المسلمون والعالم
كامب ديفيد
وتكريس الهيمنة اليهودية البروتستانتية
على العالم الإسلامي
حسن الرشيدي
«إن هذه المفاوضات تمس جوهر هوية كل من الطرفين» .
هذه العبارة كانت جزءاً من رسالة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في دعوته
لرئيس وزراء إسرائيل باراك ورئيس السلطة الفلسطينية عرفات لحضور قمة كامب
ديفيد الثانية، وما لم يذكره كلينتون عن تأثير المفاوضات ليس على هوية طرفيها
العربي واليهودي فقط ولكن لها تأثيرها أيضا على هوية الطرف الأمريكي.
فكثيرون ينظرون إلى جوهر هذه القضية باعتبارها أرضاً محتلة وشعباً مشرداً
ومستوطنات ومعتقلين، ولكن النظرة العقيدية لهذه القضية هي أخطر من ذلك بكثير
؛ فهي معركة من سلسلة معارك متواصلة منذ أن خلق الله هذه الأرض، معركة بين
الباطل والحق، بين الكفر والإيمان، بين فئة نعرف جيداً أوصافها وخصائصها
وتفاصيل علوها في الأرض وطبيعته، ونعرف أيضاً طبيعة المعركة بيننا وبينهم
وإلى ماذا تنتهي؛ بيَّنها لنا مالك الملك في كتابه وفسَّرها نبينا صلى الله عليه وسلم
في سنته.
ولمحاولة فهم ما يدور في أروقة كامب ديفيد من مخططات ومشاريع يجب
علينا استنباط المشروع الرئيس الذي ينبثق منه ما بعده. ونقصد بالمشروع:
المخطط البروتستانتي اليهودي للهيمنة، والذي بدأت خلفياته تظهر على مسرح
الأحداث منذ ما يقرب من مائة عام. وإن كانت بداياته قبل ذلك بكثير.
ففي القرن السادس عشر ظهر المذهب البروتستانتي على يد مارتن لوثر الذي
دعا إلى وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم
رجال الدين له، وفي ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت
شعار العودة إلى الكتاب المقدس باعتباره مصدر العقيدة النقية؛ وبذلك أصبح
البروتستانت مهيئين للاعتقاد بما ورد في العهد القديم وخاصة ما يتعلق منها بوجود
اليهود في فلسطين باعتبارها وطنهم الذي أخرجوا منه والذي يجب أن يعودوا إليه
طبقاً للنبوءات الواردة في العهد القديم. وهكذا مع انبعاث التاريخ القديم بكل
تفاصيله وحكاياته التوراتية تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض
المقدسة للمسيحيين إلى أرض الشعب المختار مما أيقظ قضية انبعاث اليهود
وعودتهم الجماعية إلى فلسطين؛ حيث يظهر المسيح للمرة الثانية، ويحكم لألف
عام. وقد آمن بعض البروتستانت بضرورة اعتناق اليهود للمسيحية تمهيداً لقدوم
المسيح، وآمن بعض آخر بإمكان تحولهم هذا بعد قدومه.
جرت أول المحاولات البروتستانتية لإرجاع اليهود إلى فلسطين عام 1628م؛
حيث أسس عالم اللاهوت توماس بريتمان حركة العودة بين البروتستانت تنطلق
من إيمان النصارى بعودة اليهود إلى فلسطين، وبعد ذلك توالت المحاولات
البروتستانتية لتأسيس حركات شعبية تنطلق من الفكرة ذاتها حتى كان القرن التاسع
عشر حين تم الربط لأول مرة بين الأفكار العقدية مع السياسة البريطانية، ومنذ ذلك
الحين بدأ ما وصفه دافيد بولك بـ «الاتحاد العجيب بين السياسة الإمبراطورية
ونوع من الصهيونية المسيحية» ؛ ففي عام 1839م تلقى بالمستون وزير خارجية
بريطانيا مذكرة من هنري آسن سكرتير البحرية البريطانية موجهة إلى كل دول
شمال أوروبا وأمريكا البروتستانتية تطالب حكام هذه الدول بأن يقتدوا بقورش،
وينفذوا إرادة الله عن طريق السماح لليهود بالعودة إلى فلسطين، وقد قام بالمستون
برفع المذكرة إلى الملكة فكتوريا، وبذلك بدا أن البروتستانت لا يتوانون عن عقد
اللقاءات وطرح المشاريع على رجال الدولة والقيام برحلات استكشافية لدراسة
فلسطين وتهيئتها لعودة اليهود إليها؛ في حين أن اليهود أنفسهم في ذلك الوقت كانوا
آخر من يفكر في هذا الأمر؛ حيث كانوا يعتقدون أن المسيح سوف يجيء
ويحررهم ويذهب بهم إلى الأرض المقدسة بمعجزة إلهية، ولكن مع ستينيات القرن
التاسع عشر بدأت تتغير نظرة اليهود إلى وجوب عودتهم لأرض الميعاد لضمان
نزول المسيح في معتقدهم.
هذه أهم ملامح المشروع اليهودي البروتستانتي التي تكونت وتبلورت عبر
حوالي ثلاثة قرون؛ وكان البروتستانت كما بينا هم السباقين إلى طرحه، ويبقى
السؤال الأهم وهو: كيف تحقق هذا المشروع على أرض الواقع، ووصل إلى ما
وصل إليه الآن؟ أو ما هي آليات تنفيذه؟
لا شك أن تنفيذ هذا الحلم تم عبر مراحل طويلة:
المرحلة الأولى: التحضير والدور البريطاني:
وقوامه: طرح موضوع الدولة اليهودية على الصعيد العالمي، وتشجيع
الهجرة؛ وبناء الجيش العبراني، وتهيئة جميع الظروف لإعلان دولة إسرائيل.
تبدأ هذه المرحلة مع مطلع سنة 1897م وعقد المؤتمر اليهودي الأول بزعامة
هرتزل في بازل بسويسرا بعد أن وجدت الحركة اليهودية كافة الأمور قد تم تمهيدها
من قِبَل البروتستانت الإنجليز، ولم يكن مطلوباً منها سوى تبني هذه الدعوة نيابة
عن اليهود في كل مكان، والعمل على استغلال كافة العوامل العقائدية والسياسية
والاقتصادية؛ بالإضافة إلى المتغيرات الدولية لصالحها، وقد برز عامل مهم
بالإضافة إلى العوامل السابقة ألا وهو: قلق حكومات الغرب من هجرة يهود أوروبا
الشرقية فراراً من الاضطهاد. حينئذ اقترح هرتزل توجيه اليهود للهجرة إلى وطن
يتم الاعتراف به قانونياً وطناً يهودياً؛ وبما أن فلسطين في هذه الفترة كانت خاضعة
للسيطرة التركية فلم يكن في مقدور الحكومة البريطانية إعطاء أي التزام للحركة
اليهودية تجاه فلسطين؛ ولكن حين سمحت الفرصة خلال الحرب العالمية الأولى
باستيلائها على فلسطين عام 1917م أصدر اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني
حينئذ وعده الذي ينص على إعطاء اليهود وطناً قومياً في فلسطين. ويصف السير
رونالد ستوز في كتابه: (استشراقات) الصدى الذي لقيه صدور الوعد بقوله:
«لقي الوعد صدى رائعاً واستحساناً في الصحافة؛ يضاف إلى ذلك ما حظي به
من التأييد العام والكبير لدى آلاف الكهنة الإنجليكانيين والقساوسة البروتستانت
وغيرهم من الرجال المتدينين في سائر أنحاء الكرة الغربية» ؛ وقد علق هربرت
صموئيل المندوب السامي البريطاني على ذلك الوعد قائلاً: «هناك عطف واسع
الانتشار وعميق الجذور في العالم البروتستانتي على فكرة إرجاع الشعب
العبراني إلى الأرض التي أعطيت ميراثاً له، وهناك اهتمام شديد بتحقيق النبوءات
التي توقعت ذلك مسبقاً» .
بعد صدور وعد بلفور سعت بريطانيا جاهدة للحصول على موافقة الحلفاء
لإخضاع فلسطين للانتداب البريطاني، وقد تم ذلك؛ ففي إبريل 1920م وافق
المجلس الأعلى للدول المتحالفة في سان ريمو على أن يوكل للحكومة البريطانية
مهمة الانتداب على فلسطين، وتم لها قانونياً عام 1923م عندما وقعت تركيا
أتاتورك معاهدة لوزان.
وهكذا حصلت بريطانيا على ما تريد لتحقيق الحلم اليهودي عن طريق وضع
فلسطين تحت الانتداب الذي تم في ظله فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية،
ومكنت سلطات الانتداب اليهود من شراء الأراضي وتأسيس نواة الجيش الإسرائيلي
وحتى في بعض الحالات التي وجدت فيها الحكومة البريطانية أن بعض المسؤولين
يقفون حائلاً أمام سرعة تنفيذ المشروع كما تريد قامت بإبعادهم كما فعلت مع
الجنرال بولز الحاكم العسكري لفلسطين في بداية الانتداب؛ فقد قدم بولز لحكومته
توصيات طالبها فيها بانتهاج سياسة عادلة تجاه السكان العرب، فسارعت السلطات
البريطانية بإقالته وتعيين هربرت صمويل البروتستانتي المتعصب الذي ملأ الدوائر
الحكومية بالموظفين اليهود، واعتمد اللغة العبرية لغةً رسمية في فلسطين، وأمر
بإطلاق سراح الزعيم اليهودي جابوتنسكي الذي كأنت السلطات التي قبله قد حكمت
عليه بالسجن 15 عاماً، وأطلق صمويل يد الضباط البريطانيين لتقديم المساعدات
للمنظمات العسكرية اليهودية في الوقت الذي منع فيه السلاح عن العرب، وكان
أشهر هؤلاء الضباط الكابتن وينجيت؛ حيث كان ينظر إلى المساعدة التي يقدمها
لليهود أنها واجب ديني مفروض عليه أن يؤديه. ويقول عنه موشي ديان: «كان
وينجت يؤمن إيماناً لا يتزعزع بالتوراة. قبل أن ينطلق في مهمته كان يقرأ في
التوراة المقطع الذي يتحدث عن المنطقة التي سيسلكها فيجد فيه ضماناً لانتصارنا؛
انتصار إله يهوذا» .
لقد قدمت بريطانيا الأساس الذي أكمله من بعدُ الآخرون. تقول دائرة
المعارف البريطانية: «إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقي حياً في
الأذهان بفعل النصارى المتدينين وعلى الأخص في بريطانيا التي كان اهتمامها أكثر
من اهتمام اليهود أنفسهم» .
ويقول حاييم وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل: «للمرء أن يسأل: ما هي
أسباب حماسة الإنجليز لمساعدة اليهود وشدة عطفهم على أماني اليهود في فلسطين؟
والجواب على ذلك: أن الإنجليز هم أشد الناس تأثراً بالتوراة، وتديُّن الإنجليز هو
الذي يساعدنا في تحقيق آمالنا؛ لأن الإنجليزي المتدين يؤمن بما جاء في التوراة
من وجوب عودة اليهود إلى فلسطين، وقد قدمت الكنيسة الإنجليزية في هذه الناحية
أكبر المساعدات» .
المرحلة الثانية: إقامة القلعة ومركز السيطرة:
«إننا في حلف دائم وراسخ وغير قابل للفصم مع دولة إسرائيل» هذه
العبارة رددها شولتز وزير الخارجية الأمريكي عام 1985م؛ فأمريكا مثلها مثل
بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية تغلغلت في تفكير مواطنيها الأفكار والنبوءات
التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين باعتبارها مقدمة لعودة المسيح؛ ولكن
هناك عامل إضافي زاد من التعاطف الأمريكي مع اليهود ألا وهو الربط بين
تجاربهم السابقة في الفرار من الاضطهاد في أوروبا وإنجلترا والصعاب التي
واجهوها في الأرض الجديدة والأعمال الوحشية التي فعلوها ضد السكان الأصليين
وبين اليهود؛ حيث خاضوا مثلهم تجربة الاضطهاد وقام اليهود مثلهم بأعمال
وانتهاكات ضد العرب تحت دافع العامل العقدي، وهذا يفسر ما كتبه هيرمان ملفيل
متحدثاً عن الشعب الأمريكي: نحن الأمريكيين شعب خاص، شعب مختار،
وإسرائيل العصر الحاضر.
وتوالى على أمريكا الرؤساء وكلهم متفقون على الدعم اليهودي مدفوعون
بخلفياتهم البروتستانتية؛ فالرئيس توماس جيفرسون واضع وثيقة استقلال أمريكا
يقترح بأن يمثل رمز الولايات المتحدة على شكل أبناء إسرائيل تقودهم في النهار
غيمة وفي الليل عمود من النار كما ورد في التوراة.
وفي عام 1818م بعث الرئيس الأمريكي جون آدمز برسالة إلى الصحفي
اليهودي مردخاي مانوي عبر فيها عن أمنيته في أن يعود إلى جوديا يهودا لتصبح
أمة مستقلة؛ ولقد لعب الرئيس ويلسون دوراً رئيساً في صدور وعد بلفور؛ حيث
شارك في الاتصالات التي سبقت صدور الوعد وكان يقول: «إن ربيب بيت
المقدس (يقصد نفسه) ينبغي أن يكون قادراً على المساعدة في إعادة الأرض
المقدسة إلى أهلها» .
وفي عام 1922م اتخذ الكونجرس الأمريكي قراراً وقَّع عليه الرئيس هاردنج
جاء فيه: إن الاعتراف بوطن قومي لليهود أعطى بني إسرائيل الفرصة التي
حرموا منها منذ أمد بعيد لإعادة إقامة حياة وثقافة يهوديتين مثمرتين في الأراضي
اليهودية القديمة طوال الفترة السابقة. ولم يكن الدور الأمريكي الرسمي يزيد عن
التعاطف والتأييد المالي والمعنوي تاركاً المهمة لبريطانيا التي كانت في تلك الفترة
القوة المهيمنة على المعسكر الغربي، ولكن منذ أربعينيات هذا القرن بدأ مركز الثقل
في المعسكر الغربي ينتقل إلى الولايات المتحدة؛ وبذلك انتقلت قيادة المشروع
البروتستانتي اليهودي إليها.
وعندما تولى ترومان رئاسة الولايات المتحدة أصدر بياناً بادر فيه إلى المطالبة
بإدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين فوراً كما أوصى بتطبيق خطة التقسيم التي
اقترحتها عليه الوكالة اليهودية، ولعب ترومان دوراً حاسماً أثناء حرب 1948م؛
حيث عمل على استصدار قرار من مجلس الأمن بإعلان الهدنة بين القوات
المتحاربة حين كانت الجيوش العربية لها الغلبة، وعمل على إعادة تسليح
العصابات اليهودية فنجحت في إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية.
وفي عام 1967م كانت المحطة الثانية للمشروع اليهودي البروتستانتي في
تلك المرحلة؛ حيث تولى جونسون الرئاسة الأمريكية وفي عهده حصلت إسرائيل
على صفقات كبيرة من الأسلحة الهجومية والمعدات اللازمة للحرب الإلكترونية التي
تمكنت إسرائيل بفضلها من هزيمة الجيوش العربية والاستيلاء على أراض شاسعة
تفوق مساحة إسرائيل عدة مرات. ويقول جونسون في تصريح أدلى به أمام جمعية
أبناء العهد: إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديكم روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي
تماماً؛ لأن إيماني المسيحي ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً
مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث من أجل الخلاص من القهر
والاضطهاد.
لقد كان انتصار إسرائيل في حرب عام 1967م علامة فارقة في المشروع
البروتستانتي اليهودي؛ إذ إنه كان بمثابة نهاية التمدد على الأرض لهذا المشروع
بالنسبة للشق اليهودي. أما الشق الآخر البروتستانتي فقد جاء بجيوشه ليهيمن
عسكرياً على المنطقة في حرب الخليج الثانية عام 1991م.
وفي النصف الثاني من السبعينيات وصل إلى الرئاسة الأمريكية جيمي كارتر
الذي قام بجهد غير عادي لدعم إسرائيل تم تتويجه بتوقيع أول معاهدة سلام مع دولة
عربية وهي مصر وقد علل كارتر أسباب تأييده المطلق لإسرائيل؛ حيث قال: إن
علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة. لقد كانت وما زالت علاقة فريدة لا
يمكن تقويضها؛ لأنها متأصلة في وجدان الشعب الأمريكي نفسه وأخلاقه وديانته
ومعتقداته.
وفي مرة أخرى أوضح الأمر أكثر قائلاً: إنه بوصفه مسيحياً مؤمناً بالله يؤمن
أيضاً بأن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل.
ولقد بدا المفهوم العقدي واضحاً أكثر في شخصية الرئيس رونالد ريجان الذي
صرح مرة: بأنه كان يشعر عند الانتخابات الأمريكية بأن المسيح يأخذ بيده، وأنه
سوف ينجح ليقود معركة الهرماجيدون التي اعتقد أنها ستقع خلال الجيل الحالي في
منطقة الشرق الأوسط، ويبدو أن ريجان كان مؤمناً بحدوث تلك المعركة في
القريب العاجل؛ حيث قال مخاطباً المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية (إيباك) :
حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة
هرماجيدون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً؟ ولا أدري
إذا كنت قد لاحظت مؤخراً أياً من هذه النبوءات، ولكن صدقني أنها تنطبق على
زماننا الذي نعيش فيه.
وجاء بيل كلينتون إلى الرئاسة الأمريكية وكان قد زار إسرائيل عام 1981م؛
حيث وصف بنفسه هذه الزيارة بأنه تأثر بها كثيراً، وكانت زيارة دينية أكثر منها
سياسية، كما أنه تأثر كثيراً بقصة موت أحد رجال الدين المسيحيين كان قد مات
مؤخراً، وتحدث إليه طويلاً قبل ذلك؛ حيث قال له ذلك القس: إنه يأمل في أن
يصبح رئيساً للولايات المتحدة، وأنه يجب عليه أيضاً أن يحافظ على إسرائيل.
المرحلة الثالثة:
مرحلة التسوية السياسية والانتقال من مفهوم الهيمنة القائمة على السيطرة على
الأراضي والحدود في البلدان العربية إلى مفهوم السيطرة الكيفية والاستراتيجية.
فالبروفيسور شيمون شامير الذي عمل سفيراً لإسرائيل في مصر قال في
محاضرة له: «ينظر الإسرائيليون للسلام على أنه التحقيق النهائي للرؤية
الصهيونية» .
فمع اقتراب السبعينيات من نهايتها فإن ثمة بدايات مرحلة جديدة قد أخذت في
التشكل؛ ومما يؤكد هذا الاتجاه ما كشفته وثيقة أمريكية كانت قد صدرت عام
1979م كُشف عنها النقاب مؤخراً وهي من وضع عدة وزارات وجامعات ومعاهد
بحثية عليا. تتحدث الوثيقة عن تصور للشرق الأوسط يهدف إلى إقامة تعاون بين
دول المنطقة يقف في وجه أي مشروع قومي أو ديني، ويتولى الدعوة لهذا
المشروع المثقفون العرب وفي الجانب التنفيذي تطرح الوثيقة صيغة تفرض
إسرائيل شريكاً في كل موارد الشرق الأوسط مع دوله وشعوبه.
ولم تأخذ هذه المرحلة الشكل النهائي إلا بانتهاء حرب الخليج الثانية وسقوط
الاتحاد السوفييتي وتزعُّم أمريكا نظاماً عالمياً جديداً تحتل فيه مكان الصدارة
والهيمنة؛ ولذلك نجد أن أول ما قام به بوش بعد أن استتب له الوضع في الخليج
أن سعى إلى تفعيل ما يسمى بالعملية السلمية في المنطقة.
إن هدف هذه المرحلة هو إحداث تغيير على الجانب العربي؛ هذا التغيير يبدأ
بضرورة تقبل إسرائيل ليس باعتبارها دولة فقط؛ بل يتعين قبولها بأساسها الديني
ويمتد إلى تغيير معتقدات العرب السياسية، ويمر عبر إعادة صياغة شبكة العلاقات
العربية مع القوة المهيمنة وهي التحالف اليهودي البروتستانتي، وأي اعتراف
بإسرائيل بوصفها دولة فقط بدون التسليم بأساسها الديني لهو تكتيك، وليس خياراً
استراتيجياً. ويرى كاتب مثل ألوف هارايفن أن هناك عدة عوامل تساعد على
تحقيق السلام في المنطقة: قوة إسرائيل الاستراتيجية، وعزل العناصر غير
المستقرة (يقصد بها العناصر الإسلامية التي تعيق هذا المشروع) وتدخل وتأثير
الولايات المتحدة.
ويقول جولد مان رئيس المؤتمر اليهودي: إن إسرائيل التي تمثل الآن ما
يقرب من 1% من مساحة العالم العربي عن طريق الحرب وسلاح المواجهة
الساخنة يمكنها أن تحتل مساحة العالم العربي بأسره عن طريق السلام والتعاون
الاقتصادي.
وفي السياق ذاته يمكن فهم مبادرة الملياردير الصهيوني روتشيلد بإنشاء معهد
قرب جنيف بعد حرب 1967م أطلق عليه اسم: «معهد من أجل السلام في الشرق
الأوسط» بهدف دراسة احتمالات التطور الاقتصادي بالشرق الأوسط بعد تسوية
الموقف وإنهاء حالة الحرب والبحث عن وسائل إقامة علاقات تجارية بين دول
المنطقة أي بين إسرائيل وجاراتها العربيات.
والانسحاب الإسرائيلي الأخير من لبنان ما هو إلا تكريس لهذه السياسة أي
الانسحاب من الأرض وترك إدارتها للعملاء مع ضمان الهيمنة والنفوذ.
وهكذا فإن هدف المشروع البروتستانتي اليهودي كان وسيظل دائماً وأبداً
الهيمنة بالسلام؛ فالقتال أو السلام بشروطهم مجرد أداتين فقط أيهما تفد المشروع
الصهيوني في إنجاز هدفه الاستراتيجي يكن لها الأولوية.
وقبل حرب 1967م وفي أعقابها كانت إسرائيل تتناول أحاديث السلام كثيراً
ولكن وفق مفهوم خاص ينبني على أساس إنشاء شبكة متعددة من التفاعلات
الاجتماعية، والاقتصادية، والاستراتيجية قبل الوصول إلى اتفاق بالتسوية السلمية؛
ففي مؤتمر جنيف 1974م على سبيل المثال أعلن أبا إيبان وزير الخارجية
الإسرائيلي حينذاك أن السلام لا يعني وقف إطلاق النار، وأن الضمان الحقيقي
للسلام هو إقامة مصالح مشتركة بين العرب وإسرائيل تتسم بالتنوع والكثافة.
وعقب مبادرة السادات وزيارته للقدس، وبالرغم من إعلان إسرائيل المسبق
عن استعدادها للانسحاب من كل سيناء مقابل إحراز اتفاق سلام مع مصر وقد أثبتت
وثائق كُشِفَ النقاب عنها مؤخراً أن هذا العرض قائم في أعقاب حرب 1967م إلا
أنه عندما بدأت مباحثات السلام مع مصر أخذ الإسرائيليون يدَّعون أهمية سيناء
الحيوية بالنسبة لهم، وكان هذا يخدم هدف الحصول على أكبر كَمٍّ ممكن من
الامتيازات في سيناء خاصة تلك التي تتعلق بالبترول، وكان للإسرائيليين ما
أرادو! ؛ فعندما جاء الوقت لينسحبوا من سيناء كانوا قد ضمنوا التمتع بأهم
مواردها: البترول، وحرية الملاحة. ومن ناحية أخرى عمدت إسرائيل إلى
التقليل من الأهمية الاستراتيجية لسيناء كثمن لتحقيق السلام مع مصر واتخاذ
ذلك خطوة لفرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية على العالم العربي، وقد كشف
إسرائيل شاحاك رئيس رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية عن هدف المخطط
الصهيوني بقوله: «إن السيطرة على الشرق الأوسط هدف كل السياسات
الإسرائيلية، وإن هذا الهدف مشترك بين كل الحمائم والصقور على السواء،
وإن كان الاختلاف بينهم على الوسيلة: بالاحتلال أم بالسيطرة الاقتصادية؟» .
وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه شيمون بيريز عندما قال: إن إسرائيل
تواجه خياراً حاداً: فإما أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على عدد الفلسطينيين
الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على حجم السوق التى تحت
تصرفها.
وقدم إيجال آلون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي مشروعاً من تسع نقاط
نصت النقطة الخامسة منه على إقامة إطار حكم ذاتي في المناطق التي لن تكون
تحت السيادة الإسرائيلية، ويمكن أن يكون في إطار الحكم الذاتي مرتبطاً بإسرائيل،
ويمكن أن يتمثل هذا الارتباط بوجود إطار اقتصادي مشترك، ومعاهدة دفاع
مشترك، وتعاون تقني وعلمي، واتفاقات ثقافية، وإيجاد حل مشترك لتوطين
لاجئي قطاع غزة في الضفة الغربية. ومن الواضح أنه سيترتب على الحكومة
يقصد حكومة إسرائيل أن تبادر إلى إعداد خطة عامة وشاملة وبعيدة المدى لحل
مشكلة اللاجئين التي هي مشكلة مؤلمة وغير قابلة لحل كامل إلا على أساس تعاون
إقليمي يتمتع بمساعدات دولية.
ويمكن القول دون مبالغة إن ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي في اتفاق غزة
أريحا تضمنت العديد من أفكار آلون، ويجب ألا ينظر إلى الأمر على أنه توارد
أفكار، ولكنها الاستراتيجية التي تربط كل التحركات التكتيكية المتتابعة وصولاً إلى
الأهداف الأساسية للمشروع البروتستانتي اليهودي.
وعند استعراض مبادرات التسوية السياسية السابقة منذ كامب ديفيد الأولى
وحتى كامب ديفيد الثانية نجد أنها تؤكد على الحقائق الآتية:
- الحلول الجزئية هي الأصل في قيام هذه التسويات وليست الحلول الشاملة
لمختلف جوانب الصراع وقضاياه.
- أن المطلوب من الحكومات العربية في هذه القضايا ليس الاعتراف فقط
بإسرائيل؛ ولكن الرضوخ لأي مخططات في المنطقة لخدمة أهداف المشروع
البروتستانتي اليهودي، وسحق أي محاولات من جانب الشعوب العربية في الوقوف
في وجه هذه المخططات.
- أنه وفقاً للمشروع الذي تحدثنا عن أبعاده في السابق لا نستطيع أن نقول إن
هناك ثلاثة أطراف في هذه المفاوضات؛ بل هناك طرفان: الطرف العربي،
والطرف اليهودي البروتستانتي.
- أن هناك دائماً وجهين للتعامل مع ما تم الاتفاق بشأنه: وجه زائف أمام
وسائل الإعلام يتم فيه استخدام الألفاظ والتعبيرات التي تساعد على تخدير الشعوب،
ووجه سري وهو الوجه الحقيقي الذي لا يعلن عنه وهو الذي يتم تنفيذه وغالباً ما
يتم الاتفاق بشأنه عبر القنوات السرية. والمؤتمرات العلنية ما هي إلا التكريس لما
تم الاتفاق عليه، حتى إن كاتباً سياسياً علمانيا كبيراً مثل محمد حسنين هيكل يشكو
من ظاهرة تعمد إخفاء المعلومات وبما يدور في كواليس السياسة العالمية ودهاليز
الحكام العرب والمتعلق منها بالشرق الأوسط والأمة العربية، وهو من هو من خبرة
طويلة في السياسة سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى جمع المعلومات
والتحليل الثاقب البعيد النظر، أو على مستوى الصلات الشخصية بكثير من
الشخصيات السياسية المؤثرة: العربية منها أو الأجنبية.
- أن توازن القوى بين الأطراف يكاد يكون منعدماً: بين طرف يملك أرقى
التجهيزات العسكرية وأرقى التكنولوجيا التي أسقطت من قبلُ الإمبراطورية
السوفييتية من غير أن يطلق طلقة واحدة وتسعى بمختلف السبل ألاَّ يملك الطرف
الآخر إلا الفتات من المعدات والأسلحة.
- أنه في ظل الهيمنة لأصحاب المشروع ونعني بالهيمنة العسكرية منها
والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية ... فلا معنى لأي مكاسب على الأرض
يحرزها الطرف الآخر ويصبح الحديث عن نفوذ فلسطيني على القدس أو جزء منها
أو على أي شبر من الأراضي المحتلة أو حتى الدولة الفلسطينية لا قيمة له.
- أن الحكومات العربية وبالأخص السلطة الفلسطينية لا يمكن اعتبارها
أطرافاً تعبر عن الشعوب العربية لأسباب عديدة منها أن ولاءها الفكري للغرب؛
حيث إنها ربيبته وصنيعته، كما أن أغلب أفرادها والمعبرين عنها اشتهر عنهم
العمالة المباشرة لأطراف المشروع حتى إنه أثناء مؤتمر كامب ديفيد الأخير استدعى
باراك رئيس مخابراته ومع وجود رئيس وكالة المخابرات الأمريكية؛ فإن مشاركة
هؤلاء لتذكير المسؤولين العرب بماضيهم في العمالة فلا معنى لتشددهم إذن.
وفي الإطار نفسه ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية في25/7/2000م أن
الأمريكيين قاموا بإرسال مبارك إلى بعض العرب من أجل أن ينضموا إليه في
السماح لعرفات بالتنازل عن القدس.
- سحق أي مقاومة محتملة للمشروع وخاصة من جانب الإسلام؛ لأنه هو
القوة الوحيدة التي تعرف أصل المعركة والطبيعة الحقيقية للقضية وأنه صراع
عقيدة.
لقد شهدت الفترة الماضية قمعاً شديداً وتنسيقاً هائلاً بين أجهزة الاستخبارات
في الدول العربية وأمريكا، وحتى العالمية لمحاصرة أي صوت وأي تجمُّع يُعرف
عنه انتماؤه للصحوة الإسلامية وخنقه.
ولنا أن نتخيل أو نتصور تسويات سلمية أو كما يسمونه سلاماً يقام على هذه
الأسس.
فهذه هي مقدمات مؤتمر كامب ديفيد؛ ومن المعلوم أن المقدمات تسبق النتائج،
فكان لا بد من ذكر الحقائق أو المقدمات السابقة إذا أردنا أن نتعرف على نتائج أو
ما تسفر عنه هذه القمة.
المراجع:
1- الشرق الأوسط الجديد: سيناريو الهيمنة الإسرائيلية، علاء عبد الوهاب،
سينا للنشر.
2 -الشرق الأوسط: مخطط أمريكي صهيوني أعمال ندوة مقاومة التطبيع
تحرير حلمي شعراوي، مكتبة مدبولي.
3 - الصليبيون الجدد (الحملة الثامنة) يوسف العاصي الطويل مكتبة
المدبولي.
4 - الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية محسن
عوض مركز دراسات الوحدة العربية.