-1-
الشيخ مسفر الدميني
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله، وبعد.
فهده آيات من كتاب الله أسوقها، ذاكرًا ما جاء في السنة النبوية من بيان لها،
وكذا ما جاء عن أصحاب رسول الله -_-صلى الله عليه وسلم- وسلفنا الصالح من
تفسير لها، معلقاً على ذلك بما تيسر، معترفًا بين يدي ذلك بقلة بضاعتي، وضعف
صناعتى، لكنه جهد المقل.
قال تعالى [قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) ولَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (95) ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ
يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ]
[البقرة: 94-96] .
هذه الآيات نزلت في اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- ذلك أنهم دُعُوا إلى دين الإسلام ومتابعة نبيه محمد -صلى الله
عليه وسلم- فأبوا، وادعوا أن الآخرة لهم خاصة دون بقية الناس، وأنهم أبناء الله
وأحباؤه، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى قضية عادلة بينه وبينهم حسمًا للخلاف،
وإظهاراً للحق وهي المباهلة (من البَهْل وهو اللعن، وأصله أن يجتمع القوم إذا
اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا) بأن يدعوا بالموت على أي
الفريقين هو الكاذب، لكنهم نكلوا عن المباهلة وأحجموا عن الإقدام عليها، لما
يعلمون من كذبهم أنفسهم في دعواهم أن الجنة لهم خالصة من دون المؤمنين.
روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من
النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا
يجدون أهلاً ولا مالاً» [1] .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن
رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطاً
على عنقه، قال: فقال يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - «لو فعل لأخذته
الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم في النار، ولو
خرج الذين يباهلون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجعوا لا يجدون مالاً ولا
أهلاً» [2] .
وعن ابن عباس قال: قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: [قُلْ إن كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ]
أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب، فأبوا ذلك، ولو تمنوه يوم قال ذلك ما
بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات.
وقال ابن عباس أيضاً: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بِرِيقِه، ولو تمنى
اليهود الموت لماتوا [3] .
لقد فضحهم الله بهذه الآيات، خاصة أحبارهم وعلماءهم الذين يعرفون رسول
الله كما يعرفون أبناءهم، وكأنه يقول لهم: إن كنتم محقين فتمنوا الموت، فإن ذلك
غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الإيمان وقرب المنزلة من الله، بل إن
أعطيتم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا
ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار الله في جناته إن كان الأمر كما تزعمون من
أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا، وإن لم تعطوها علم الناس أنكم المحقون ونحن
المبطلون في دعوانا، فامتنعت اليهود من إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى
ذلك لعلمها أنها إن تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد
في آخرتها.
وهذه المباهلة بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين يهود لم تكن
باللعنة بل بالموت؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له، ولأن الحياة
عند اليهود عزيزة عظيمة فهم يخافون الموت لما يعلمون من سواء مآلهم بعده، ولو
كانوا واثقين من الآخرة أنهم من أهل الجنة لما فَرَقوا من الموت وخافوه، وأيضاً لو
كانوا واثقين من صواب وصدق ما هم عليه من دين لما نكلوا عن المباهلة، لكنهم
يعلمون صدق نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وزيف ما يدعونه من تمسك
بالتوراة ولذا كان أملهم في الآخرة معدوماً وتمسكهم بالحياة مضرب المثل، وهذا ما
يؤكد قوله تعالى: [ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ] نعم يحرصون على (حياة) أي حياة، سواء كانت ذليلة ومهينة أو كانت
كريمة، لا يهمهم نوع الحياة ولا صفتها بقدر ما يهمهم بقاء الحياة والسلامة من
الموت، فالموت يخيفهم ويرهبهم، فبه تنقض ملذات الحياة الدنيا ويبدءون مرحلة
جديدة في عذاب الآخرة.
لقد كانت دعوتهم تلك - بأن الآخرة لهم خالصة من دون المؤمنين -التي
أطلقوها لخلخلة الصف المسلم وإضعاف ثقة المؤمنين في نبيهم وفي دينهم وفيما
يعدهم به من الجنة والنعيم المقيم في الآخرة، فإذا كان اليهود صادقين فيما ادعوه،
ونشروه في المجتمع المسلم من أن الآخرة لهم فقط وليس للمسلمين فيها نصيب
فلماذا يخافونها؟ ولماذا نكلوا عن المباهلة بطلب موت الكاذب من الفريقين؛ لقد
كانت مباهلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لليهود بأن يدعوا بالموت على
المبطل حجة دامغة بهتهم بها، وألجم ألسنتهم وأظهر خزيهم وضلالهم وعنادهم،
ولو كانوا محقين في دعواهم لتمنوا الموت لكنهم يعلمون بل يتيقنون أنه لا نصيب
لهم في الآخرة، ولذا يزداد حرصهم على الحياة الدنيا مهما كان فيها من ذلة لهم
وصغار.
وحب الدنيا وكراهية الموت أمر فُطر عليه الخلق، لكن المؤمن بالله وباليوم
الآخر إذا احتيج إليه في ساحة القتال ذهب عنه ماكان يجده في نفسه من حب الحياة، وحل محله حب الجنة وما أعد الله فيها للشهداء الصادقين، فتراه يحرص على
الشهادة في سبيل الله حرص عدوه على الحياة الدنيا، ومن هنا جاءت المعادلة التي
يترجح بها الصف المسلم على ضِعْفِه من العدو الكافر، فالمؤمن بما يحمله من إيمان
بالله وحب في الفوز بما أعده الله لمن يقتل في سبيله، ويقين بأن الجنة مثوى
المؤمنين الصادقين بما عاهدوا عليه الله، يمكنه بكل ذلك أن يواجه أضعافه عدداً
وعدة.
وإذا كان حب الحياة ينزوي - عند المؤمن - في ساحات القتال ويذهب عنه
الخوف من الموت وكراهيته له، فإن هذا الخوف وهذه الكراهية للموت تذهب عن
المؤمن قبيل موته، ولو لم يكن مجاهداً وذلك عندما يبشر برحمة الله ورضوانه،
وإن ما نجده الآن في أنفسنا من خوف ورهبة وكراهية للموت سيزول عنا إن كنا
ممن آمن وعمل صالحًا وآثر الآخرة على الله الدنيا.
ونجد مصداق هذا في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره
الله لقاءه» فقالت عائشة رضي الله عنها. يا رسول الله كراهية لقاء الله أن يكره
الموت، فوالله إنا لنكرهه. فقال: «لا ليس بذاك. ولكن المؤمن إذا قضى الله عز
وجل قبضه فرج له عما بين يديه من ثواب الله عز وجل وكرامته فيموت حين
يموت وهو يحب لقاء الله عز وجل، والله يحب لقاءه. وإن الكافر والمنافق إذا
قضى الله عز وجل قبضه فرج له عما بين يديه من عذاب الله عز وجل وهوانه
فيموت حين يموت وهو يكره لقاء الله، والله يكره لقاءه» رواه الإمام أحمد في
مسنده 6/218. ونحوه عند النسائى وفيه قال:
«لا إنما ذاك عند موته، إذا بشر برحمة الله ومغفرته أحب لقاء الله فأحب
الله لقاءه، وإذا بشر بعذاب الله كره لقاء الله وكره الله لقاءه» [4] .
وإذن فكراهية الموت أمر طُبع عليه الناس، لكن المؤمن الصادق العامل
الداعي إلى الخير يبشر عند موته برحمة الله ومغفرته فيذهب عنه الخوف من
الموت وتتبدل كراهيته له حباً له إذ فيه لقاء الله الذي آمن به وأحبه واتبع دينه
ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. لكن هذا الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من ذل
ومهانة وتحكم لليهود في بلادها ومصالحها وعلاقاتها، أتراه يذهب؛ وكيف؟ ومتى؟ وماذا ينقص المسلمين من العَدَد والعُدد حتى يستردوا هيبتهم وكلمتهم، ويستلموا
قيادة العالم ليدلوه على الطريق السوي؟ .
أما ذهاب هذا الذل وهذه المهانة فهو الأمل الذي تعيش له الأجيال المسلمة،
والأمة التي لا أمل لها لا مستقبل لها، وكيف نعيش حياة لا أمل لنا في زوال الذل
عنها؛ إن الأمل في الشباب المسلم المؤمن بربه المتمسك بدينه على بصيرة؛ هو
أمل فيما عند الله من نصر وتأييد لمن صدق وصبر وسار على الدرب الصحيح.
أما كيف؟ ومتى؟ فهذا ما ستقرأه في العدد القادم إن شاء الله تعالى. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.