دراسات في الشريعة والعقيدة
د. محمد خليل جيجك
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده وعلى آله
وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن العصر الذي نحن فيه أتى معه إلى جنب ذلك التقدم الهائل في ساحات
العلم والمعرفة وغيرها بمشاكل فكرية عقدية كثيرة. ولا جرم أن من أهم ما أصيب
في هذا العصر بالقسط الأوفر من المشاكل والأزمات هو الدين بحقه وباطله، أما
تلك الأديان الباطلة فاستُخِفَّت أمام أعاصير شبهات المعاصرين استخفاف الريشة أمام
الرياح العاصفة فلم تقاومها لا في نقير ولا قطمير.
أما دوامها على الساحة فلمجرد كونها تشكل عنصراً ثقافياً أو ثقافة فلكلورية
للقوم الذين ينتسبون إليها، وأما الدين الإسلامي الحنيف الذي هو الدين الحق
فاستطاع بما يحتوي عليه من تلك البراهين الواضحة والأدلة القاطعة أن يقاوم ذاك
الباطل الوافد إليه من الخارج الذي استقدمه بعض الأغرار فاشتدت صولة
المعاصرين الوضعيين وأذنابهم من الذين يريدون أن يستأصلوا شأفة الدين بأجمعه
عن المجتمع فاشتدت صولتهم على الإسلام، وأتوا في كل يوم بباطل جديد وهجوم
شديد، وازدادت مع الأيام مخططاتهم ضد الحق وأهله؛ لأنهم رأوا في الإسلام
مقاومةً متينةً ما كانوا يحسبون حسابها، فهجموا على الإسلام هجمةً شرسةً،
وحاولوا النيل من عقائده وزلزلة كيانه في القلوب والصدور باختلاق الأكاذيب
الشنيعة عليه مما هو منه براء، ومن جملة تلك الأباطيل التي حاكوها وصار ينعق
بها أجراؤهم ما اختلقوه ضد كتاب الإسلام في الآونة الأخيرة، وهو زعمهم أنه
كتاب تاريخاني خاطب عصراً محدداً فقط ثم عفى عليه الزمن، ولم يبق له في هذه
الدنيا المعاصرة مفعول إجرائي.
فوجب على علماء المسلمين أن يتصدوا لرد هذا الافتراء الشنيع الذي رده
القرآن بالكثير من آياته وغزير مضامينه وجزيل مفاهيمه، وأن يردوه رداً علمياً
يقتنع به أرباب الخبرة والحكمة وينتفع به أصحاب الروية والبصيرة كما سنذكر ذلك
فيما يلي:
تمهيد:
إن قيمة عالمية القرآن من أهم القضايا التي يتحتم على علماء المسلمين
المعاصرين أن يبينوها ويذكروا وجه الصواب فيها بالبراهين العقلية والحجج النقلية
والأدلة الناصعة؛ لأنه قد خرج في الأوساط المسلمة في مختلف بلاد العالم
الإسلامي، في هذا القرن من ينكرون عالمية القرآن بزعم تاريخانيته - كما أسلفنا
ذلك - مع أننا - نحن معاشر المسلمين سلفاً وخلفاً، منذ أن بعث الله هذا الكتاب
إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - نعتقد اعتقاداً جازماً انطلاقاً
من نصوص كثيرة باهرة أن القرآن هو كتاب الله الذي خاطب البشرية به جميعاً
إلى يوم القيامة بلا تقيد بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، أو جنس دون
جنس، أو طبقة دون طبقة خاطبهم جميعاً بما يسعدهم في دنياهم وأخراهم من
العقائد التي تليق بعظمة الخالق العظيم، والعبادات المعظمة لجلال الفاطر الحكيم
التي تليق بقدسيته وكبريائه، والأحكام الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي يسمو بها بنو
البشر إذا طبقوها وعملوا بها روحاً ونفساً، ومادة ومعنى، وفرداً ومجتمعاً،
ويتطور المجتمع بما تحتوي عليه تلك المبادئ من الطاقات المحركة علماً وتفكيراً؛
فهو وحده القادر على تقديم بديل حضاري متضمن لأفضل الأسس لأكرم حضارة
عالمية إنسانية تجاه ما ابتليت به الإنسانية من الحضارة الغربية التي لم تستطع أن
تسعد الإنسان فرداً وجماعةً سوى في جوانب طفيفة مادية.
عالمية القرآن إذاً من أوسع القضايا القرآنية مساحةً وتغطيةً، ولكن لا يسعنا-
وقد التزمنا الإيجاز في حدود هذه المقالة القصيرة لقلة بضاعتنا - إلا الإيماء
بإشارات خفيفة لطيفة إلى هذا الموضوع الهام لعل الله يقيض له في مستقبل الأيام
من رجالات العلم من يعطيه حقه.
ولكون القضية من البدهيات عند المسلمين بحيث لم يناقش فيه أحد عبر
التاريخ الإسلامي كله رأينا أن علماء الإسلام ما كتبوا في الموضوع شيئاً يعتد به
سوى بعض تلك المعلومات التفسيرية التي كتبوها بمناسبة تفسير تلك الآيات التي
تدل على عالمية القرآن وهي آية: يوسف 12/104، الأنبياء 21/107، الفرقان
25/1، سبأ 34/28، ص 38/87، القلم 68/52، التكوير 81/27، وقد بحثنا
في بعض المكتبات فلم نجد في الموضوع سوى بعض المقالات القصيرة لبعض
العلماء.
وقبل عرض موضوع عالمية القرآن باعتبار مضمونه ومحتواه نرى أن نقدم
بكلمة مختصرة عن التاريخانية التي ساقتنا إلى تناول هذا الموضوع.
إن مسألة تاريخانية [1] القرآن مسألة طلعت في زي الحداثة المزخرف المنمق من
تحت قرن شيطان الاستشراق فلاكها بألسنتهم مقلدوهم من بعض مثقفي المسلمين
عامداً بعضهم إلى ما تأتي به من العاقبة السيئة، وغير شاعر بعضهم الآخر بمغبتها
المشؤومة التي أقلها زحزحة عقيدة بعض المسلمين وإضعاف ثقتهم بالقرآن، وهو
الهدف الفريد الذي يسعى إليه بكدح بالغ المستشرقون وأذنابهم؛ لأنها لا تتواءم مع
العقيدة الإسلامية الحقة، لا في قليل ولا كثير؛ فهي تتنافى مع علم الله المطلق التام،
وتتنافى مع حقيقة خلود رسالة القرآن وأحكامه مدى العصور إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها.
وأهم أهداف التاريخانية التي خطها لها شيطان الاستشراق ضمن خطة مزورة
متدثرة بالعلمية والموضوعية (!) هو الإبانة عن أن القرآن أضحى قديماً مع
الزمن وأبلاه كر الليالي وأخلقه مر العصور؛ حيث كان كتاباً تاريخانياً خاطب كتلةً
محدودةً من البشر في قطاع خاص من التاريخ والزمن، وكان في مستطاعه في تلك
الأزمنة المحدودة تقديم حلول نافعة لتلك الكتلة الخاصة في ذلك القطاع الخاص.
وأما بعد الذي حدث من ثورات عظيمة في معظم جوانب حياة الإنسان الفردية
والاجتماعية والإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها فلم يبق القرآن بدوره
التاريخاني قادراً على الإيفاء بتقديم حلول فاضلة صالحة للمجتمعات البشرية في
جميع جوانب حياتها! هذا هو ما يستهدفه أولئك الظالمون! فإذاً الهدف اللئيم الأثيم
لهذه الخطة غير الرشيدة هو إقصاء القرآن بدوره الفاعل عن جميع نواحي الحياة،
ولا يخفى أن هدفهم أن يجعلوا رسالة الإسلام والقرآن عبارة عن أمور أخلاقية
وجدانية، في دائرة ضيقة لا صلة لها بتوجيه الحياة بمعناها الشمولي، وهذه
الصورة الشوهاء المختلقة عن رسالة القرآن التي يمليها الاستعمار الغربي والتنصير
العالمي على عملائه هي نفس كيان النصرانية التي باءت بالإخفاق والبوار لا في
الإصلاح الجماعي فقط بل حتى في الحفاظ على وجودها الذاتي أيضاً في صميم
بلادها، وكفاها ذلاً وهواناً لها ولأبنائها!
وخلال تناولنا لموضوع عالمية القرآن نقدم الاتجاه الاستدلالي على العرض
المضموني؛ فإن الناحية الاستدلالية أوْلى وأهم من ناحية علاقتها الوثيقة بصلب
الموضوع.
عالمية القرآن من الناحية الاستدلالية:
إن الحديث عن عالمية القرآن من أهم القضايا اللاصقة بالقرآن، لا سيما في
عصرنا هذا؛ فطرح القضية على عواهنها من غير استدلال صحيح لا يأتي بشيء
سوى أن يكون من باب الأمنيات؛ فالاهتمام بالأمر يوجب الاستدلال له من ناحيتي
العقل والنقل؛ فلنذكر القضية مستدلين عليها من كلتا الناحيتين:
(أ) من الناحية العقلية:
إن الذي ينكر عالمية القرآن إما أن يكون منكراً للقرآن أو مؤمناً به، أما
المنكر: فللكلام معه مجال آخر.
وأما المؤمن به: فنقول له:
أولاً: كن صريحاً جريئاً لا تخادع ولا توارب؛ فإن كنت تؤمن بالقرآن عن
صدق قلب وإخلاص نية ففتش في نفسك هل ترى أنك تكون من المؤمنين بالقرآن
مع إنكارك لنصوص كثيرة منه تدل على عالمية القرآن بلا لبس ولا غموض؟ ولا
مسوغ لإنكارك إياها أو تأويلها تأويلاً باطلاً لا يرضاه الله ولا رسوله سوى أنك
تحاول أن ترضي بذاك بعضاً من سادتك في التفكير، أو ترضي نفسك بقبول فكرها
الذي ترى أنها الأقوم الأصوب لموافقتها مع آراء العصريين.
وثانياً: إنك إذا أنكرت عالمية أحكام القرآن بليِّ أعناق جميع تلك النصوص
فهل تعلم أنك تكون واحداً من اثنين؟ إما أن تقول: إن القرآن لا يتدخل في الأحكام
أبداً؟ وهو إنما بيَّن العقائد وشرح شيئاً من الأخلاقيات فقط فهذا أيضاً فرية بلا
مرية، وهو من بداهة البطلان بمكان لكثرة النصوص التي تبين الأحكام في القرآن،
حيث إن آيات الأحكام في القرآن تقارب عشرين بالمائة، وإما أن تقبل أن في
القرآن أحكاماً متجهةً إلى توجيه الحياة؟ ولكن تقول: غالب تلك الأحكام مضت
فترتها التي كانت تعمل بها وعفى عليها الزمن وأبلاها الدهر، وحينئذ أيضاً تكون
واحداً من اثنين، إما أن تقول: إن الله لم يعلم ما سيقع في المستقبل فلم يضع لها
أحكاماً، إنما وضع أحكاماً لعصر النزول الذي كان يعلمه فقط، فنقول له: هذا
جهل عظيم أسندته إلى الله - تعالى - يتنافى مع ألوهيته على الإطلاق - تعالى الله
عما تقول علواً كبيراً - وإما أن تسند البخل إليه سبحانه؛ حيث إن عدم إنزاله لما
هو مفيد ونافع مع علمه به يستلزم البخل لا غير مما يتنافى مع رحمته ورأفته
بعباده المؤمنين , تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
إذا لاحظنا موقع القرآن بكونه آخر رسالات الله إلى الناس إلى يوم القيامة
وخاتم الكتب الإلهية علمنا لتونا أن هذا القرآن نزل من يوم أن نزل يخاطب جميع
البشر على جميع المستويات في جميع الأزمنة المتتالية إلى يوم القيامة، وفي جميع
الأمكنة على وجه البسيطة؛ بل الكل على حدٍّ سواء في كونه مخاطباً بخطابات
القرآن المنزلة ومسؤولاً أمام تكاليفه النيرة المهيمنة على الزمان والمكان
والمتغيرات, ولقد جاء هذا القرآن حينما بلغت البشرية سن الرشد العقلي، فجاء
كتاباً مفتوحاً لجميع العقول لا في عصر النزول فقط، بل ليكون مستمراً في جميع
الأزمان شاملاً لأصول الحياة البشرية التي لا تتبدل بتغير الأزمان والمجتمعات
مستعداً لتلبية الحاجات المتجددة أيضاً التي يعلمها خالق البشر، وهو أعلم بمن خلق
وهو اللطيف الخبير [2] .
(ب) من الناحية النقلية:
1- الكتاب: إن عالمية القرآن تآزرت عليها جميع الأدلة المقبولة عند
المسلمين من الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
فهناك العديد من الآيات التي تعلن أن هذا القرآن ذِكْرٌ لجميع العالمين:
[إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] (يوسف: 104) ، [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ]
(ص: 87) ، [وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] (القلم: 52) ، [إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
لِّلْعَالَمِينَ] (التكوير: 27) فإذا ما حاولنا أن نستنبط من خلال التعابير القرآنية
وألفاظها مقصودنا من عالمية القرآن وجدنا ذلك سهل المساغ، فإن تلك الآي
الأربع التي تصرح بأن القرآن ذكر للعالم أجمع إنما أتت:
أولاً: في صورة الحصر [3] ، والجملة بهذه الصورة الحصرية تنفي في هذا
الصدد عن القرآن كل صفة تنافي عالميته وتجعل عالميته منصوصاً عليها بلا
امتراء ولا ارتياب.
ثانياً: إن تذكيره - ومن ثم عالميته - إنما هي باعتبار الرسالة التي تؤديها
إلى الإنس والجن، فتصلح من خللهم وتزيل من دغلهم؛ كما تنبئ عن ذلك مادة
الذكر أيضاً؛ فإن اللفظة تعني أن القرآن ذكر يُذكِّر الناس والجانَّ بما يحتاجون إليه
فرداً وأسرةً ومجتمعاً ودولةً، يقول أبو حيان وابن عطية: إن كلمة «للعالمين»
عام للإنس والجن ممن عاصروه وممن جاؤوا بعده؛ وهذا معلوم؛ من الحديث
المتواتر وظواهر الآيات [4] .
ثالثاً: إن صيغة العالمين وهي جَمْعٌ وتعريفها بـ (ال) التعريف تدل في
العربية على معنى الاستغراق، كما ذكروا أن من صيغ العموم الجمع المعرف بـ
(ال) مع أن مما لا ريب فيه عند كل من لديه أدنى إلمام بالعربية أن للفظة
«عالَم» - مفرد العالمين - أيضاً دلالة صريحة واضحة بلا تكلف، أو تعسف على
العموم؛ فإن معناه كل: ما يُعلَمُ به وجود الصانع من كل ما في الكون، فإذا جمع
بالواو والنون - كما هنا - يكون خاصاً بالعقلاء من الإنس والجن أجمعين، فإذاً
تدل هذه اللفظة «للعالمين» أيضاً على أن القرآن ذكر لجميع العقلاء من الإنس
والجن جميعاً بلا تقييد بزمان أو مكان أو طبقة أو جنس حتى إنك ترى الرازي
(ت 606) انطلاقاً من عموم دلالة العالمين يقول: «لفظ (العالمين) يتناول
جميع المخلوقات، فدلت الآية على أنه رسول للخلق عامةً إلى يوم القيامة» [5] ومن
البداهة بمكان أن عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما يتحقق بعالمية كتابه
الذي أرسل به إلى الناس كافةً وهو يشكل رسالته التي يبلغها للناس عامةً، وكذا
يقول محمد صديق حسن: أي ما هذا القرآن أو الوحي أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر
من الله للجن والإنس العقلاء [6] .
فالقرآن ذكر لهم (أي: جميع الناس) : يذكِّرهم بوجه الصواب في دينهم
ودنياهم، يذكِّرهم بما يصلح حالهم فرادى وجماعات.
ذكر لهم جميعاً: بلا تفريق ولا تمييز بين غني أو فقير: بين شريف أو
وضيع.
ذكر للكل: في كل زمان ومكان وعلى كل حال، وفي كل مستوى وتجاه كل
حكمة وهداية وبر، يقول المراغي في تفسير الآية المذكورة: «أي ما هذا القرآن
إلا عظة للثقلين كافةً وكل ذي عقل سليم وطبع مستقيم يشهد بصحته وبعده عن
البطلان والفساد» [7] .
وأيضا: فهناك آيات أخرى تصرح بعالمية القرآن، كقوله تعالى:
[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً] (الفرقان: 1)
كقوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107)
[إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ
خَصِيماً] (النساء: 105) ، [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ
فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً] (الإسراء: 89) ، [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ
لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف: 54) ، [وَلَقَدْ
ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ] (الروم: 58) ، [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ
مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (الزمر: 27) [إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِلنَّاسِ
بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ]
(الزمر: 41) .
كل هذه الآيات تجعل عالم العقلاء المكلفين على عمومهم بدءاً من زمن البعثة
إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سواء جنهم وإنسهم من غير تقييد بزمان دون
زمان أو مكان دون مكان تجعلهم جميعاً محلاً ومناطاً لنزول القرآن والإنذار به،
قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) يقول ابن
عاشور - رحمه الله -:
«صيغت بأبلغ نظم؛ إذ اشتملت هذه الآية - على وجازة ألفاظها - على
مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ومدح مرسله تعالى، ومدح رسالته بأن كانت
مظهر رحمة الله - تعالى - للناس كافة وبأنها رحمة الله - تعالى - بخلقه.
فهي تشتمل على أربعة وعشرين حرفاً بدون حرف العطف الذي عطفت به
ذُكِرَ فيها الرسول ومرسله - تعالى - والمرسل إليهم وخصوصية الحصر وتنكير
(رحمة) للتعظيم؛ إذ لا مقتضي لإيثار التذكير في هذا المقام غير إرادة التعظيم وإلا
لقيل: إلا لنرحم العالمين، أو إلا إنك الرحمة للعالمين، وليس التنكير للإفراد قطعاً،
لظهور أن المراد جنس الرحمة، وتنكير الجنس هو الذي يعرض له قصد إرادة
التعظيم. فهذه اثنا عشر معنى خصوصياً، فقد فاقت أجمع كلمة لبلغاء العرب وهي:
قفا نَبْكِ من ذكرى حبيب ومنزل ...
إذ تلك الكلمة قصاراها - كما قالوا -: إنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى،
وذكر الحبيب والمنزل دون خصوصية أزيد من ذلك فجمع ستة معان لا
غير [8] .
ويقول ابن القيم في هذا المقام:» أصح القولين في هذه الآية أنها على
عمومها، وفيها على هذا التقدير وجهان:
أحدهما: أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته؛ أما أتباعه فنالوا بها
كرامة الدنيا والآخرة، وأما أعداؤه المحاربون له فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم؛
لأن حياتهم زيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة وهم قد كتب عليهم
الشقاء؛ فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر.
وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته، وهم أقل شراً
بذلك العهد من المحاربين له.
وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم
واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيره.
وأما الأمم النائية عنه فإن الله - سبحانه - رفع برسالته العذاب العام عن أهل
الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
والوجه الثاني: أنه رحمة لكل أحد لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا
بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمةً لهم لكن لم
يقبلوها؛ كما يقال: هذا دواء لهذا المرض؛ فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون
دواءا لذلك المرض [9] .
ثم إن هناك كلمات وتراكيب في القرآن تخاطب الناس عامةً بلا تقييد بزمن أو
صنف أو طبقة أو جنس أو مستوى [10] مما يدل على عالميته ومضي أحكامه إلى
الأبد دون تقيد بأي شيء ما، كما يسترعي أنظارنا من هذه الناحية خصيصاً أن
القرآن يتوخى جمل خطاب العموم دون الخصوص، والإطلاق دون التقييد،
والإجمال دون التبيين ما وسع لذلك المقام والمرام.
فانطلاقاً من هذا المغزى الهام قلما ترى في القرآن المخصصات والمحددات
والمقيدات تذكر؛ كالأمكنة المحددة أو الأزمنة الخاصة أو الأشخاص المعينة أو
الأعراف والتقاليد المختصة أو الأحوال الخصوصية أو العوارض المشخصة التي لا
يكون فيها درس أو عبرة أو حكمة للجميع، وإذا ما وقعت حاجة أثناء البيان
القرآني للتخصيص بصفة أو نحوها فإنما ينتقي القرآن منها أيضاً تلك الصفات
العامة التي خصوصيتها أقل كالمؤمنين والمتقين والصالحين والكافرين والمنافقين
والغافلين والضالين وأمثالها مما لا يختص بجنس أو طبقة دون أن يقيد ذلك
بالحجازيين أو المكيين أو المدنيين مثلاً مما يضيق دائرة دلالة اللفظ، ودون أن
يخصص اللفظ؛ فالحكم بأبي بكر أو علي - رضي الله عنهما - مثلاً مما يجعل
الأمر مقتصراً على واحد لا يتعداه رغماً من أن الصحابة عامةً، وأهل الحرمين
خاصةً كانوا هم الملاصقين للرسول صلى الله عليه وسلم ومن هنا ترى أن ألفاظ
وتراكيب الآي النازلة لسبب خاص وحول قضية خاصة وفي شأن شخص خاص
جردت من عناصر التخصيص والتقييد ما أمكن ذلك وما لم يلتبس الأمر التباساً؛
فمثلاً انظر إلى آيات الإفك فرغم أنها نزلت في أم المؤمنين عائشة - رضي الله
تعالى عنها - بإجماع مفسري أهل السنة فإنك لا ترى في تلك الآي تحديداً بالاسم
والنسب والقرابة للمفترى عليها.
وانطلاقاً من الاتجاه القرآني إلى التعميم في غالب أحواله ودلالاته اتخذ علماء
الفقه وأصوله في الآيات المنزلة لسبب خاص قاعدة هامة لهم وهي: أن العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وكذا ترى أن الفرقان الحكيم يتعدى الحدود ويتجاوز الفوارق التمييزية حين
ينادي المكلفين الذين اتخذهم القرآن له مخاطَبين فيناديهم بتلك التراكيب والتعبيرات
العالمية الواسعة الدلالات والمفاهيم رغماً من ضيق الدائرة البشرية التي نزل القرآن
فيها: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] (البقرة: 21) [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (البقرة: 104)
[يَا بَنِي آدَمَ] (الأعراف: 26) [يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ] (الكافرون: 1) «يا
أيها المنافقون» مما يعم كل فرد من غير فرق، مع أن من المستطاع أن
يخص من في تلك الدائرة الضيقة بالنداء، وهو المتبادر المألوف للخطابات
البشرية التي تقع في قطاع خاص أو بين جماعة خاصة، وكذا يفصح عن عالمية
القرآن ما تراه يُذكر في معرض بيان فوائد القصص والأمثال أنه - سبحانه -
ضرب للناس أو صرف للناس من كل مثل يذكر الناس بصيغة الجمع المعرَّف
باللام المفيد للاستغراق كما هو معروف عند أهل العربية، فلو لم يقصد الاستغراق
لما أوتي بصيغة الاستغراق: وخصيصاً ترى مغزى عالمية القرآن كالمنصوص
عليه بالتنصيص على الناس (المفيد للعموم) حينما يذكر أن من المهام التي كلف بها
صلى الله عليه وسلم بسبب نزول الكتاب هو الحكم بين الناس.
إن عالمية الرسالة تستلزم عالمية القرآن، كما أن عالمية القرآن تستلزم
عالمية الرسالة [إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ
تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً] (النساء: 105) .
قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه
الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب
النار» [11] ويقول أيضاً: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي.. وكان النبي
يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» [12] .
(ج) عالمية القرآن من الناحية المضمونية:
خاطبنا بمجموع تلك المفاهيم الجديدة في الآفاق البشرية ويمكن أن نستخلص
بعض تلك المعاني السامية والمفاهيم الرامية إلى الكمالات والفضائل التي لا غنى
لأي من أبناء البشر عنها والتي أنزلها القرآن إلى أرض البشرية في هذه العناوين
الآتية.
1- الحفاظ على الكرامة الإنسانية ما لم تنقلب إلى مظاهر سيئة مذمومة
العواقب للفرد والمجتمع؛ فقد أذاق القرآن بتلك التعاليم السمحة الإنسان المستهان
المستضعف طعم الكرامة النفسية ولذيذ العزة البشرية [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ
وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا
تَفْضِيلاً] (الإسراء: 70) .
ونرى هذه الحقيقة تتبلور - منعكسة إلى واقعيات الحياة - على لسان
الفاروق - رضي الله عنه - حينما امتنع ابن عمرو بن العاص - رضي الله
عنه - وهو والي مصر وفاتحها وفي قمة مجده وعزة سلطانه عن توفية
القصاص من نفسه لأجل صفعة صفعها أحد الأقباط؛ حيث قال الفاروق - رضي
الله عنه -: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
2- تحقيق العبودية لله وحده والإنقاذ من عبودية البشر؛ فقد هدى القرآن ذلك
الإنسان الذي ضل عن سبيل الهدى إلى أفضل وسائل النجاة والخلاص عن عبودية
البشر وهو عقيدة التوحيد التي لا تعرف للبشر رباً غير الله، ولا تعطي أية فرصة
لأن يتخذ بعض الناس بعضهم أرباباً من دون الله: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 64) ،
[مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي
مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ
يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ]
(آل عمران: 79-80) .
وقد رأينا هذه الحقيقة العظيمة الناصعة التي يهديها الإسلام للبشرية جمعاء
تتجسد في الحياة الواقعية على لسان ربعي بن عامر رسول سعد بن أبي وقاص -
رضي الله عنهما - قائد الجيش الإسلامي إلى الفرس حينما التقى مع القائد الفارسي
رستم وهو بين حشمه وجشمه وفي ذروة زهوه وكبريائه قال له: جئنا لنخرج
الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله.
3- إغاثة المظلوم ونصرة المستضعف وحمايتهما والنصفة لهما من الظالم
والقوي: فقد أتاح القرآن ملجأً شرعياً هاماً لجميع المستضعفين والمظلومين في
أنحاء المعمورة، وجعل الدفاع عن المظلوم والمستضعف من وظائف المسلمين فرداً
وجماعة، وانطلاقاً من هذا أخذ الدفاع عن المظلوم - لا عن دمه فقط بل عن دمه
وعرضه وكرامته - محلاً رئيساً له في الفقه الإسلامي تحت عنوان: «باب
الصيال» ويرى الفقه الإسلامي انطلاقاً من النصوص في إغاثة المظلوم الثابتة في
الكتاب والسنة التي سنذكر بعضها منها أن المسلم إذا لم يدافع عن المظلوم يأثم
ويستحق العذاب.
فمن تلك النصوص:
[وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ
وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً] (النساء: 75) ، [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] (إبراهيم: 42) ،
[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102) ،
[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ
تُنصَرُونَ] (هود: 113) .
كما نجد تلك الحقيقة الناصعة والسمة الحضارية القرآنية التي هي من أكثر
الأمور تحريكاً للعجلة الحضارية تتجلى كواقعة حياتية لا مثالية تبقى بين الخيالات
المرغوبة والأحلام الحلوة على لسان الصدِّيق رضي الله عنه في أول خطبته التي
ألقاها حينما انتخب خليفة للمسلمين وهي أول خطوة إجرائية في خلافته؛ حيث قال:
«أما بعد: فإني وليت عليكم ولست بخيركم، واعلموا أن القوي فيكم ضعيف
عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق» .
4- المعاني النبيلة والفضائل السامية المملوءة حيوية ونشاطاً ونبلاً إنسانياً لا
تختص بأمة دون أمة والتي هي في أية حضارة كانت؛ فهي كالروح للجسد فلم
تخلُ أية حضارة منها إلا وأذن بالرحيل ركبها وانهار بعد غِيَرٍ كثيرة بنيانها، وحان
في زمن غير طويل حينها ودمارها، إن القرآن أتى في باب الفضائل والمكارم
وترسيخهما في المجتمع الإنساني وتشييد ذلك البنيان الإنساني وتحكيمه بروابط
وأواصر خلقية اجتماعية لا مثيل لها ولا عديل ولا نظير لها ولا بديل؛ فلقد أتى في
هذا الباب بما لم يسبقه ولا يلحقه لاحق: حيث بث روح الإخاء والتعاون والتساند
والتكافل بين جميع أبناء الأمة: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) كما أمر بالإحسان ونشر الفضيلة والعدل بين
جميع طبقات الناس، ونهى عن جميع المنكرات والفحشاء: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ] (النحل: 90) ، وكفى بهذين النصين في هذا الباب شاهداً عدلاً.
5- من المعاني الدالة على عالمية القرآن الكريم: ما ورد فيه من الأدلة على
ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم كالتصريح بختم النبوة بنبينا محمد صلى الله
عليه وسلم قال تعالى: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً] (الأحزاب: 40) .
قال الشربيني: «أي آخرهم الذي ختم؛ لأن رسالته عامة ومعها إعجاز
القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال» (السراج المنير3/237) .
ومن هذه الأدلة: عموم الرسالة المحمدية؛ حيث قال تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً] (الأعراف: 158) .
فالرسالة المحمدية عامة، وهذا القرآن حجة على كل من بلغه، لما قال-
سبحانه -: [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ] (الأنعام: 19) .
فالقرآن حجة على كل من بلغه من جميع الإنس والجن وإلى قيام الساعة.
ترى معي أن جميع هذه المعاني المذكورة بوصفها دلائل على عالمية القرآن
إنما هي مما لها علاقة وثيقة بالكيان الإنساني المطلق من غير تقييد بجنس أو تحديد
ببقعة أو تخصيص بطبقة أو تعيين بلون، ولها صلة محكمة بالهوية الإنسانية العامة
المطلقة بلا تفريق ولا تمييز وبذلك يتجلى معنى هذه الكلمة الإلهية الحكيمة المدوية
عبر العصور والقرون التي تطن في أذن التاريخ دوماً: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) .
فإذاً لا ضير علينا من مزاعم أولئك المغرضين على الإسلام وأهله، ولا
ضير أيضاً على أذنابهم المتملقين لهم بتاريخانية القرآن؛ فإن الحقيقة أظهر من أن
تخفى، والشمس أبهر من أن تختفي عن العيون بإغماض الخفاش عينها منها، أو
بإنكار الأعمش لها كما قال الشاعر قديماً:
قد تُنكر العينُ ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم