذه الأقلية التي يتم اختراعها عن
طريق التنصير، أو زرعها بالتجنيس.
ج - استخدام الأقلية غير المسلمة بعد زرعها ورقة ضغط على تلك الدولة
الإسلامية بتأليبهم على السلطات، ثم التدخل لحمايتهم تحت ذريعة حرية التعبد
وحقوق الأقليات ونحو ذلك؛ خاصة إذا فكر المسؤولون في ذلك البلد بالاستقلال
السياسي أو الاقتصادي، أو رفض وصاية الدول العظمى على بلادهم.
واستخدام ورقة الأقباط في الضغط على مصر بين حين وآخر واضح للعيان
سواء فيما يتعلق بالخنوع لإرادة اليهود الظالمة فيما يسمى بعملية السلام، أو غير
ذلك.
د - التهيئة لتجزئة الدولة الواحدة وذلك بزرع تلك الأقلية، ومن ثم دعمها في
ثورتها الانفصالية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً حتى يتم فصلها عن دولتها الأم
والاعتراف بها، ومن ثم جعلها بؤرة للتنصير وإثارة القلاقل والفتن في الدولة الأم
تحت حماية الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وحال إندونيسيا شاهد على ذلك
خاصة بعد انفصال تيمور الشرقية، وفي الطريق مناطق أخرى يريدون فصلها
عنها.
3 - قوة النصارى في هذا العصر وضعف المسلمين؛ فهم رفعوا أعلام الدول
الإسلامية في هذا التجمع دون مشورة منهم وتلك مصيبة؛ فإن كانوا شاوروهم
فالمصيبة أعظم، لا سيما أنهم رفعوا أعلام دول ليس بين مواطنيها نصارى البتة.
أهداف هذه التجمعات العالمية:
ما كان الفاتيكان لينفق هذه النفقات الباهظة إعاشة وإعالة مليوني شاب وشابة
مدة خمسة أيام إلا لتحقيق أهداف توازي حجم الخسائر التي تحملها؛ ولعل من أبرز
أهدافه هدفين مهمين يحتاجان إلى شيء من البسط والبيان:
الهدف الأول: إعادة قوة الكاثوليك، وإثبات شعبية البابا يوحنا بولس الثاني
وكنيسته على سائر الكنائس الأخرى ورهبانها وبطاركتها، وإظهار أنه الممثل
الوحيد للنصارى كلهم بل ولسائر الأديان؛ إذ هو يرى أنه أعلى زعيم ديني في
العالم.
وهذا الهدف ظاهر في نشاط البابا وقد بلغ من الكبر عتياً، ورحلاته المكوكية
إلى كثير من دول العالم كانت لتفقُّد الأقليات النصرانية ولو كانت من غير الكاثوليك،
فضلاً عن خطاباته الدينية الممزوجة بالسياسة التي تدعو إلى السلام وتحض عليه؛
على اعتبار أن الدعوة إلى السلام هي البضاعة الرائجة هذه الأيام في سوق
السياسة الذي سيطر فيه إخوان القردة على رعاة البقر وألزموهم بتبنيه وفرضه على
العالم تيمناً بخروج ملك السلام الذي ينتظره اليهود المسيح الدجال.
وتذكر الموسوعات أن البابا الحالي أكثر البابوات نشاطاً في تاريخ الكنيسة؛
فقد سافر كثيراً ورآه الناس أكثر من أي بابا سابق، وقد ساعدت الرغبة في معالجة
القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة في تاريخ الغرب النصراني في زيادة مقام
البابوية (الفاتيكان) [1] .
ولنشاط البابا السياسي والاجتماعي وتدخله في شؤون الآخرين استحق أن
يحمل ألقاباً عدة تومئ إلى أنه أعلى سلطة دينية على وجه الأرض منها: «أُسقُف
روما خليفة القديس بطرس نائب يسوع المسيح أمير الرسل الحَبْر الأعظم للكنيسة
العالمية بَطْرِيَرْك الغرب كبير أساقفة إيطاليا رئيس أساقفة المقاطعة الرومية عاهل
دولة الفاتيكان» وذلك وفقاً لما ورد في كتب الكاثوليك وموسوعاتهم [2] .
فالبابا يحاول بكل وسيلة أن يكون الممثل الوحيد لكافة النصارى في الأرض
على اختلاف مذاهبهم، بل يرمي إلى ما هو أبعد من ذلك وهو توحيد الناس على
دين واحد يكون هو الزعيم الأعلى له؛ كما حدث في الصلاة الجماعية التي أقامها
ودعا إليها في مدينة (صلى الله عليه وسلمSIS) الإيطالية وحضرها ممثلون عن شتى الملل حتى
عن المسلمين مع الأسف، ووصفته أجهزة الإعلام عقبها بأنه: بابا الأديان
كلها! ! [3] .
وهذا ما جعل بني دينه وجلدته يتهمونه بالسلطوية والتوسع كما قال أحدهم:
«إن التوسع الكاثوليكي يعد بمثابة سياسة إمبريالية دينية عالمية قامت البابوية بقيادتها
بصورة متزايدة، كما أنه يمثل موقف الكنيسة من الدول إلى جانب طموحاتها
ومصالحها والقوى التي تمتلكها البابوية في كافة البلدان، أي أن هذا التوسع يعبر
عن وجودها العالمي، ويسهم في أن يجعل منها قوة يتعين على أية سياسة أن تأخذ
ذلك في اعتبارها» [4] .
وفي الوقت الذي تقمع فيه الأجهزة العلمانية ومن ورائها الدولية أي توجهات
سياسية إسلامية ولو كانت بطرقهم الانتخابية الديمقراطية كما يزعمون فإن بابا
الفاتيكان لم يفتر عن تسييس الكنيسة، وجعل الفاتيكان ذات الأساس الديني دولة
سياسية بمنظمات عالمية: في عالم الصحافة والإعلام، وفي التنظيمات الشبابية
شباب بلا حدود والتنظيمات النقابية العمالية الحركة العمالية للعمال المسيحيين ثم
دخوله في الاتفاقات السياسية والحركات التحررية.
ولم نسمع الغربان العلمانية الناعقة بمكافحة الإرهاب والمنادية بفصل الدين
عن الدولة تتهمه بتسييس الدين وأدلجته، واتخاذه ستاراً لأنشطة سياسية؛ فتلك
التهم خاصة بمن يدين بالإسلام فقط! !
الهدف الثاني: محاولة إرجاع الناس خاصة الشباب إلى الكنائس بعد عزوفهم
عنها بسبب العلمانية.
أرادت الكنيسة بهذا التجمع وأمثاله أن تثبت وجودها، وتشد الانتباه إليها.
أرادت أن تقول لبني دينها العلمانيين: إنني موجودة، والحل عندي.
وذلك بعد الضياع الذي وصلت إليه الأمم الغربية اللادينية، وكان للكنيسة
دور في ذلك بما مارسته من ضغوط جعلت الشعوب الغربية تثور عليها وترفض
مرجعيتها وتلغي تعاليمها، وتتخذ بديلاً عنها الإلحاد والحرية البهيمية المطلقة.
ولهذا كان البابا وهو يخاطب الشباب يدعوهم إلى الكنيسة ويعتذر بصراحة
عن أخطائها السابقة، ويطلب السماح والعفو.
إن الغرب المتقدم في كافة المجالات المادية والترفيهية يبحث عن شيء فقده
كلياً، ولا يدري ما هو هذا الشيء المفقود، ولا كيفية الوصول إليه والحصول عليه!
ذلكم هو الأساس العقائدي، والميزان الأخلاقي.
إنهم نصارى وفي الوقت ذاته لا يدينون بالنصرانية، تسأل أكثرهم: هل
تؤمن؟ ! فيجيبك: نعم أؤمن بالله؛ ولكني لا أؤمن بالكنيسة.
يقول: أؤمن بالقوة العظمى التي كانت وراء خلق هذا الكون وتدبيره ولكني لا
أؤمن بالأديان. لقد فقد الثقة بالكنيسة ورهبانها بما مارسوه عبر تاريخها الطويل من
عنف وإرهاب، وبما يمارسونه في هذه الأزمان من دجل وأكاذيب لا يمكن لعقل
سوي أو نصف سوي أن يقبلها.
إنه صراع يجده الغربي المسكين بين نداء الفطرة التي يولد عليها كل إنسان،
وبين ما يتوارثه ويتربى عليه ويواجهه من إلحاد صارخ ومادية بغيضة وحرية
مطلقة.
ترى الفرد الغربي يتطور في نظرته للكون والإنسان إثبات وجود الخالق
سبحانه ولما يجب أن يكون عليه العالم من الإيمان بالله تعالى ومحبته؛ ولكن هذه
النظرة مبتورة عن أصل الإنسان وسرِّ سعادته الكامن في تشرفه بالعبودية لله تعالى
خالق الكون ومدبره وسلوك الطريق التي توصل إليه باتباع رسله عليهم الصلاة
والسلام وتلك حقيقة ظاهرة في أولئك الشباب الذين قدموا من كل مكان علَّهم يجدون
ما يملأ هذا الفراغ الذي تعاني منه قلوبهم، ولم تغن عنه الحياة المادية والرفاهية
التي يعيشونها، والكنيسة تراهن على ملء هذا الفراغ القلبي لدى الشباب متى ما
ترددوا عليها وأخذوا تعاليم الرهبان ووصاياهم.
لقد كان البابا في خطابه للشباب يحاول إقناعهم بالعودة إلى الله تعالى وأنه
قريب منهم، ومهتم بأمرهم وهذا ظاهر في قوله لهم: «أيها الشباب: إلهنا هو الله
الذي يدعونا ويتحدث إلينا، وأنت حقيقة موجود عندما تكتشف أنه يتحدث إليك،
ولديك القدرة أن تتجاوب معه ... ماذا تقول عندئذ عن حياة شاب مسيحي لا يتحدث
إليه الإله إطلاقاً، إنها حياة لا يعني فيها الإله شيئاً ... الإله يكشف نفسه بالتحدث
إليك ويقول لك:» إن الإنسان مهم له. وهو يجعل حياتنا معه قائلاً: أنا سوف
أكون معكم حتى نهاية الزمان «.
وكثيراً ما أكد في حديثه إليهم ذلك، وذكَّرهم بيسوع ورحمته بهم وشفقته
عليهم، وحبه لهم.
إن الكنيسة مستميتة في محاولة إقناع الشعوب النصرانية بالعودة إليها خاصة
فئات الشباب التي يُنذر ضياعها العقيدي، وفسادها الأخلاقي بعواقب وخيمة على
الغرب وحضارته المادية. ولا أدل على تلك الاستماتة والحرص من الشعار
المختار لهذا اليوبيل الشبابي العالمي الذي كان شعاره:» الإيمان صعب ولكنه
ممكن «.
وواضح في الشعار تلمسه للجرح النازف وتحسسه للأزمة التي يعاني منها كل
مادي ملحد، وقد روعي فيه نفسية الشباب المتسمة بالتحدي ومحبة المغامرات
والإقدام بقصد دفعها إلى الإيمان والعودة إلى الكنيسة وترك الملذات التي أسرت
الشباب الغربي واستعبدته وحولته من إنسان عاقل إلى حيوان شهواني.
إن الشباب ما حضروا إلى ذلك التجمع إلا للبحث عما يقنعهم بدينهم، ويسعد
قلوبهم التي تعيش شقاءاً سببه البعد عن الله تعالى وعن دينه الذي ارتضاه لعباده
الإسلام والمقابلات التي أجريت مع بعضهم دالة على ذلك، فقد سئل أحد الشباب:
لماذا تحضرون، وماذا تريدون؟ فقال: نريد الجنة. فهو يفكر فيما بعد الموت
رغم أنه يعيش عيشة مادية في بيئة مادية لا تعترف إلا بالدنيا؛ لكنه يعود إلى
فطرته أحياناً فيظل يبحث عن سبل نجاته وأسباب سعادته الأبدية؛ فربما وجدها
فأسلم، وربما أضلته الكنيسة فمات على كفره.
وعرض التلفزيون الإيطالي لقاءاً مع شاب فسأله المذيع: لماذا حضرت إلى
هذا اليوبيل؟ فقال الشاب: لأن البابا دعانا.
قال المذيع: ومن هو البابا، أو ماذا تعرف عنه؟
قال الشاب: هو خليفة عيسى وأرى فيه عيسى.
والبابا يصرح دائماً أنه خليفة الإله.
وواضح من هذا الحوار أن قصد حضور الشاب كان دينياً، ويريد اتباع
الأنبياء وأخذ تعاليمهم، ويظن أن البابا يدله على هذا الطريق.
ويؤكد تلك الحقيقة أن الشباب كانوا متحمسين للقاء البابا وسعداء بحديثه إليهم؛
فهم يصغون إلى كلماته ومواعظه، ومنهم من كان يدونها بقلمه، وكأنه يحس
بحاجته إلى ذلك لعله يجد في مواعظه ما يملأ فراغ قلبه، ويروي ظمأه.
لقد كان الشباب يصفقون للبابا بحرارة شديدة، ويهتفون بحياته، فهم يرونه
الوحيد القادر على الأخذ بأيديهم إلى بر الأمان وموطن السعادة في غابة الغرب
المادية الموحشة، ويظنون أنه الدليل الذي سيربطهم بخالقهم ورازقهم.
والسؤال الذي ينبغي طرحه: هل سينجح البابا في توفير ما يطلبون،
وتعويضهم عما يفقدون؟
كلا؛ لأن ما يدعوهم إليه محرف، ويزداد تحريفاً يوماً بعد يوم. وما لم
يحرف منه فمنسوخ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والخطأ - كالمادية مثلاً - لا يصحح بالخطأ المتمثل بالدين المحرف،
والجرح لا يعالج بفتقه دون رتقه، وكم من كافر تنقل بين ملل شتى منها المحرف
ومنها المخترع فما وجد ضالته إلا في الإسلام الذي من ذاق حلاوته فلن يبتغي عنه
بديلاً.
فيا ليت شعري! من يدل هؤلاء الشباب الضالين على الطريق الصحيحة،
ومن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذ بأيديهم من الشقاء إلى السعادة؟ ثم إن
الكنيسة لم تعد تبيّن الحرام من الحلال ولو في دينهم المحرف وإنما اكتفى رهبانها
بالدعاية إلى كنائسهم عن الدعوة إلى دينهم [5] ، وبالمواعظ البسيطة التي تحث على
الاتصاف بمكارم الأخلاق ولا تلزم بذلك ولو من جهة بيان الثواب والعقاب. وكان
من ثمرة ذلك أن شبابهم بل كبارهم ليس عندهم معايير للحرام والحلال ولو على
وفق دينهم المحرف، ولا أدل على ذلك من مقابلة أجراها التلفزيون الإيطالي مع
مجموعة منهم قدمت لهذا اليوبيل فطرح المذيع عليهم هذا السؤال:
ما هو الحرام حسب رأيكم؟
فلم يعط أي واحد منهم جواباً ينطلق من أساس ديني سواء أكان صحيحاً
الإسلام أم محرفاً كالنصرانية مثلاً ولا ذكر واحد منهم أن المحرم ما حرمه الله تعالى،
أو ما أخبر عيسى عليه السلام أنه حرام أو ما قال البابا أو الراهب: إنه حرام.
بل كانت إجاباتهم لا تعدو عن كونها وجهات نظر حسب الأهواء والأمزجة، وتلك
هي عبادة الهوى الذي سماه الله إلهاً في قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]
(الجاثية: 23) .
ولذا فإن أحد الصحفيين المشاهير لما سئل على شاشة التلفزيون عن رأيه في
يوبيل الشباب هذا قال: إن الشباب يريد أن يعود إلى الكنيسة؛ ولكنه في سلوكياته
لا يتبع تعاليمها، فهو يمارس الجنس بشكل طبيعي وعادي، والمعيار عنده هو
الحاجة اليومية التي تتطلبها منه الحياة المدنية الحديثة وليس ما يصدر من الكنيسة.
ودين ليس فيه حرام ولا له حدود ليس بدين، ولا يمكن أن يحقق السعادة التي
يطلبها من دانوا به؛ لأن الإنسان مفطور على العبودية ولا بد له من آمر وناهٍ؛
فخيرٌ له أن يكون عبداً لمن يستحق العبودية ويتلقى منه الأوامر والنواهي وهو الله
تعالى وإلا كان عبداً لمن لا يستحق العبودية كالشيطان والهوى والبابا وغيره من
البشر.
تنازلات الكنيسة:
رغم الجهود الجبارة التي يقوم بها البابا وكنيسته الكاثوليكية وسائر الكنائس
الأرثوذكسية والبروتستانتية؛ فإن الكنيسة عجزت عن إقناع النصارى بالرجوع
إليها، وضبط شهواتهم على وفق تعليماتها؛ فما كان منها إلا أن تنزلت إلى
متطلبات الناس، ووافقتهم فيما يريدون لإرضائهم وكسب اعترافهم بها ولجوئهم
إليها.
وهكذا كل دين محرف لا يمكن أن يصمد أمام المتغيرات؛ فلا بد من تحديثه
وتجديده وتحريفه كلما استجد زمن، أو تغير مكان، أو طرأت طوارئ، وهكذا كان
حال الرهبان مع دين النصرانية المحرف يزيدونه تحريفاً كلما دارت عجلة الزمن،
وليس المقام مقام تتبع وتأريخ واستقراء. وفي التاريخ القريب وذلك عام 1962م
افتُتح مجمع الفاتيكان الثاني ليبحث في تجديد العقيدة والحياة الدينية الكاثوليكية
وتحديثها؛ لجذب الناس إلى الكنيسة [6] .
ولم يكن متعصبة الكاثوليك راضين عن التمييع والتنازلات التي يقدمها
باباوات الفاتيكان وخاصة الأخير منهم» يوحنا بولس الثاني «الذي أثارت تنازلاته
مع العلمانيين أسقف الكنائس السويسرية (لوفبر) فخطب في سبعة آلاف من أتباع
كنيسته متهماً بابا الفاتيكان بالعداوة للمسيح عليه السلام وعنّفه حتى قال:» إن
رئيس الكنيسة الكاثوليكية ولم يسمه البابا يقف الآن في صف أعداء المسيح وهذا
عار شنيع ... ولهذا نرى لزاماً علينا تحمل المسؤولية لإيقاف هذا الانهيار باسم
الحداثة أو تحديث الكنيسة الكاثوليكية التي وصلت إلى حد الإفراغ والتآكل تحت
شعار الإصلاح الدستوري « [7] .
ومن مظاهر التمييع والتنازلات الكنيسية في هذا اليوبيل الشبابي ما يلي:
1 - لم يذكر البابا في خطاباته للشباب حرمة الممارسات الجنسية المحرمة في
دين النصارى التي غرق في مستنقعاتها الآسنة أكثر شباب الغرب وشاباته كالزنا
واللواط والسحاق وسائر أنواع الشذوذ، مع مسيس الحاجة إلى ذلك؛ لكونها ظاهرة
آثمة بين الشباب سببت الأمراض والطواعين والأوجاع والتفكك الأسري،
والمفترض أنه داعية إصلاح، والمقام مقام توجيه وإرشاد؛ لكنه لم يرد إثارة
حفيظتهم والحدّ من حرياتهم الآثمة ومخالفة أهوائهم لكيلا يعزفوا عنه وعن تجمعاته
وكنيسته.
2 - الكنائس أماكن عبادة النصارى، والمفترض في أماكن العبادة أن تكون
محترمة معظمة عند أهلها مصونة من التبذل؛ ولذا كان الرهبان إلى وقت قريب
يمنعون المرأة المتهتكة في لباسها من دخول الكنيسة، وبعض الكنائس توفر جلابيب
تعلق بقرب الكنيسة تلبسها من أرادت الدخول ولباسها غير لائق، وكانت اللافتات
التي تنبه على منع المتهتكة من دخول الكنيسة تعلق على أبوابها، ثم مع مرور
الزمن بدأت تختفي الجلابيب وتزال اللافتات ليسمح للمرأة بدخول الكنيسة للتعبد أو
للفرجة على أي شكل.
وفي يوبيل الشباب هذا كانت الفتيات يملأن ساحة الفاتيكان وكنيسة القديس
بطرس [8] وهن نصف عاريات. ولم يعد للكنيسة قدسيتها عند النصارى؛ إذ إن
مقدمات الزنا من التقبيل والضم تمارس أمام الرهبان داخل كنيسة بطرس في قلب
الفاتيكان، وتحت التصاوير والتماثيل المقدسة التي وضعوها لمريم وعيسى عليهما
السلام ولمشاهير القديسين.
3 - سمح البابا والرهبان بنصب منصات قرب الكنائس الكبرى ليرقص
عليها الشباب من الجنسين في هذا اليوبيل على أنغام الموسيقى الغربية الصاخبة،
وبعضها يتم بحضور أرباب الكنائس وإشرافهم؛ وذلك كل ليلة.
4 - كان من المناظر المخجلة والمزرية بالرهبان في هذا اليوبيل الشبابي أن
ترى الراهب وقد لبس الرداء الكهنوتي، وأثقل رقبته بالصلبان المقدسة عنده جالساً
بجانب فتاة نصف عارية في حديقة الكنيسة لتعترف له بذنوبها، ولا يدري من
يراهما: هل الحاجة لها أن تنفس عن نفسها بالاعتراف بخطاياها، أم أن الحاجة
للراهب يشبع غريزة فطرية حرمتها عليه الكنيسة وقد أباحها الله له بالزواج؟
وكان من آخر تقليعات الكنيسة الكاثوليكية تكليف الرهبان بالخروج إلى
المراقص يرقصون مع المخمورين والعاريات بقصد جذبهم إلى الكنيسة، ولإثبات
أن الكنيسة تتفهم متطلبات رعاياها، ولا تعارض حاجاتهم ولو كانت هدماً لدينهم؛
فأي دين هذا يا ترى؟ !
بين الإسلام والنصرانية:
بان بما سبق عرضه أن الكنيسة تنازلت مضطرة عن مبادئها المحرفة حتى
وصلت إلى هذا الحد المخجل الذي قد يستحي منه بعض العلمانيين، واتضح بذلك
أن الدين المحرف لا يمكن أن يصمد أمام المتغيرات، ولا بد من تحريفه وتجديده
كلما اقتضت الأحوال ذلك.
أما الإسلام فمختلف تماماً عن ذلك من حيث شموليته وصلاحيته لكل الأزمان
والأماكن والأحوال؛ بل لا يوجد ما يصلح للناس ويُصلحهم وتستقيم الحياة به إلا
في دين الإسلام، وما عداه فباطل وإثم وسبب لشقاء الإنسان في الدنيا قبل الآخرة.
وبهذا ندرك الخطأ الفاحش الذي وقع فيه من تشبهوا بقساوسة النصارى ورهبانهم
في تمييع الإسلام وتحريف نصوصه، وتبديل شريعته، وتغيير أحكامه ليوافق
أهواء الناس وشهواتهم، وحتى يتناسب مع هذا العصر كما يفعله كثير من متفقهة
المسلمين ومتعلمتهم أو متعالميهم الذين يتصدر بعضهم للفتيا في القنوات الفضائية.
وهذا منهج خطير يرمي إلى علمنة المسلمين كما عُلمنت النصرانية المحرفة،
وإضفاء الشرعية على هذه العلمنة باعتبارها صادرة من شيوخ معممين؛ وربما
كانوا ذوي تخصصات شرعية ويحملون أعلى الشهادات الشرعية من جامعات
إسلامية عريقة!
والإسلام لن يتضرر بذلك؛ لأنه دين محفوظ بحفظ الله تعالى له؛ لكنَّ مَنْ
يتضرر من جرائه المفتي الذي تجرأ على الله تعالى وأضل الناس عن الحق،
والمستفتي الذي وقع في الإثم بسبب اتباعه لمن يفتيه بهواه، والعامة الذين يستمعون
إلى تلك الفتاوى.
ومن مظاهر الإضلال في الفتيا: مخالفة النصوص الصحيحة الصريحة أو
الإجماع، وإحياء الأقوال الضعيفة والشاذة التي أخطأ فيها أصحابها. بل إنهم في
بعض الأحيان يأتون بفتاوى ليس لهم فيها سلف، وربما دعا بعضهم إلى المحرم
باسم الدعوة والمصلحة المرسلة وتحت شعارات صحيحة؛ لكن يراد بها باطل
كتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال، ويتوسعون في ذلك توسعاً عظيماً بلا
ضوابط ولا ورع ولا تقوى.
بين العلمانيين والرهبان:
دأب العلمانيون العرب عند إرادتهم القدحَ في الإسلام أو تعاليمه أو ردَّ فتوى
شرعية على استرجاع التاريخ واستدعاء ما حصل من أرباب الكنائس فيما يسمى
في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى التي كانت الهيمنة فيها للكنيسة ورهبانها،
ويساوون بين الإسلام والنصرانية، وبين علماء المسلمين ورهبان النصارى إمعاناً
في الإضلال وطمساً للحقائق وتلبيساً على المتلقي عنهم.
وقد لوحظ في الآونة الأخيرة تغيّر هذا الاتجاه عند كثير من العلمانيين الذين
أخذوا يطالبون علماء المسلمين بالتسامح وتفهم متطلبات العصر وتغير الزمن،
ويؤكدون على ضرورة احتذاء علماء المسلمين بالرهبان والقسيسين الذين خضعوا
لشهوات الناس، وفصَّلوا لهم النصرانية على وفق ما يتناسب مع العصر المادي
العلماني، ثم لما اقتنع بعض المنتسبين للعلم بهذه الفكرة وخضعوا لرغباتهم وضعهم
العلمانيون في صف الرهبان بجامع العقلانية والبعد عن التشدد والتطرف والإرهاب
الديني ومخاطبة الناس بأسلوب حضاري كما يقولون. وكفاهم شرفاً أن يُشبهوا
بأصحاب الكنائس لا بأقلام الأثريين الرجعيين عندهم وإنما بأقلام المتنورين
العلمانيين! !
وفي الوقت ذاته يتمالأ من ميعوا الإسلام مع العلمانيين على حرب المتمسكين
بالإسلام كما أنزل الذين يرفضون التلاعب بشريعته لموافقة أهواء الناس ويصمونهم
بكل نقيصة، ويلصقون بهم كل تهمة؛ فتأمل إلى ما أدى إليه التنازل عن بعض
الشريعة باسم المصلحة الفضفاضة، وانظر إلى الهوة السحيقة التي تردى فيها
أصحاب هذه الاتجاهات الخاطئة!
هُبَل لا يزال يُعْبَد! !
يسمى هذا العصر عصر العلم والتقدم، وحين تذكر البلاد الغربية يتبادر إلى
ذهن كثير من الناس أن تلك البلاد التي أفرزت الحضارة الحديثة لا يمكن أن
تغزوها الخرافة أو يصدق أفرادها بها، أو يلغوا عقولهم ويتعلقوا بأوثان لا تنفع ولا
تضر كما كان أهل الجاهلية يعبدون هُبَلاً واللات والعزى؛ لأن بلاد الغرب
عمرت حضارتهم وقامت على احترام العقل وتقديسه؛ ولكن الحقيقة مجانبة لذلك؛
فمظاهر الخرافة منتشرة، وسوق السحرة والكهان والعرافين رائجة في بلادهم.
وفي يوبيل الشباب هذا كان الرهبان ركعاً وسجداً وجاثين على الركب يتلون
الأناجيل، ويرددون الترانيم، ويؤدون الصلوات تحت التماثيل والتصاوير التي
امتلأت بها كنيسة القديس بطرس، ومنهم من تعلق بأقدام الوثن يقبلها باكياً؛
والشباب يمرون بهم ليتعلموا الوثنية من أئمتهم ورهبانهم في عصر الذرة والنفاثة
والاستنساخ والدخول في الألفية الثالثة كما يقولون. وشرك العبادة ليس أمراً جديداً
عند النصارى فقد قال الله عنهم: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ]
(المائدة: 72) ، وقال تعالى: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ]
(المائدة: 73) . والنصوص في إثبات ذلك كثيرة.
وشركهم ليس شرك أفراد من عامتهم؛ بل هو شرك أحبارهم ورهبانهم أقروه
في مجامعهم الكنسية الكبرى التي ألَّهوا فيها عيسى عليه السلام وجعلوه مساوياً لله
تعالى وجعلوا لأمه مريم صفة الأمومة الإلهية وأنها والدة من تم تأليهه، واعتبار
الاعتراض على ذلك هرطقة [9] توجب التكفير والقتل. تعالى الله عن شركهم علواً
كبيراً.
ولن تجد وصفاً وأنت تراهم يترددون على تلك الأوثان في كنائسهم أبلغ وأدق
من وصف الله تعالى لهم بالضُلاّل كما قال تعالى: [غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ
الضَّالِّينَ] (الفاتحة: 7) . قال ابن أبي حاتم: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في
تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى [10] .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» اليهود مغضوب عليهم،
والنصارى ضُلاّل « [11] .
لماذا الصدُّ عن الإسلام؟
اتضح بما سبق عرضه أن دين النصارى المحرف ليس مقنعاً لأُناس يوصفون
باحترام العقل وإعماله، ومهما عمل البابا والفاتيكان والنصارى أجمعون من وسائل
لإقناع أنفسهم بصحة دينهم فلن يقتنعوا به فضلاً عن إقناع غيرهم به.
وفرح الشباب بهذا التجمع العظيم؛ إلا أن استئناسهم به لن يدوم طويلاً، كما لم تدم
سعادة الشعوب الغربية بالتطور والرفاهية العظيمة؛ وهكذا كل سعادة بغير الله تعالى
والعبودية له واتباع رسله مهما كانت كبيرة وأسبابها عظيمة فلن تلبث إلا يسيراً
حتى تنقلب شقاءاً على صاحبها في الدنيا قبل الآخرة. وقد قرر هذه الحقيقة العالم
الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله:» فإن حقيقة العبد قلبه
وروحه، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا
إلا بذكره، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا
بلقائه، ولو حصل للعبد لذَّات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك؛ بل ينتقل من نوع
إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال،
وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ به غير منعم ولا ملتذ به؛ بل قد يؤذيه
اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك « [12] .
وما دام الأمر كذلك فإن سدنة الباطل والقائمين عليه لم يألوا جهداً ولن يألوا
في إخفاء الحق ومحاولة طمسه وتشويهه وحجبه عن الناس وصدهم عنه بكل وسيلة
يملكونها. وهكذا كان حال الإسلام مع خصومه قديماً وحديثاً. ففي القديم كان
المشركون في عهد الرسالة يمنعون الناس من سماع القرآن خشية اتباعهم لمن أُنزل
عليه، وتواصوا بالتشويش عليه كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] (فصلت: 26) ، وقد ذكر
المفسرون أن المشركين كانوا يطردون الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم، ويقابلون القرآن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد
الأشعار والأراجيز [13] .
قال ابن عاشور:» وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكمموا أفواه
الناطقين بالحق والحجة بما يستطيعون من تخويف وتسويل وترهيب وترغيب، ولا
يدعون الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة؛ لأنهم يوقنون أن حجة
خصومهم أنهض؛ فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان
والتضليل، فإذا أعيتهم الحيل ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعم نورها الناس
الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام، ونفخوا في أبواق اللغو
والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق، ويغمرون الكلام الصالح باللغو،
وكذلك شأن هؤلاء « [14] .
وثبت في الصحيح أن المشركين شرطوا على ابن الدغنة لما أجار أبا بكر
رضي الله عنه أن لا يُظهر عبادته خشية أن يتبعه أقوامهم وقالوا: مُرْ أبا بكر فليعبد
ربه في داره فلْيُصلِّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به؛ فإنا
نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا» [15] .
وكذلك يفعلون في العصر الحاضر؛ إذ إن أعداء الإسلام من يهود ونصارى
ووثنيين ومنافقين قد حملوا على عواتقهم حرب الإسلام، وصدَّ الناس عنه بكل
وسيلة تارة بالترغيب تحسين الشهوات وبثها ونشرها وتارة بالترهيب إيذاء
المسلمين ومحاصرتهم وتجويعهم وإعلان الحرب عليهم وتارة بالتنفير وصف
المسلمين بالتطرف والإرهاب وتشويه الإسلام عند غير المسلمين ومع ذلك فإن
أعداد من يدخلون في الإسلام بحمد الله تعالى في ازدياد لا يشهد له مثيلاً أي دين
آخر، وجُلُّ من يدخل في الإسلام يدخله عن قناعة بعد بحث وتقصٍّ، وفيهم من
علية القوم من المثقفين والمنظِّرين والمنصرين كثر؛ لأنه لا يحق إلا الحق، ولا
يبقى إلا الصحيح، ومهما اجتهد أهل الباطل في طمس الحق وإخفائه فإنهم لا
يستطيعون.
بعد هذا العرض المختصر لهذا اليوبيل الشبابي النصراني العالمي أود التنبيه
على أمور أربعة:
1 - وجوب شكر الله تعالى على نعمة الإسلام التي هدانا لها، ولو شاء لجعلنا
من أولئك الضالين الحيارى الذين تعلقوا بالمخلوقين ونسوا الخالق سبحانه وتعالى
فنحمد الله تعالى أن هدانا، ونسأله الثبات على الإسلام إلى الممات إنه سميع مجيب.
2 - فريضة الدعوة إلى هذا الحق الذي عرفناه وهو الإسلام ودلالة الضالين
عنه عليه، والمسؤولية عظيمة، والأمانة ثقيلة؛ أبت حملها السموات والأرض
والجبال وأشفقن منها وحملناها ففرض علينا أداؤها، وإلا تعلق أولئك الضلال
برقابنا يوم القيامة يشكون إلى الله تعالى تقصيرنا وتفريطنا في دعوتهم. نسأل الله
تعالى العافية.
3 - إن ضلال أولئك الشباب المجتمعين يزيد يقيننا بديننا، ويقوي إيماننا،
ويحثنا على التمسك به والعض عليه بالنواجذ؛ لأنه حق هدانا الله إليه؛ فمن الغبن
والحمق التفريط فيه أو تضييعه، ومن مظاهر التفريط فيه عدم التزام أحكامه.
4 - إن تأجيل بيان بعض شرائع الإسلام لمن أسلم حديثاً منهج صحيح كما
كانت شرائع الإسلام تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً، ولكن
التنازل عن شيء منها بحجة الدعوة أو المصلحة المرسلة أو دواعي العصر أو نحو
ذلك فباطل وإثم وافتيات على الإسلام واستدراك على الشارع سبحانه وتعالى.
وفرق كبير بين التنازل الذي يسلكه المزورون لشريعة الإسلام وبين التأجيل
لمصلحة راجحة، ومن سلك مسلك التنازل والتحريف لأحكام الإسلام من متعلمة
المسلمين فقد تشبه بالرهبان الذين حرفوا وما زالوا يحرفون النصرانية إلى اليوم،
«ومن تشبه بقوم فهو منهم» [16] كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم.