قضايا دعوية
سليمان الخضير
كان مما تزامن مع إقبال المسلمين على السُّنَّة وعنايتهم بها علماً وعملاً الأخذ
بمبدأ كراهة البدعة وأهلها وإنكارها عليهم؛ وفقاً للسنة الإلهية وتبعاً للحكم الشرعي.
غير أنه مما صاحب ذلك عند فئام من الناس قدر من الحماسة يصاحبها قدر
من قلة العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين؛
مما أضعف تقدير المصالح والمفاسد.
وتبعاً لذلك كانت هناك رؤى متضاربة وتصرفات متباينة إزاء المبتدعة أجمل
وصفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بوصفه لاختلاف الناس في أخذهم بعقوبة
(هجر المبتدع) فقال: «إن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار
ما لم يؤمروا به [مما] لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات
وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أُمِروا
بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره ...
ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من
النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً ... ودين الله وسط بين الغالي فيه
والجافي عنه» [1] .
وقد ظن أناس أن (هجر المبتدع) حكم شرعي لازم كملازمة المسببات
لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء. والواقع أن هجر المبتدع كغيره من
عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل
بها حسب الحال.
من هنا رغبت في جمع نظائر في موضوع التعامل مع المبتدعة وترتيبها على
شكل فقرات لتكون معالم للمنهج الشرعي في التعامل مع عامة ذوي المخالفات
الشرعية، وخاصة المبتدعة [2] .
أولاً: لا يجوز أن نتدين باتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها
إلا بعد أن يغلب على ظننا أنها بدعة أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل
أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية؛ فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في
المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي
الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافاً عقدياً أو مخالفات شرعية [3] ، أو ربما
كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلاً.
فينبغي للمسلم أن يتعرف إلى مفهوم البدعة وماذا يشمل؛ فإن الحكم على
الشيء فرع عن تصوره، ولتقريب مفهوم البدعة يمكن أن تعرَّف بأنها: كل ما لم
يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مثل:
* ما تخلف فيه واحد من شروط الاتباع، وهي أن يوافق السنة في زمانها
ومكانها وسببها وقدرها وصفتها وعددها، كتخصيص يوم للاجتماع فيه على عبادة،
كما خص الشارع أيام الأعياد.
* أو ما هو مخالف للقرآن أو السنة عند أهل العلم، كبدعة الخوارج
والرافضة.
* أو المداومة على خلاف ما داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من
العبادات كمداومة الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو قراءة قرآن أو ذكر.
*ومن الابتداع جعل الامتناع عن المباحات ديناً.
ومن المهم استحضاره - أيضاً -: أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت
بقدر ما ارتبط بها من مفسدة، كما قال الشاطبي: «كل بدعة عظيمة، بالإضافة
إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها
إلى بعض تفاوتت رتبها: فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد
عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في
المفسدة» [4] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في
أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة،
ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة» [5] .
ثانياً: معالم في التعامل مع أهل البدع:
المَعْلَم الأول: يراعى في التعامل مع أهل البدع أن يكون قائماً على أصلين:
الإخلاص، والمتابعة.
وذلك أن الحكم ببدعة ما واتخاذ موقف من أهلها مسائل شرعية نحن متعبدون بها،
فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى الأخذ بالإخلاص: أنه ينبغي ألا
يكون الموقف (عقاباً أو تألفاً) إزاء أحد من المبتدعة تشهياً ولا تشفياً. قال شيخ
الإسلام ابن تيمية: «فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان
خارجاً عن هذا [6] ، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة
لله!» [7] . وقال رحمه الله عن الرجل «إذا كان مبتدعاً يدعو إلى عقائد تخالف
الكتاب والسنة أو يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة ... بُيِّن أمره للناس؛ ليتقوا
ضلاله ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله
تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية أو
تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح وقصده
في الباطن الغض من الشخص واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان» [8] .
أما متابعة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل معهم فهو ما
سنستوضح معالمه في هذه المقام.
المَعْلَم الثاني: أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق:
والمبتدع من أولئك الخلق الذين يرحمهم أهل السنة مع يقينهم بكونهم على
بدعة يستحقون بها العقوبة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأئمة
السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق
الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو
ظلمهم كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8)
ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءاً،
بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة
الخلق» [9] .
وقال: «وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القَدَر والحَيْرة مستولية عليهم،
والشيطان مستحوذ عليهم: رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءاً وما أوتوا زكاءاً،
وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة [فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ
سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ] (الأحقاف: 26) [10] .
يمثل هذا الخلق العالي أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه لما رأى سبعين رأساً
من رؤوس الخوارج وقد جُزَّت ونُصِبَتْ على درج دمشق قال:» سبحان الله! ما
يصنع الشيطان ببني آدم؟ كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى وقال:
إنما بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام « [11] .
المعلم الثالث: أهل البدع مستوجبون للعقوبة [12] :
وذلك لمخالفتهم أمر الله تعالى ونهيه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ونهيه،
سواء كانت تلك المخالفة في القلب عن اعتقاد أو كانت من أعمال الجوارح، وهم
من جنس مواقعي المنكر ينكر عليهم بالقلب واللسان واليد.
فأما العقوبات المشروعة في حق المبتدع فمنها:
1 - هجرهم [13] .
قال ابن عبد البر في فوائد حديث كعب بن مالك في الذين خلفوا:» وهذا
أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام عنه « [14] .
وقال البَغْوي:» وفيه أي حديث كعب بن مالك دليل على أن هجران أهل
البدع على التأبيد ... وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على
هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم « [15] .
ومن الهجر: عدم أخذ العلم عنه، ولا مناكحته، ولا الصلاة خلفه مع وجود
إمام غيره؛ فإن كان هو الوالي فإنه يصلي خلفه الصلوات التي لا يمكنه فعلها إلا
خلفه كالجمع والأعياد، ولا يعيد [16] .
2 - عدم الاستماع لكلامهم ومجالستهم:
وهو لون من ألوان الهجر، وقد جاء عن أبي زُرعة عن أبيه قال:» لقد
رأيت صَبيغ بن عِسْل بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلَق فكلما جلس إلى
حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى:
عزيمةَ أمير المؤمنين « [17] .
وقال رجل من أهل الأهواء لأيوب السختياني: أسألك عن كلمة، فولَّى أيوب
وهو يقول:» لا، ولا نصف كلمة مرتين يشير بأصبعيه « [18] .
قال شيخ الإسلام:» لا يجوز الاستماع إلى أهل البدع، ولا النظر في كتبهم
لمن يضره ذلك « [19] .
3 - الإنكار والرد عليهم:
فيجب كشف بدعة المبتدع ولو أدى إلى غِيبته؛ إذ ليس لمعلن البدعة
غِيبة [20] ، إلا إن كانت البدعة خفية فتدحض بحسب درجة خفائها، ولا يعلن
بإنكارها لئلا يكون سبباً في فشو أمرها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:» يجب
الإنكار على أهل البدع ولو كانت بدعتهم بقصد حسن « [21] .
وفي موضع آخر:» ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب
والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم
واجب باتفاق المسلمين ... ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان
فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم
يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فيفسدون القلوب
ابتداءً « [22] .
4 - حرمانه من بعض الأمور:
كحرمانه من إعطاء الزكاة إن كان فقيراً إلى أن يتوب [23] ، كما أنه لا تقبل
شهادته، ويحرم من الإمامة في الصلاة كل ذلك لمن يملك منعه وحرمانه.
5 - العقوبات البدنية:
وقد تصل للقتل لمن يملك ذلك، وأوضح مَنْ يصدق عليه ذلك: الداعيةُ لبدعة
المصِرُّ عليها، كما جرى للجَعْد وغِيلان والجَهْم، وقد تكون العقوبة بما دون
القتل [24] .
المعْلَم الرابع: المقاصد الشرعية في تعامل أهل السنة مع المبتدعة:
هذه المقاصد منها ما يعود إلى الهاجرين القائمين بهذه الوظيفة الشرعية، ومنها ما
يعود إلى المهجور، ومنها ما يعود إلى عامة المسلمين، كما أن منها ما روعي فيه
جناب الشريعة وحماية السنن من البدع والأهواء.
وعند الحديث عن التعامل مع المبتدعة فالمقصود وجها التعامل: بالعقوبة بأي
من صورها، أو بالتأليف المشروع عند الحاجة إليه؛ فإن المغلب في التعامل معهم
هو جانب إيقاع العقوبة (بحسبها) ، لكن تلك المقاصد تشمل ما لو كان ذلك
التعامل تألفاً وتودداً.
المقصد الأول: إصلاحهم وهدايتهم.
فليس المبتدع في الجملة شراً من الكفار الذين شرع لنا دعوتهم ودلالتهم على
الحق، بل ربما كان فيهم من القرب للحق ما يدعو للاهتمام بهم، وبخاصة إذا
كانت البدعة عن جهل وبُعد عن مصادر العلم. وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنه
الخوارج فرجع منهم من أراد الله به الخير والهداية [25] .
قال الخطابي:» إن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر الأوقات
والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق « [26] .
وتقدم قريباً قول شيخ الإسلام:» يريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا
يقصدون لهم الشر ابتداءاً، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان
قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق «.
المقصد الثاني: حماية الشريعة.
فإن الزجر بالعقوبة منهج شرعي من جنس الجهاد في سبيل الله؛ لتكون كلمة
الله هي العليا، وأداءاً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تقرباً إلى الله
تعالى بواجب الحب والبغض فيه سبحانه كما أن إيقاع العقوبة بالهجر أو غيره سبب
لبعث اليقظة في نفوس المسلمين من الوقوع في هذه البدعة وتحذيرهم، ومن حماية
الشريعة حصر انتشار البدعة الذي يحصل بقمع المبتدع وزجره فيضعف عن نشر
بدعته [27] .
قال الشاطبي:» إن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان بالهدم على
الإسلام:
إحداهما: الْتفات العامة والجهال إلى ذلك التوقير.
الثانية: يكون كالحادي المحرِّض له على انتشار الابتداع في كل شيء « [28] .
ولذلك كان موقف عمر رضي الله عنه من البدع صارماً؛ فكان حازماً في سد
أبواب الابتداع مع توسع البلاد الإسلامية كما تقدم قريباً عن أبي زرعة عن أبيه قال:
» لقد رأيت صَبيغ بن عِسْل [29] بالبصرة كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلَق
فكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، فإن جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل
الحلقة الأخرى: عزيمة أمير المؤمنين « [30] . و» الدين لا يذهب من القلوب
بمرة، ولكن الشيطان يُحدِث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه « [31] .
المعْلَم الخامس من معالم التعامل مع المبتدعة: العدل معهم:
في الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع واستيقان استحقاقه للعقوبة:
نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف؛ فالعدل منهج شرعي في كل
شيء، على أن» العدل المحض في كل شيء كما يقول شيخ الإسلام: متعذر علماً
وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل « [32] ، وأصل هذا المعلم قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
فمن العدل: ذكر ما لهم من صواب:
وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد؛ والجمع بين ذكر
محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة
الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير وذكر المثالب بخس
وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام.
ويمثل هذا المَعْلَم الإمام الذهبي رحمه الله في تراجمه، كما في قوله عن الفخر
الرازي:» المفسر المتكلم ... كان فريد عصره، ومتكلم زمانه، وكان ذا باع
طويل في الوعظ، ويبكي كثيراً في وعظه « [33] .
ويتمثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الباقلاني الأشعري
مثلاً فيقول:» مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة والرد على
الزنادقة والملحدين وأهل البدع، حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب
والأشعري أجلَّ منه ولا أحسن كتباً وتصنيفاً « [34] .
ومن العدل: تفاوت الولاء والبراء في حقهم:
الأصل في المسلم الموالاة والمحبة، كما أن الأصل في الكافر المعاداة، غير
أن المبتدع والفاسق ينقص من موالاتهما بحسب جريرتهما، ولذلك قد يجتمع في
المسلم حب وبغض: فيُحَبُّ لما معه من إيمان، ويُبْغَضُ لما اقترفه من بدعة
وعصيان. قال شيخ الإسلام:» وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور
وطاعة، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق
من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات
الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه
لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة « [35] .
ومن العدل: قبول الحق إذا جاء به أحد منهم:
فليس من العدل رد الحق لكون صاحبه على خطأ أو باطل؛ فهما أمران غير
متلازمين، وعندما يكون القول حقاً ويراد به باطل يرد ذلك القول (الحق) بسبب
غايته لا بسبب قائله، وإنما كان قائله بما هو عليه من الباطل قرينة يستفهم منها
الغاية التي من أجلها قبل ذلك (الحق) .
قال معاذ رضي الله عنه:» اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً أو
قال: فاجراً «، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول الحق؟ قال:» على الحق
نور «.
وقال شيخ الإسلام:» فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن
الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون
ما فيه من الحق « [36] .
ضوابط في إيقاع العقوبات بأهل البدع:
تلك العقوبات المذكورة في المعلم الثالث الهجر فما فوقه لها ضوابط تختلف
من حالة لأخرى؛ تبعاً لما يأتي:
أ - اختلاف البدع.
ب - أحوال المبتدعة.
ج - أحوال أهل السنة أيضاً.
وذلك» أن الشرع الشريف يزن الواقعات والأحوال الداخلة تحت قاعدته
العامة (الولاء والبراء) بميزان قسط، وقسطاس مستقيم يكون وسطاً عدلاً بين
جانبي الإفراط والتفريط، فلا تزيد عن حدها ولا تنقص عنه، فتلتقي العقوبة
للمبتدع بالهجر مع مقدار بدعته باعتبارات مختلفة، وما يحف بذلك من أحوال تنزل
على قاعدة (رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها) .
فـ «هجر المبتدع ليس عاماً في كل حال، ومن كل إنسان، وكل مبتدع.
وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية تفريط على أي حال ... وميزانها للمسلم الذي
به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر
والتأديب ورجوع العامة وتحجيم المبتدع وبدعته، وضمان السنة من شائبة
البدعة» [37] .
قال شيخ الإسلام في المسلك الحق في الهجر: «فإن أقواماً جعلوا ذلك عامّاً،
فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، [مما] لا يجب ولا يستحب، وربما
تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات.
وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات
البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره ... ولا يعاقبون بالهجرة
ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما
أمروا به إيجاباً أو استحباباً، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه» [38] .
وهناك حالات لا بد من مراعاتها والنظر فيها عند إيقاع العقوبات العملية،
فأما إنكار القلب واعتقاد بغض المبتدع فغير داخل في هذه الحالات نحو:
حال المهجور: ففرق بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه؛ فإن القوي يؤاخذ
بأشد مما يؤاخذ به الضعيف في الدين، كما في قصة كعب بن مالك وصاحبيه،
رضي الله عنهم [39] .
حال المكان: وفرق كذلك بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر
بالبصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، رعاية
للمصالح الشرعية [40] .
حال الهاجرين: إن مما تنبغي مراعاته كذلك حال الهاجرين أنفسهم؛ في
قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت
مشروعية إيقاع العقوبات قائمة على أصولها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة ولا
حول ولا قوة إلا بالله فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر، ولا يحصل به المقصود
الشرعي: لم يشرع الهجر، وكان مسلك التأليف أوْلى خشية زيادة الشر، وهذا
كالحال المشروع مع العدو: القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل
ذلك بحسب الأحوال والمصالح [41] .
حال البدعة [42] : فهي من حيث الكفر بها إما مُكفِّرة أو غير مكفِّرة. ومن
حيث الاستقلال: حقيقية أو إضافية [43] ، فليس الموقف من صاحب بدعة غير
مكفِّرة كالموقف من ذي البدعة المكفِّرة.
حال المبتدع نفسه: فهو متردد بين أن يكون داعية، أو جاهلاً، أو متأولاً،
أو صاحب هوى، أو مستتراً، أو مصراً عليها.
فالداعي للبدعة كما قال الشاطبي: «إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر،
ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب إذا أخذ بالترغيب والترهيب
وأدل بشبهته التي تدخل القلوب بزخرفها» [44] .
والجاهل والمقلد يقول فيهما شيخ الإسلام: «وأما الجهال الذين يحسنون
الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه فهؤلاء تجد فيهم إسلاماً وإيماناً ومتابعة للكتاب
والسنة» [45] .
وفي موضع آخر: «وهؤلاء الأجناس وإن كانوا كثروا في هذا الزمان فلقلة
العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من
آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى وكثير منهم لم يبلغه ذلك» [46] .
والمتأوِّل له شروط: ألا يخالف معلوماً من الدين بالضرورة، وأن يكون
تأويله سائغاً له وجه مقبول في اللغة، وأن يُعلم بقرائن الأحوال اجتهاده وأنه لا
يقصد معارضة الشريعة.
فأما صاحب الهوى: فيقول الشيخ حافظ الحكمي في حقه: «ولكن هؤلاء
منهم من عُلم أن عين قصده هدم قواعد الدين وتشكيك أهله فيه؛ فهذا مقطوع بكفره،
وآخرون مغررون ملبَّس عليهم؛ فهؤلاء إنما يُحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم
وإلزامهم بها» [47] .
وأما المستتر: فكما قال شيخ الإسلام: «لا سبيل لنا عليه؛ لأنه ليس أكثر
شراً من المنافقين الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم» [48] .
وأما المصر عليها: فيجعل من قبيل الداعي إليها، فيكون داعية معلناً لها، وأما
عدم الإصرار فهو من قبيل كونها فلتة، وزلة عالم إذا كانت منه ثم لم يعاودها [49] .
وهنا أمر في غاية الأهمية: وهو صورة من صور التعامل مع المبتدعة
تختلف عما تقدم؛ فليست عقاباً ولا تألفاً، وإنما أدت الحاجة إليها وهي: ما إذا
كانت الواجبات لدى أهل السنة مثل: الجهاد والتعليم والطب والهندسة ونحوها
متعذراً إقامتها إلا بواسطتهم، فإنه يعمل على تحصيل مصلحة الجهاد، ومصلحة
التعليم، مع الحذر من البدعة، واتقاء الفتنة به وبها ما أمكن. قال شيخ الإسلام:
«فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها
دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة
معه خيراً من العكس» [50] .
والله الموفق للصواب، والهادي للرشاد.