مجله البيان (صفحة 3629)

الافتتاحية

من أروقة المفاوضات

على الرغم من الإعلان الرسمي عن إخفاق مباحثات (كامب ديفيد الثانية) ،

إلا أن استمرار المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني، واليهودي برعاية أمريكية،

ثم الإعلان عن رغبة المفاوض اليهودي - خصوصاً - بجعل المفاوضات سريةً

إلى أن يتم الاتفاق على حل يرضي الطرفين، يثير تساؤلات عديدة، وينبئ عن أنَّ

وراء الأكمة ما وراءها..! !

وكما أنَّ المفاوض الفلسطيني في أمريكا عام (1993م) فوجئ أثناء

المفاوضات بالإعلان عن اتفاقية (أوسلو) التي تضمنت سلسلةً من التنازلات

المخزية، وتجاوزات لكثير من الثوابت التي ظلت السلطة الفلسطينية تتشدق بها

ردحاً من الزمن؛ فلا يستغرب على الإطلاق أن يفاجأ العالم باتفاق جديد بين

الفلسطينيين واليهود، يكشف عن حلقات جديدة من التزييف والتلاعب بالعقول..!

ولعلنا نشير هنا إلى بعض الحقائق المهمة من أروقة المفاوضات التي تؤكد

المؤامرة الكبرى على فلسطين، والسعي المحموم لترسيخ الهيمنة الصهيونية عليها:

أولاً: الرعاية الأمريكية لإسرائيل:

بعد إعلان وعد بلفور في عام (1917م) سارع الرئيس الأمريكي (وودرو

ولسون) بمباركة ذلك الوعد، وبعث برسالة إلى زعيم الصهيونية الأمريكية

(ستيفن وايز) يصادق فيها بشكل رسمي على وعد بلفور، على الرغم من تحفظات

وزير خارجيته (روبرت لانسنج) لاعتبارات سياسية آنذاك، وفي عام (1922)

وافق مجلسا الشيوخ والكونجرس رسمياً على وعد بلفور.

وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل في 14/5/1948م أعلن الرئيس الأمريكي

(هاري ترومان) اعترافه بهذه الدولة الوليدة حتى قبل أن تطلب منه إسرائيل ذلك

رسمياً، ثم بادرت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم منحة مالية لإسرائيل، قدرها

مئة مليون دولار (وهي تعادل موازنة مصر , والعراق , وبلاد الشام في ذلك

الوقت) ، ثم أخذت الولايات المتحدة الأمريكية تمارس ضغوطاً كبيرةً على الدول

المختلفة؛ لتعلن اعترافها، ودعمها لدولة إسرائيل.

وقد تتابع دعم الإدارات الأمريكية لتثبيت الوجود اليهودي في فلسطين، حتى

إن الرئيس (ريتشارد نيكسون) قال في كتابه الشهير (1999 نصر بلا حرب) :

(إن التزامنا ببقاء إسرائيل التزام عميق؛ فنحن لسنا حلفاء رسميين، وإنما يربطنا

معاً شيء أقوى من أي قصاصة ورق، إنه التزام معنوي، إنه التزام لم يخلَّ به أي

رئيس في الماضي أبداً، وسيفي به كل رئيس في المستقبل بإخلاص، إن أمريكا

لن تسمح أبداً لأعداء إسرائيل الذين أقسموا على النَّيْل منها بتحقيق هدفهم في

تدميرها) .

ويلخص الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) موقف الرؤساء الأمريكيين بقوله

أمام الكنيست الإسرائيلي في عام (1979م) : (لقد جسد من سبقني من الرؤساء

الأمريكيين الإيمان حين جعلوا من العلاقات بين الولايات المتحدة، وإسرائيل أكثر

العلاقات خصوصيةً، إنها علاقات فريدة؛ لأنها متأصلة في ضمير الشعب

الأمريكي، وفي أخلاقه، وفي دينه، وفي معتقداته..!) .

وها هو ذا الرئيس الأمريكي الحالي (بيل كلينتون) يعلن مراراً أنه: (لن

يخذل إسرائيل أبداً!) ، فتراه يبذل كافة إمكاناته السياسية لدعم اليهود، وترسيخ

أقدامهم، والضغط على مناوئيهم.

بل إن المرشحين للرئاسة الأمريكية القادمة يتنافسان في إعلان الولاء

لإسرائيل؛ فالمرشح الجمهوري (جورج بوش الابن) وعد بنقل السفارة الأمريكية

من تل أبيب إلى القدس عقب انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وقال في

كلمة أمام اجتماع لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية (إيباك) : (سيحدث

شيءٌ مَّا عندما أُصبِح رئيساً، فبمجرد أن أتولى المنصب سأبدأ عملية نقل السفير

الأمريكي إلى المدينة التي اختارتها إسرائيل عاصمةً لها..!) .

أما المرشح الديمقراطي (آل جور) فقد فاجأ الجميع بترشيحه للسناتور

(جوزف ليبرمان) لمقعد نائب الرئيس، وقال في لقاء مع عدد من قادة اليهود

الأمريكيين: (إن رغباتكم وتطلعاتكم هي رغباتي وتطلعاتي!) .

كل هذه الدلائل تؤكد الانحياز الأعمى، والدعم غير المحدود من الولايات

المتحدة الأمريكية لإسرائيل، ومن ثَمَّ فإن الراعي الأمريكي لمفاوضات السلام لا

يظهر بمظهر الراعي المتجرد الباحث عن حل عادل، وهو لا يخفي ولاءه

لإسرائيل، ولا يتردد في المدافعة عن مطالبها، وتعجب أشد العجب من غفلة، أو

تغافل أولئك المتهافتين على السلام من أدعياء العروبة تهافت الجراد على النار

المحرقة، وهم يرون هذه الحقائق ماثلةً بين أيديهم عياناً بياناً لا تشوبها شائبة..!

وصدق المولى الحق - جلَّ وعلا - إذ يقول: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ

قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ

الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46) .

ثانياً: الدولة اليهودية دولة دينية:

من الحقائق الثابتة التي لا جدال فيها أن الدولة اليهودية بنيت بناءاً دينياً

محكماً، وكان للحاخامات دور بارز في صناعة الحياة السياسية اليهودية وإدارتها،

وإذا كان يحلو لبعض العلمانيين العرب التأكيد على أن الحزبين الرئيسين في

إسرائيل (العمل، والليكود) حزبان علمانيان، وأن الأحزاب الدينية المتطرفة في

إسرائيل لا تمثل إلا أقليةً محدودةً في الشارع اليهودي؛ فإن حزبَيِ (العمل،

والليكود) يؤكدان انتماءهما الديني، وحرصهما على تحقيق التعاليم التلمودية، ولا

يترددان في إعلان هذه الهوية، والاعتزاز بها.

وقد أدار المفاوض اليهودي مؤتمرات السلام مع العرب عامةً، والفلسطينيين

خاصةً منطلقاً من هذه القاعدة التلمودية، ولهذا لم يكن غريباً على الإطلاق أن يكون

أحد أعضاء الفريق اليهودي المفاوض المرافق لباراك من الحاخامات..! !

وفي أثناء انعقاد مؤتمر كامب ديفيد الثاني أصدر عدد من كبار حاخامات

إسرائيل فتوى تحظر على الحكومة الإسرائيلية تسليم بلدات فلسطينية قريبة من

محيط مدينة القدس، وذكرت صحيفة (معاريف) : أن حاخامات (أدمورات) ،

ورؤساء مدارس دينية (يشيبوت) من أعضاء مجلس كبار علماء التوراة - وهو

المرجع الأعلى للفتاوى والتشريعات الدينية اليهودية في إسرائيل - وزعوا بياناً

موقعاً بأسمائهم تضمن رأياً دينياً مستمداً من كتاب التوراة اليهودية يؤكد عدم جواز

تسليم بلدات أبو ديس، والعيزرية، والسواحرة الشرقية إلى الفلسطينيين،

ووضعها تحت سيادتهم.

ثالثاً: القدس جزء من العقيدة اليهودية:

أعلن رئيس الوزراء اليهودي السابق (ديفيد بن جوريون) أنه: (لا معنى

لإسرائيل من غير القدس، ولا معنى للقدس من غير الهيكل!) ، وصرح وزير

الأديان اليهودي عقب احتلال القدس عام (1967م) بأن: (أرض الحرم ملك

يهودي بحق الاحتلال، وبحق شراء أجدادهم لها منذ ألفي سنة) ، ودرجت

الحكومات اليهودية المتعاقبة على ترسيخ الصبغة اليهودية في المدينة المقدسة،

وبناء المستوطنات اليهودية في جميع أجزائها، وأعلن الرئيس الحالي (إيهود

باراك) شعاره الانتخابي المعروف: (نريد أن نصبغ القدس الشرقية بالطابع

اليهودي الخالص) .

ولقد حمل (إيهود باراك) هذه العقيدة معه إلى كامب ديفيد، وأعلن بوضوح

قبل بدء المفاوضات أن القدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية، وفي الوقت الذي كان

فيه باراك يفاوض الفلسطينيين في كامب ديفيد كان (حاييم رامنون) الوزير

المكلف بشؤون القدس، و (إبراهاما شوحاط) وزير المالية الإسرائيلي، و (سالي

مريدور) رئيس الوكالة اليهودية، و (إيهود أولمرت) رئيس بلدية القدس يجرون

مباحثات مكثفةً - تنفيذاً لتعليمات باراك - لتعزيز الوجود اليهودي في القدس

الشرقية.

ولهذا راح المفاوض اليهودي - ومن ورائه الراعي الأمريكي - يطرح حلولاً

ترقيعيةً لعلاج مشكلة القدس، ويساوم المفاوض الفلسطيني؛ ليحظى بمزيد من

التراجعات والتنازلات..! !

ولكن: هل ظل المفاوض الفلسطيني مصرّاً على تشبثه بالحقوق الإسلامية،

ولم يذعن للتوبيخ، والتهديد، والضغط الأمريكي..؟ !

والذي نحسبه أنَّ المفاوض الفلسطيني باع أشياء كثيرةً بثمن بخس، وتخلَّى

عن مسلَّمات عديدة، بل غيَّر الدستور والميثاق [1] ، وتجاوز ثوابت لا تخطر على

بال، والقدس عنده أرض، كبقية الأراضي يمكن استبدالها بأي أرض أخرى!

ولكنه يعلم يقيناً أنَّ التفريط بها هو قاصمة الظهر، ومسمار النعش، خاصة أن

الشعوب العربية لم تتهيأ بعدُ لمثل هذاالتحول الخطير؛ ولهذا يمكن أن تُسرَّب بعض

الحلول الأمريكية واليهودية لجس نبض الشارع الفلسطيني والعربي، وقياس

إمكانية القيام بتغييب الوعي العربي، وغسيل الدماغ الفلسطيني، كما حدث في

مسائل أخرى معقدة!

فكما أنَّ السلام مع إسرائيل كان خيانةً عظمى، وخروجاً عن الصف العربي

قبل عشرين عاماً، أصبح اليوم بعد سلسلة طويلة من التخدير والتجهيل رمزاً من

رموز الواقعية، واسترداد الحقوق العربية، ومعارضوه هم المتطرفون الإرهابيون,

وكذلك القدس يمكن أن يكون التخلي عنها في الوقت الراهن جريمةً لا تغتفر، أما

بعد سنوات في ظل السلطة الفلسطينية فيمكن أن تكون واقعاً لا فكاك منه إذا أُحسن

ترويض الناس وتغييبهم، والزمن كفيل بتغيير العقول وصناعة الآراء والقناعات

التقدمية المنفتحة! ! وانظر مثلاً كيف كان العرب يطالبون قديماً بفلسطين المحتلة

فأصبحوا الآن لا يتحدثون إلا عن الأراضي المحتلة في عام 1967م، وانظر إليهم

قديماً يطالبون بالقدس، فأصبحوا الآن لا يتحدثون إلا عن القدس الشرقية فقط.

رابعاً: الحرب دينية من طرف واحد فقط:

لقد نجح اليهود منذ بداية تأسيس دولتهم في عزل الإسلام عن ساحة المعركة،

وهم يدركون تماماً أنه لا يمكن أن يقف في طريقهم إلا الراية الإسلامية، وقديماً قال

ديفيد بن جوريون: (نحن لا نخشى خطراً في المنطقة سوى الإسلام!) ، بل إن

شمعون بيريز قال: (إنَّه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام

شاهراً سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد!) .

نعم.. لقد جرب اليهود الشعارات العربية الثورية، وخبروها خبرة تامة،

وأدركوا أنها هراء محض، يُراد بها تحقيق مكاسب نفعية حزبية وشخصية،

ويسهل ترويضها وتدجينها، وكما قال الشاعر:

ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

ولهذا جنَّ جنون اليهود لمَّا قامت الانتفاضة الفلسطينية المباركة مرددةً آيات

القرآن العظيم، يحدوها الحنين لإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى، واستعادة

أمجاد صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله تعالى -:

خرجوا على الأعداء يلقون الحجر ... ويكبرون وفي حناجرهم عمر

فإذا الحجارة في الصباح قنابل ... الطفل ليث في المعارك والخطر

فكانت دعوات السلام من أجل إيقاف هذا المدِّ الإسلامي ووأده في مهده،

وليس غريباً على الإطلاق أن تتولى السلطة الفلسطينية هذا الدور بتفان كبير،

حتى إن وزير العدل في السلطة الفلسطينية أكد أنهم لن يسمحوا بوقوع أية عمليات

عسكرية ضد الدولة اليهودية، بل إن الرئيس ياسر عرفات أعلن خلال استقباله

وفداً من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي في عام (1996م) أنَّ عدد المعتقلين من

الإسلاميين من أعضاء حركتي حماس والجهاد بلغ في سجون غزة (900) معتقل،

ممَّا جعل شمعون بيريز يعلن ارتياحه ورضاه عن الجهود التي بذلتها السلطة

الفلسطينية للقضاء على الإسلاميين..!

وتأكيداً على طبيعة الهوية الفلسطينية القادمة نرى ياسر عرفات يؤكد بمناسبة

وبغير مناسبة أنَّ الدولة الفلسطينية الموعودة دولة علمانية (! !) ، وكأنه يريد أن

يقدم مزيداً من الطمأنات للدولة اليهودية وحلفائها في الغرب والشرق؛ حتى إنَّ

الشيخ عكرمة صبري إمام المسجد الأقصى لمَّا أفتى بعدم جواز التنازل عن الحق

بالعودة للاجئين، والقبول بالتعويض لمن لا يرغب في العودة؛ استنكرت السلطة

الفلسطينية الفتوى بشدة، وقال الطيب عبد الرحيم الأمين العام للرئاسة الفلسطينية:

(إن المفتي ليس زعيم فصيل سياسي أو حركة؛ ولذا لا يحق له إصدار فتوى في

قضايا سياسية، وطلب من المفتي عدم التدخل في تلك القضايا..! !) ، وكأن

السلطة الفلسطينية تعلن للملأ أنه لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة.

حرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس!

إنَّ أمام الإسلاميين عامةً، والفلسطينيين خاصةً بمختلف فصائلهم وأحزابهم

أمانة عظيمة، ومسؤولية جسيمة؛ فالمنطقة تمر بمفرق طريق، ومنعطف خطير،

وقد آن الأوان لرص الصفوف وتنسيق الجهود، والنظر إلى المستقبل بعين بصيرة

مدركة؛ فالأمر قد تجاوز الرؤى المرتجلة، والجهود الفردية المبعثرة، والبرامج

الهزيلة المشتتة. إنَّ الأمر جد وليس بالهزل.. فهل نعي ذلك..؟ !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015