في الولاء والبراء
-3-
الشيخ/ بكر أبو زيد
ملخص ما سبق:
الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على هجر المبتدع ديانة، وقد ذكر آية
سورة الأنعام، والآن يشرع في الدليل الثاني.
2 - ومنها قوله تعالى: النساء 140:
[وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا ويُسْتَهْزَأُ بِهَا
فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذاً مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ
والْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً]
قال القرطبي رحمه الله تعالى ما محصله:
(فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن
من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله عز وجل: [إنَّكُمْ
إذاً مِّثْلُهُمْ] فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر
سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على
النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية..
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى [1] ... وروى جويبر عن الضحاك قال: (دخل في هذه الآية كل محدث في الدين
مبتدع إلى يوم القيامة) [2] . وقال القرطبي أيضاً رحمه الله تعالى عند قول الله
تعالى: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ، ومضى في النساء، وهذه السورة النهي عن
مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال: [وإذَا رَأَيْتَ
الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا] الآية، ثم بين في سورة النساء، وهي مدنية. عقوبة
من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال: [وقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ] الآية،
فألحق من جالسهم بهم.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات في
مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم: أحمد بن حنبل والأوزاعي،
وابن المبارك، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا: ينهى عن
مجالستهم فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم) [3] .
وقال الشوكانى رحمه الله تعالى:
(وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب:
دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة
الشرعية كما يقع كثيراً من أسراء التقليد…) [4] .
3- ومنها قوله تعالى في سورة هود/ 113:
[ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ
ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(الصحيح في معنى هذه الآية أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصى
من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن
مودة، وقد قال حكيم - أي طرفة بن العبد -: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتقية فقد مضى القول
فيها في: آل عمران، والمائدة، وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال
الاضطرار، والله أعلم) [5] .
4-ومنها قول الله تعالى:
[لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ
كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم] [المجادلة: 22] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
(استدل مالك رحمه الله تعالى من هذه الآية على معاداة القدرية، وترك
مجالستهم، قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقوله تعالى: [لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ] قلت: وفي
معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان) [6] .
ثانياً - ومن السنة النبوية:
وهي كثيرة يترجم لها المحدثون في عدة أبواب:
أ - ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى: باب الهجرة وقول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث. وباب ما يجوز
من الهجران لمن عصى. وباب من لم يسلم على من اقترف ذنباً، ومن لم يرد
سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ وقال عبد الله بن عمرو: لا
تسلموا على شربة الخمر [7] .
ب - وفي سنن أبي داود رحمه الله تعالى: باب مجانبة أهل الأهواء أو
بغضهم، وباب ترك السلام على أهل الأهواء [8] .
ج -وفي رياض الصالحين للنووي رحمه الله تعالى: باب تحريم الهجر بين
المسلمين إلا لبدعة في المهجور أو تظاهر بالفسق [9] .
د- وفي شرح السنة للبغوي رحمه الله تعالى: باب مجانبة أهل الأهواء [10]
هـ- وفي الترغيب والترهيب للمنذري رحمة الله تعالى: الترهيب من سب
الأشرار وأهل البدع لأن المرء مع من أحب [11] .
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
«سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه [12] .
قال البغوي رحمه التعالى بعده: (قد أخبر النبي لهم عن افتراق هذه الأمة،
وظهور الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته، وسنة أصحابه رضي
الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء والبدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حياً وميتا، فلا يسلم
عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق) [13] .
والنهي عن الهجران فوق ثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق
الصحبة والعشرة دون ما كان كذلك في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع
دائمة إلى أن يتوبوا) اهـ.
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا
تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» .
رواه أحمد، والطبراني والحاكم [14] .
والأحاديث بمعناه كثيرة عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو،
وعمر، وابن عباس، وغيرهم رواها جميعاً الإمام أحمد في مسنده، وشاركه في
رواية بعضها: أبو داود، والترمذي، والحاكم، والطبراني، وغيرهم. والله أعلم..
3-عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
هذه الآية [هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ
ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ومَا
يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)
متفق عليه [15] .
وابتغاء المتشابه من مآخذ أهل البدع في الاستدلال، وقد حذر النبي -صلى
الله عليه وسلم- منهم بقوله: «فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» .
4 - حديث الصحيفة المشهور عن علي رضي الله عنه عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- وفيه: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً أو
آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ... » الحديث متفق عليه [16] .
5 - حديث: «سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم
على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد علي الحوض» [17] رواه
الترمذي.
6-وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: «ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون
وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف:
يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن
جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من
الإيمان حبة خردل» رواه مسلم [18] .
7 - الأحاديث المتكاثرة في: هجر النبي لأهل المعاصي حتى يتوبوا، ثبت
ذلك في وقائع متعددة، رواها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم، منهم: كعب بن مالك، وابن عمرو روى حديثين،
وعائشة وأنس، وعمار، وعلي، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم رضي الله
عنهم [19] .
فهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم
لما تخلفوا عن غزاة تبوك، واستمر هجرهم خمسين ليلة، حتى آذن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله عليهم (رواه الشيخان وغيرهما) .
وهجر -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش رضي الله عنها قريباً من
شهرين لما قالت أنا أعطبى تلك اليهودية - تعنى صفية رضي الله عنها. رواه أبو
داود من حديث عائشة رضي الله عنها.
وهجر -صلى الله عليه وسلم- صاحب القبة المشرفة بالإعراض عنه حتى
هدمها. رواه أبو داود من حديث أنس رضي الله عنه.
وهجر -صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر رضي الله عنه بتركه -صلى
الله عليه وسلم- رد السلام عليه لملابسته الخلوق حتى غسله. رواه أبو داود في
سننه والطيالسي كلاهما من حديث عمار رضي الله عنه.
وهجر -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بالإعراض عنه؛ لأنه كان متخلقاً
بخلوق.. رواه البخاري في: الأدب المفرد من حديث علي بن أبي طالب رضي
الله عنه.
وهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً رأى في يده خاتماً من ذهب حتى
طرحه، وكان هجره له بالإعراض عنه. رواه أحمد والبخاري في: الأدب المفرد
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ونحوه من حديث أبي سعيد الخدري رضي إلى عنه (رواه النسائي والبخاري
في: الأدب المفرد) .
وهجر النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بترك رد السلام عليه وذلك لأن
عليه ثوبين أحمرين (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي) .
فهذه الأحاديث وما في معناها نص في مشروعية هجر العاصي المجاهر بمعصيته
حتى يتوب ويفيء، وعليه: فإن الاستدلال بها على هجر المبتدع هو من باب
الأولى في الدلالة على: مشروعية هجره ديانة لاسيما وهو المخصوص بأوصاف:
البدعة في الدين، والإحداث والضلال، دون العاصي، وإلى هذا أشارت تراجم
جماعة من المحدثين على هذه الأحاديث وما في معناها كما تقدم في صدر هذه الأدلة
من السنة، والله أعلم.
8 - توظيف الصحابة رضي الله عنهم فَمَن بعدهم لهذه السنة النبوية.
والصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم تقفوا أثر النبي -صلى الله عليه وسلم-
في هجر المتلبس بالمعصية المجاهر بها حتى يفيء. ورد ذلك عن جمع غفير
منهم [20] :
عمر، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد
الله بن مسعود، وعبد الله بن المغفل المزني، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء،
وسمرة بن جندب، وشيخ من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم
رضي الله عنهم.
وعن سعيد بن جبير، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، والحسن
البصري، وأحمد بن حنبل، وزياد بن حدير، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم
رحمهم الله تعالى..
فإلى ذكر بعضها مختصراً: فهجر عمر رضي الله عنه: زياد بن حدير لما
رأى عليه طيلساناً وشاربه عافيةً، إذ سلم زياد فلم يرد عليه عمر السلام حتى خلع
الطيلسان وقص شاربه. رواه أبو نعيم في الحلية.
تنبيه:
كيف بنا اليوم، ونحن نتهلل بالحفاوة لمن يحلق لحيته ويعفي شاربه، ويتشبه
بلباسه.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. كان يعتقل أصحاب النرد غدوة ونحوها، وينهى عن السلام عليهم. رواه البخاري في الأدب المفرد، وترجم له بقوله:
باب من لم يسلم على أصحاب النرد.
وهجر عبد الله عمر رضي الله عنهما. رجلاً رآه يخذف بعدما أعلمه أن النبي
-صلى الله عليه وسلم-كان ينهي عن الخذف. وقال: والله لا أكلمك أبداً. رواه
الحاكم.
وهجر عبد الله بن المفضل رضي الله عنه: رجلاً يخذف في نحو قصته.
وهجر شيخ من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فتى كان يخذف. رواه الدارمي.
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه هجر معاوية رضي الله عنه في مخالفته
له في مسألة ربوية وقال عبادة: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وتحدثني عن رأيك لئن أخرجنى الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة، ولما
خرج شكاه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر: لا إمرة لك عليه واحمل
الناس على ما قاله فإنه هو الأمر. رواه ابن ماجه.
ونحو هذه الرواية وقعت لأبي الدرداء مع معاوية رضي الله عنهما. رواها:
مالك، والشافعي.
وهجر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً رآه يضحك في جنازة، فقال. والله لا أكلمك أبداً. رواه أحمد في: الزهد.
*يتبع *