ملفات
التنصير.. هل أصاب الهدف؟
(2 - 2)
فيصل بن علي البعداني
لا تهدف هذه المقالة إلى وضع خطة لمواجهة التنصير؛ فذلك أمر أضخم من
أن تحويه مقالة، كما أن وضع خطة يتطلب إدراكاً للمخاطر الحقيقية للتنصير على
المسلمين، والبيئات الخصبة دعوياً أمام دعاة الإسلام، ويستدعي إلماماً بسبل
التنصير ووسائله المختلفة التي تكاد أن تتناول جوانب الحياة المختلفة، ويقتضي
معرفةً جيدة بقدرات الدعاة وإمكاناتهم التي يمكن أن يوجهوها للمواجهة، وهو أمر
يفوق إمكانات الفرد بكثير.
أضف إلى ذلك أن بين المنصرين اختلافات جذرية لا بد من مراعاتها أثناء
وضع خطة للمواجهة، وتلك الاختلافات إما في المعتقدات والمبادئ، وإما في
الطاقات والقدرات، وإما في الرغبة في الوصول إلى الحق والأخذ به، وإما في
المكر والدهاء ومدى الوضوح في إبانة الأهداف واستخدام وسائل تنصيرية مباشرة.
زد على ذلك اختلاف تجذر النصرانية من بلد إلى آخر، واختلاف أحوال
النصارى كثرة وقلة، نفوذاً وسلطة، غنىً وفقراً، حباً وبغضاً ... إلى غير ذلك
من الأمور التي تجعل من غير المناسب وضع خطة موحدة لمجابهة التنصير في كل
البلدان، وأن الأليق هو أن يتجه دعاة كل بلد إلى وضع خطة لمجابهة التنصير
تراعي عناصر القوة والضعف التي يملكها كل من المنصرين والدعاة على حد سواء،
وحجم الخطر التنصيري الذي يواجه الدعوة ويعوق مسيرتها في ذلك البلد؛ فذلك
أقرب إلى الحكمة والواقعية وأبعد عن المثالية والعيش في أبراج عاجية.
وانطلاقاً من ذلك فإن هذه المقالة تهدف إلى ذكر وقفات تذكِّر بقاعدة، وتؤكد
على ضابط، وتنبه على جانب، وتحذر من عائق، وتبرز قضية، وتدعو إلى
الموضوعية والواقعية في الطرح والتناول.
وقفات حول المواجهة:
1- العون من الله؛ فلنتأهل لنيله:
عون الله للفرد أو المؤسسة الدعوية هو شرط النصر وبوابته في أي مواجهة؛
فمن انتصر فالله الناصر له، ومن وُفِّق فالله الموفق له، كما قال تعالى:
[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] (الأنفال: 17) ، وفي المقابل فمن لم
يسدده الله فلا مسدد له، ومن فقد عون الله كانت عاقبته الهزيمة ومصيره الخذلان.
كما قال الشاعر:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده
وقد قال الله تعالى مقرراً لهذا الأمر: [أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم
مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ] (الملك: 20) .
وقد تيقن ذلك العاملون الصادقون، فتعلقت قلوبهم بمن يدبر الأمر سبحانه
وتعالى، وبرئوا من حولهم وقوتهم، واستحقروا أعمالهم وجهودهم مهما كانت في
نظر الآخرين عظيمة، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية الذي على ضخامة ما قدم
للأمة في مجالات كثيرة كان كثيراً ما يقول: «ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا
فيّ شيء» [1] . واتجهوا إلى السعي إلى نيل عون الله وتوفيقه الذي له أسباب
معنوية ومادية، من حصلها حازه، ومن فقدها حرمه، والتي من أبرزها:
أ - دعاء الله سبحانه والتضرع بين يديه، كما قال تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] (غافر: 60) وفي حال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر
وإلحاحه على ربه في تضرعه حتى سقط رداؤه عن منكبيه مع أنه موعود بنصر
الله تعالى أسوة لمن أراد الاقتداء.
ب - التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، كما قال تعالى: [وَمَن يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ] (الطلاق: 3) .
وحين اجتمع المشركون بعد أحد لحرب المؤمنين، وقال المؤمنون قلباً وقالباً:
حسبنا الله ونعم الوكيل، كانوا كما قال الله عنهم: [فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]
(آل عمران: 174) .
ج - التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى
اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31) ، وفي الأثر عن الخليفة
الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع
إلا بتوبة» [2] .
د - الصبر والإكثار من الصلاة كما قال تعالى: [وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) ، وقال سبحانه:
[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ] (البقرة: 45) .
هـ - تقوى الله وطاعته والحذر من معصيته، كما قال عز وجل: [وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] (النور: 52) ، وقال
سبحانه: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ] (الطلاق: 2) .
و بذل الوسع والأخذ بأسباب النصر المادية بقدر الاستطاعة امتثالاً لقوله
عز وجل: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ
وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] (الأنفال: 60) .
فمتى أراد الدعاة تحصيل هذا السلاح الذي لا يمكن أن يمتلكه المنصِّرون
فعليهم بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحصيل هذه الأسباب حتى يكونوا أهلاً لنيل
رحمة الله وعونه لهم في مواجهتهم لدعاة الشرك وأرباب الضلالة.
2 - الانضباط الشرعي شرط النصر:
يعد الدخول في مواجهة التنصير أحد المزالق الخطرة التي يخشى فيها من
التفلت من الضوابط الشرعية سواء كان ذلك في جانب عرض الإسلام والحديث عن
عقيدته وشريعته، أو في التعامل مع المنصرين الذين يستخدمون أساليب ملتوية
وغير أخلاقية في عرض عقائدهم والحديث عن جوانب الإسلام المختلفة، منطلقين
في ذلك من قول القديس بولس: (أنا أكون بكل الأشكال والمظاهر من أجل كل
الناس) [3] .
وذلك مما يمكن أن يحدث ردة فعل لدى بعض دعاة الإسلام فيجعلهم إما
يقدمون تنازلات أثناء عرض الإسلام من أجل ترغيب النصارى به، وإما
يتورطون بعدم الدقة في الحديث عن جوانب النصرانية المختلفة، وإما يعتمدون
أثناء دعوتهم على سبل ووسائل غير مشروعة.
وشيء من هذا العمل كما لا يخفى يتنافى مع ثوابت الإسلام ومبادئه؛ إذ
الغاية فيه مهما كانت نبيلة لا تسوِّغ الوسيلة المنحرفة، والله سبحانه لا يُتقرَّب إليه
بمعصيته، ولا تُنال بركته وتسديده وتوفيقه بمخالفة أمره.
والمطلوب في هذا السبيل هو: تأكد الدعاة من هيمنة النص الصحيح على
خططهم وبرامجهم، ومن صحة الوسائل التي يستخدمونها في مجابهتهم للتنصير
شرعاً، ومن مراعاتهم للمصالح والمفاسد المعتبرة شرعاً في أنشطتهم التي يقيمونها،
انطلاقاً من قول الله تعالى: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ
عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] (الأنعام: 108) .
على أن الواقع ولله الحمد يثبت بأن من أعظم الأمور الدافعة لكثير من غير
المسلمين للدخول في الإسلام ثبات مبادئه وقيمه وعدم تلونها بحسب رغبات
المدعوين، والالتزام الأخلاقي لدى دعاته وعدم اعتمادهم لسبل ووسائل غير
مشروعة، سواء في الترغيب في الإسلام من جهة، أو في التحذير من عقائد
النصرانية المحرفة والأصول الوثنية التي داخلتها من جهة أخرى.
3 - لا لردات الفعل في المواجهة:
المتأمل في جهود كثير من الدعاة الموجهة لمقاومة التنصير يجد أن أغلبها
ردود أفعال حدثت نتيجة قيام المنصرين بأعمال استفزت بعض الدعاة أفراداً
ومؤسسات فأوجد ذلك لديهم دافعاً لمواجهة تلك الأعمال التي أثارتهم.
وخطورة هذا الأمر تكمن في جانبين:
الأول: دلالته على أن أكثر الدعاة واقعياً حتى اليوم لم يدركوا أن العملية
التنصيرية تحولت من عمل اجتهادي لفرد أو مجموعة إلى عمل مؤسسي ذي كفاءة
إدارية عالية: تخطيطاً وتنفيذاً، تنظيماً ورقابة، ويمتلك إمكانات مالية وبشرية
ضخمة.
ومن دعوة مباشرة إلى الدخول في النصرانية واعتناق مبادئها إلى جهد جاد
يتناول كافة جوانب الحياة المختلفة التي يمكن أن تؤثر في الناس بصورة مباشرة أو
غير مباشرة: سياسية واقتصادية، اجتماعية وصحية، ثقافية وإعلامية، رياضية
وفنية.
ومن دعوة تركز على شريحة معينة في المجتمع إلى عمل يستهدف كافة
شرائح المجتمع: رجالاً ونساءاً، كباراً وصغاراً، مثقفين وأميين، أغنياء وفقراء،
وجهاء وعاديين.
ومن دعوة تهدف فقط إلى اعتناق الناس النصرانية إلى دعوة من أهدافها خدمة
الاستعباد الغربي، والحيلولة دون انتشار الأديان الأخرى، وجعل أتباعها يخرجون
من أديانهم ويعيشون بلا دين منغمسين في مستنقع الشهوات واللهو والرذيلة.
الثاني: دلالته على أن بإمكان المنصرين توجيه الدعاة الوجهة التي يريدون
عن طريق القيام بأعمال تستفزهم بصورة فجة ليستهلكوا طاقاتهم ويستنفدوا قواهم
بالرد عليها، وفي المقابل يقوم المنصرون بأعمال أخرى لا إثارة فيها تحقق مآربهم
بعيداً عن أعين الدعاة ومقاومتهم.
والحل الأمثل لتجاوز هذه المعضلة يكمن في تحويل جهود الدعاة في مقاومة
التنصير إلى جهد مؤسسي منظم يستشعر الخطر ويدرك ضخامته، ويدرس الواقع
دراسة جيدة يتعرف من خلالها على عناصر القوة والضعف لدى الفريقين، وعلى
ضوء ذلك يتم تحديد رؤية المواجهة ورسالتها، والأدوار التي تقوم بها، وأهداف
كل دور، والوسائل المحققة لتلك الأهداف، والمدد الزمنية التي ستتحقق فيها
الأهداف في ضوء الإمكانات المتاحة: بشرية، ومادية.
كما لا بد من وضع آلية للتقييم والمراجعة يتم من خلالها التأكد من السير في
الاتجاه المراد، ومن تحقيق الوسائل المنفذة للأهداف المرجوة، ولا بد من امتلاك
مرونة كافية تمكن الدعاة من تعديل الخطة متى حدث في الواقع ما يستدعي تعديلاً
لبعض الأهداف أو إعادة لترتيب أولويات المرحلة، ومتى لوحظ بُطْءٌ في السير أو
انحراف عن الاتجاه المراد.
وباختصار: فإننا بحاجة إلى مواجهة مؤسسية منظمة تتسم بالموضوعية
والواقعية؛ لئلا ننساق إلى حيث لا نريد. وهذا أساس كبير من أسس النجاح.
وليس المراد هدر أهمية الاستجابة السريعة للطوارئ بما يخدم الأهداف
والغاية، بقدر ما هو المطالبة بأن تكون تلك الاستجابة المتمثلة في ردة الفعل هي
في حقيقتها التخطيط المدروس المرن الذي يراعي الهدف، ولا يهمل مستجدات
الواقع ومتغيراته السريعة.
وإذا ما رئي نازلة من النوازل فإن المطلوب هو السيطرة على ردة الفعل
وضبطها بما يحقق الهدف، وذلك بفاصل بين المثير والاستجابة، يمنح فرصة
للتفكير في أفضل ردة فعل ممكنة تنضبط بالمبادئ والقيم وتحقق الأهداف والنتائج
المرجوة.
4 - الحفاظ على رأس المال أوْلى:
لم تفلح الجهود التنصيرية في أوساط المسلمين في تحقيق نتائج ملموسة في
موضوع إدخال الناس في النصرانية، ولكنها نجحت أو تحقق لها مرادها في ثلاثة
مجالات:
الأول: إغراق كثير من أبناء المسلمين وبناتهم في بحر الشهوات والملذات
وجعل الواحد منهم: «مخلوقاً لا صلة له بالله، ومن ثَمَّ لا صلة له بالأخلاق التي
تعتمد عليها الأمم في حياتها» [4] ، وفي إيجاد فريق عريض من أبناء هذا الجيل
«لايهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهرة، وإذا تبوأ
أسمى المراكز ففي سبيل الشهرة يجود بكل شيء» [5] .
الثاني: إزالة روح الكراهية من نفوس كثير من المسلمين تجاه النصارى،
حتى أصبحت طوائف كثيرة من المسلمين تعتقد بأن النصارى ليسوا بأعداء لهم،
ومما ساعدهم على ذلك إظهار المنصرين لروح التسامح، وتقديمهم لبعض
المساعدات الإغاثية لمناطق المسلمين المنكوبة، ورفعهم لشعارات الحرية والإخاء
والمساواة، وممارستهم لكثير من أنشطتهم وبرامجهم تحت رايات غير دينية.
الثالث: العمل في أوساط فئتين من المسلمين تأثرتا بهم تأثراً كبيراً، وهما:
أ - خريجو الجامعات والمدارس والمعاهد التنصيرية الموجودة في ديار
المسلمين.
ب - المهاجرون من المسلمين إلى بلاد النصارى لغرض العمل أو الدراسة أو
حتى تلك الفئة التي تذهب للسياحة.
والتي استطاع النصارى إبهار كثير من أفراد هاتين الفئتين وخلق روح
الإعجاب لديهم بقيم المجتمع الغربي وعاداته.
وأخطر ما في الأمر بالنسبة للمهاجرين تركيز المنصرين على جيل الأبناء
الذي تخلَّق جلهم بأخلاق تلك المجتمعات النصرانية وتطبع بعاداتها من جهة، ومن
جهة أخرى جهل دينه وانبتر عن تقاليد مجتمعاته الأصلية وعاداتها.
ولا يخفى أن هذا النجاح المتحقق للمنصرين خطوة متقدمة على طريق
إضعاف مقاومة التنصير لدى كثير من المسلمين، وتدرج ملموس لأن يلج إلى
النصرانية أبناء المهاجرين والدارسين في المؤسسات التعليمية التنصيرية في الديار
الإسلامية.
وهذا يعني ضرورة المبادرة إلى مراجعة الأمر وتصحيح الوضع القائم، وفي
ظني أنه لا سبيل للأمة إلى تحقيق ذلك إلا أن تسارع بكافة فئاتها إلى رفع شعار:
(التربية أولاً) ثم تحويل هذا الشعار إلى واقع معاش على كافة المستويات بحيث يتم
تعديل المناهج لتتضمن جرعاً تحصينية ضد الغزو التنصيري؛ لأن زمن الانغلاق
على الذات ولَّى، والعالم أصبح في عصرنا قرية واحدة. كما لا بد من إيجاد
البدائل العملية أمام الجميع والتي تنبثق من قيم الأمة ومبادئها، وترفع همم الأبناء
والبنات ليدَعوا حياة الشهوات والملذات، ويطلِّقوا الدعة والكسل، ويعيشوا لغاية
هي: حمل الرسالة التي ابتعثهم الله من أجلها تعلُّماً وممارسة ودعوة.
كما لا بد من التفاتة جادة إلى أبناء المسلمين في الغرب والذين يكثر عددهم
يوماً بعد آخر، ويزداد حماس المنصرين للعمل في أوساطهم وتهيئتهم لنشر
ما يتلقونه من أفكار وما يمارسونه من سلوكيات في أوساط المجتمعات المسلمة
كلما ازداد عددهم منطلقين من قول زويمر: «تبشير المسلمين يجب أن يكون
بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد
أغصانها» [6] ، وعندما نمارس ذلك الشعار ونهتم بجد بتلك الفئة يمكننا القول بأننا
قد خطونا الخطوة الصحيحة الأولى في مواجهة التنصير والوقوف حجر عثرة
أمام تنفيذه لمخططاته.
5 - بالحق يزهق الباطل:
من السنن المتقررة: محو الجهل بالعلم، وإزالة الظلمة بالنور، واضمحلال
الشبهة بالحجة، ودفع الباطل بالحق، ولذا فإن أعظم وسيلة لمجابهة التنصير هي
عرض الإسلام وأصول الإيمان صافية نقية كما أنزلها الله تعالى على رسوله صلى
الله عليه وسلم، وذلك من خلال وضوح في الطرح وقوة في الحجة، ويشهد لهذا
الأمر قوله تعالى: [وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً]
(الإسراء: 81) .
ويزيد من فاعلية هذه الوسيلة أن النصرانية ديانة يكتنفها الكثير من الغموض؛
فهي لا تستند إلى جلاء في العرض، ولا تعتمد على حجة مقبولة، وإنما تقوم
على إثارة للشبهات حول الديانات الأخرى، وتهييج لعواطف المدعوين حول ما
يزعمونه من قبول سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام لقتل نفسه وصلب جسده فداءاً
للبشرية!
والأجدى أن يقترن عرض الإسلام بإيراد حججه العقلية والحسية وفي الكتاب
والسنة منها كثير وفي المقابل يتم مطالبة القوم بالحجة والبرهان على دعاويهم
الخالية من ذلك.
وأن يعمل على دراسة شبهات القوم حول الإسلام، وملاحقة المتجدد منها،
وتعريف الدعاة بالرد الصحيح عليها.
والملحوظ كثرة خلط المنصرين الحقَّ بالباطل؛ حيث يتغنون ببعض الحق
الذي لديهم زاعمين بأن كل ما لديهم حق وأن المسلم يرد الجميع، ولمدافعة هذا
الخلط فإن الداعية مطالب في طرحه وحواره بالموضوعية والاعتراف بجوانب
الحق التي في دين القوم وحضارتهم، وبجوانب الضعف التي لدى المسلمين، وأن
يبين أن مرد ذلك راجع إلى ضعف التمسك بالإسلام لا للإسلام ذاته ذاكراً الدلائل
على ذلك.
6 - لنشغل القوم بأنفسهم:
لا يملك المنصرون ما يهاجمون به الإسلام إلا الاتهام غير الموضوعي،
وطرح الشبهات المغرضة حول بعض القضايا الجزئية؛ ولذا فإن الداعية مطالب
بالحذر من أن يكون في موقف الدفاع باستمرار، وعليه أن يسعى لإشغال القوم
بأنفسهم والعمل على نقلهم من مرحلة الهجوم إلى الدفاع، ويمكن أن يتم ذلك عن
طريق أمور كثيرة منها:
أ - إبراز العقائد الوثنية والأصول الفلسفية للديانة النصرانية المحرفة،
والحديث عن نسخ الأناجيل وتناقضاتها الصارخة، وما تضمنته من نسبة ما لا يليق
إلى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ب - الحديث عن سلطة الكنيسة التي وصل الحال بسدنتها إلى بيع صكوك
الغفران ودخول الجنة، والقيام بإدانة دورها السيئ في الماضي في محاربة العلم
والوقوف حجر عثرة في طريق تقدم العلم وازدهار الحضارة والكشوفات العلمية.
والعمل على تعرية رجالها الذين ترهبنوا ظاهراً وتجذر الفساد الأخلاقي والمالي
والشذوذ الجنسي بينهم باطناً نتيجة مخالفة الفطرة والبعد عن تعاليم الله تعالى
وشرعه.
ج - تجلية الاختلافات الضخمة والتناقضات الجذرية في أصول الديانة
النصرانية المحرفة وثوابتها بين طوائف النصارى، وإيضاح ما نتج عنها من تكفير
وتصفيات جسدية ومعارك رهيبة أُزهقت فيها آلاف الأنفس، وأهدرت فيها نفائس
الأموال.
د - إيضاح دور البشر في تحريف الديانة النصرانية الحقة، وبخاصة ما قام
به اليهود ووثنيو اليونان من أدوار مشبوهة في هذا الجانب منذ رفع سيدنا عيسى
عليه السلام إلى اليوم.
هـ - الاستفادة من جهود الباحثين النصارى ذوي الشخصيات المستقلة
والمنصفة قديماً وحديثاً الذين توصلوا بالبحث العلمي المتجرد إلى بطلان عقائد
النصرانية المحرفة، وأثبتوا وقوع التحريف المتعمد للكتاب المقدس، ووجود
تناقضات صارخة بين نسخه، وفي المقابل جزموا بصدق نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم وصحة رسالته لما تضمنته من معجزات وبراهين لا تقبل الجحد
والتكذيب، وشهدوا بسلامة القرآن من التحريف وخلوه من التناقض.
و السعي إلى الاستفادة القصوى من كبار القساوسة وعلماء النصارى
ومثقفيهم الذين أسلموا في مقارعة المد التنصيري باعتبارهم أدرى بخباياه، وأكثر
اطلاعاً على أسراره ومعرفة بمخططاته وحال رجاله.
ز - الاهتمام بالمغتربين من النصارى في ديار الإسلام، والعمل في أوساطهم،
والعناية بتأهيل من أسلم منهم علمياً ودعوياً، ثم تبنيه للعمل داعية في وسط قومه
إذا رجع إليهم.
وعند النجاح في مثل هذه الأمور يكون الدعاة قد استطاعوا أن ينقلوا المواجهة
إلى داخل معسكر المنصرين؛ ويجعلوا جهد القوم الأكبر منصبّاً على معالجة
إشكالات الذات، وهذا بلا شك سيخفف من حدة النشاط التنصيري في أوساط
المسلمين، وسينقل القوم من مرحلة الهجوم إلى الدفاع، وهذا إنجاز كبير ومرحلة
متقدمة في النزال.
7 - لنوجد دوافع المواجهة لدى الجميع:
يسعى المنصرون عبر اعتماد وسائل تنصيرية غير مباشرة ورفع شعارات
علمانية والانضواء تحت رايات غير دينية إلى إماتة روح المواجهة لدى المسلمين
وإزالة دوافعها من النفوس.
والحق أنهم قد نجحوا في ذلك إلى حد كبير؛ بدليل أنك ترى كثيراً من أهل
الخير وصادقي الولاء للإسلام من يدافع عن كثير من أعمال القوم في المجالات
المختلفة: تعليمية وصحية وزراعية ومهنية ورعاية للأيتام والمسنين معتبرين أن
مواجهتها إضرار بالناس ومنع للخير عنهم.
ولذا فالتحدي الكبير يكمن في قدرة العلماء والدعاة على توظيف قطاع عريض
من شرائح المجتمع في مواجهة المد التنصيري، وفي مدى استطاعتهم إيجاد دوافع
المواجهة لديهم حتى لا يكون تفاعلهم مع الدعاة قضية آنية.
ولعل من أبرز الأمور المعينة على إيجاد دافع مستمر لدى الناس لمواجهة المد
التنصيري هي:
أ - إبانة الموقف الشرعي من النصارى، وأنهم كفار مشركون بنص القرآن،
وتجلية أن الواجب الشرعي هو بغضهم والبراءة منهم والعمل على دفع ضلالهم.
ب - تتبع عثرات المنصرين والسعي إلى كشف أنشطتهم التنصيرية المباشرة
التي يحرصون على إخفائها تحت أعمال غير مباشرة، والتي تتضمن طعناً في
الإسلام أو مناقضة لأصوله، والعمل على استثمار ذلك في إيجاد الدوافع لدى الناس
لمواجهتهم.
ج - القيام بتتبع أنشطة المؤسسة التنصيرية في المناطق والدول المختلفة،
والتركيز على نشاطها المعادي للإسلام والذي قد تعلنه في موطن دون آخر، والقيام
بتوثيقه ثم تعميم العلم به على الدول المختلفة التي للمؤسسة بها نشاط ليكون ذلك
دافعاً لمجابهتها من قطاع عريض من الأمة.
د - العمل على الربط بين المؤسسات التنصيرية المحلية والمؤسسات
الخارجية التي تتبعها أو توفر الدعم لها، والتي لها أو لرموزها جهود واضحة في
محاربة الإسلام والطعن في ثوابته.
وعندما ينجح الدعاة في تجييش قطاع عريض من شرائح المجتمع لمواجهة
النشاط التبشيري فإن ذلك سيحقق فوائد عديدة منها:
1 - كسب آخرين يحملون هَمَّ الإسلام ويعملون له، وهذا يؤدي بدوره إلى
وقايتهم من التأثر بمكائد المنصرين ومخططاتهم.
2 - تمكن العلماء والدعاة من التفرغ لأمور هامة لا يمكن للآخرين القيام بها
كالتعليم والتربية.
3 - إمكانية صرف جهود بعض من لديه خلل منهجي عن نشر باطله إلى
الاشتغال بمواجهة باطل المنصرين وضلالهم.
8 - التخصص طريق إتقان وعامل قوة:
قليلٌ أولئك الدعاة ونادرة تلك المؤسسات التي أخذت على عاتقها فقط مجابهة
التنصير ومقاومة مخططاته، وقد يكون العذر أن الواجبات أكثر من جهود الدعاة
وأوقاتهم، فاضطرهم الحال إلى أن يأخذوا من كل مجال بجانب، لأن ما لا يدرك
كله لا يترك جله، ومع منطقية هذا الطرح إلا أن من سلبياته: عدم إتقان شيء من
المجالات المتناولة، وعدم القدرة على الموازنة بينها بالصورة المرضية؛ إذ كثيراً
ما نفرط في الاهتمام بمجال على حساب مجال آخر، وكثيراً ما يهمل الآخرون
الاهتمام بمجال مع أهميته ظناً منهم بأن جهودنا تغطيه، والواقع خلاف ذلك.
وتزداد الخطورة حين يكون الأمر متعلقاً بمجال كالتنصير الذي تنوء مواجهته
بعدة مؤسسات مجتمعة؛ فكيف يكون الحال حين تكون مقاومته جزءاً من جهد
مؤسسة تعتني به حيناً وتهمله في أحيان أخرى.
والحل لمواجهة هذا الضعف في التناول والاتكالية في المواجهة يكمن في
التخصص وحده؛ إذ إن زمن الفرد أو المؤسسة الأسطورة التي تعمل في كل شيء
وتتقن كل شيء ولَّى إلى غير رجعة، ولم يعد أمام من أراد إتقاناً وإجادة إلا
التخصص؛ لأن ذلك سيعني تركيز الجهود، ومنع التشتت الذهني والعملي،
وجودة العمل وزيادة الإنتاجية وسهولة التخطيط والتنفيذ والمتابعة.
ومع أن المطلوب هو إيجاد مؤسسات متخصصة في مواجهة التنصير في كل
قارة وإقليم بل وفي كل بلد إلا أن ذلك قد يحتاج إلى بعض الوقت. وجهود التنصير
اليوم تنتشر في أوساط المسلمين انتشار النار في الهشيم، وهذا يعني أن تأخير
المواجهة حتى تقوم تلك المؤسسات يحمل في طياته خطراً كبيراً.
ولذا فالحل المقترح: أن تقوم كل مؤسسة إسلامية تحمل هَمَّ الدعوة إلى الله
بإنشاء مراكز بحث متخصصة لرصد الجهد التنصيري في نطاق عملها الجغرافي أو
النوعي دعوياُ كان نشاطها أو تعليمياً أو صحياً أو اجتماعياً أو إغاثياً، واختيار
مجموعة من الدعاة التابعين لها في كل بلد للقيام بهذه المهمة؛ بحيث يتم تأهيلهم
وتوفير المتطلبات اللازمة لنجاح عملهم، وعندها يمكننا القول بأننا قد أدركنا
خطورة المد التنصيري وخطونا خطوة جادة في مواجهته.
9 - للدعاة مع تجربة المنصرين وقفات:
عند التأمل في عوامل نجاح المنصرين مع فساد عقائدهم وتناقضات نسخ
أناجيلهم ومصادمة أطروحاتهم للعقل والمنطق يجد المرء أنها تعود إلى أربعة أمور
هي: الإدارة الناجحة، والعاطفة الجياشة، والجهد المتميز، والذكاء الوقاد.
- فالإدارة الناجحة مكنتهم من تعزيز الإيجابيات ودعمها، وتحجيم السلبيات
ونقاط الضعف ومحاولة تلافيها، واستغلال الفرص والإمكانات البشرية والمادية
بأفضل صورة، وتجاوز الصعوبات وتحاشي المخاطر المتوقعة بقدر الاستطاعة.
- والعاطفة الجياشة مكنتهم من جذب كثير من المتطوعين إلى صفوفهم،
وكثير من أصحاب الشركات ورؤوس الأموال إلى دعمهم، والمدعوين إلى التأثر
بهم، وساعدهم على ذلك اعتناؤهم بالبرامج الإغاثية والاجتماعية والصحية والمهنية
متخذين من ذلك مدخلاً للوصول إلى ما يريدون، والتي بدورها ساعدت على إظهار
دينهم بمظهر الرحمة والرفق ومساعدة الضعفاء والإحسان إلى الآخرين ومواساتهم.
- والجهد المتميز حوَّل الأفكار إلى أعمال، والأطروحات النظرية إلى
ممارسات ميدانية.
- والذكاء المتقد دفعهم إلى اعتماد خطط بعيدة المدى، واستخدام وسائل غير
مباشرة، ورفع شعارات براقة، والانضواء تحت رايات غير دينية، بل واستخدام
العلمانية سلاحاً يهاجمون به الإسلام حين وجدوا أن الأصول النصرانية والشطحات
العلمانية لا يمكن أن تقف في مواجهة الثوابت الإسلامية.
وهذا الأمر يستلزم من العاملين في حقل الدعوة عموماً، وبخاصة العاملين في
مواجهة التنصير ومدافعة مكائد المنصرين وضلالاتهم وقفات عديدة أهمها:
أ - أنه لا بد من تحسين الوضع الإداري الهش في كثير من المؤسسات
الإسلامية ضماناً لاستثمار أمثل للموارد البشرية والمادية والفرص المتاحة،
وتحاشياً للمخاطر، وتلافياً لنقاط الضعف بقدر الإمكان.
وما لم يبادر أهل الشأن إلى العناية بذلك فإن الخسائر ستزداد، والعبء
سيتضاعف، وإمكانية التصحيح والمعالجة ستصعب إن لم تتضاءل.
ب - أهمية العناية بالعاطفة واستخدامها في الطرح والممارسة الدعوية،
وعدم الاقتصار على التناول العقلي والعرض المنطقي مع أهميته لأن العاطفة في
جانب الهداية والتأثير في النفوس أقوى من العقل؛ إذ العقل بوابة الإقناع وما كل
من اقتنع استجاب؛ ولكن العاطفة سبيل كسب القلوب واتخاذ المواقف وهو الغاية
هنا، وفي ظني أن قصور كثير من الدعاة في العناية بجانب العواطف واهتمامهم
بإقامة الحجة والبرهان فقط أدى إلى خسارة الكثير من الفئات التي كان يمكن
استثمارها في مجابهة التنصير أو على الأقل حمايتها من مكائده.
ج - مع أهمية التخصص النوعي في أنشطة الدعاة إلا إنه لا بد من تكامل
الأنشطة وتعاضدها وتنسيق أصحابها فيما بينهم؛ فالداعية مثلاً ما لم يحمل بيده
إغاثة وإحساناً يقدمه للمسكين فإن استجابة الناس لدعوته ستكون محدودة، والمغيث
ما لم يحمل بيده مصحفاً، ويستصحب معه داعية فإنه يكون قد قصَّر غاية التقصير،
وأهدر فرصة لن تعوض، وهذا يوضح بجلاء حجم الخسارة التي تجنيها الدعوة
من جراء تشتت الجهود وعدم تنسيق أصحابها فيما بينهم مع أن الأهداف في الغالب
واحدة، والقواسم المنهجية المشتركة فيما بينهم قد تكون كبيرة.
د - أهمية حرص قادة المؤسسات الإسلامية على احتواء ذوي العقل الناضج
والفكر الوقاد، والقيام بتشجيعهم على الإبداع والتفكير بعمق وحرية، ثم السعي إلى
الاستفادة من أفكارهم المتميزة وأطروحاتهم الطموحة سواء كان ذلك في جانب
تطوير العمل الدعوي والخيري أو في مواجهة مكايد أعداء الإسلام من منصرين
وغيرهم.
وما لم يتم الاحتواء لهذه الطائفة من الدعاة من قِبَل المؤسسات الإسلامية
دعوية وخيرية فإن نموها سيكون بطيئاً، وقفزاتها التطويرية ستكون محدودة،
وقدرتها على منافسة المؤسسات التنصيرية في الميدان لن تكون بالصورة المرضية.
10 - العمل بوابة النجاح:
لا يعاني الدعاة إلى الله من مشكلة في ندرة الأفكار وقلة الوسائل التي يجابهون
بها المنصِّرين بمقدار ما يعانون من كثرة المتكلمين وقلة العاملين؛ إذ غالبية الدعاة
لم تستطع بعدُ أن تحوِّل ما تملكه من أفكار وتصورات في هذا السبيل إلى واقع
عملي معاش يسهم في نصرة الحق ومحاربة الزيغ والضلال.
ولو تأمل المرء في حياة عظماء البشر لرأى أن عظمتهم لا ترجع إلى
امتلاكهم قدرات خارقة يمتازون بها عن بقية البشر إذ هناك كثير ممن يشاركونهم
في امتلاك تلك القدرات إن لم يتفوقوا عليهم فيها وإنما ترجع إلى سلطتهم على
أنفسهم وحملهم لها على تجاوز إدراك الأفكار والحديث عنها إلى تنفيذها وتحويلها
إلى واقع عملي معاش.
ولست بذلك أقلل من أهمية التصورات الناضجة والأفكار العميقة المبدعة التي
يطرحها بعض الدعاة لمجابهة التنصير، ولكن من المؤكد أن تلك الأفكار على
جودتها بدون تنفيذ ستبقى مجرد خيال وحلم.
وخطورة استمرار هذه الظاهرة غير خافية؛ إذ إنها تقلل الإنتاجية وتفقد
الدعوة الكثير من الطاقات وفرص النجاح التي من الممكن أن يخفت بها صوت
التنصير في ميادين كثيرة.
ومفتاح تجاوز هذه الظاهرة يعتمد على أمور عديدة أهمها أمران:
أ - العمل على استمرار تنامي الشعور بالظاهرة والإحساس بخطورتها
والعزيمة على تجاوزها.
ب - قيام كل فرد منا بتحمل مسؤوليته تجاه نفسه؛ بحيث يلزمها بالتنفيذ
الفوري لما يؤمن به من أفكار ناضجة تصلح لمواجهة القوم ورد كيدهم.
وما لم يتم ذلك فإننا باقون في دائرة القول، والمنصرون في دائرة العمل، وما سبقَ
متكلمٌ عاملاً.
11 - وأخيراً: فالنصر للإسلام:
فالمواجهة مهما طال زمنها، وعظمت مشقتها، وإمكانات الدعاة مهما ضعفت،
وخسائرهم مهما كثرت فالعاقبة للإسلام، والنصر آت لا محالة، بعد استكمال
شروطه، وتحصيل أسبابه، وامتلاك وسائله.
جاءت بذلك النصوص الصريحة الصحيحة، ودل على ذلك الواقع المشاهد؛
فمن النصوص التي تبعث في النفس الأمل وتزيد الفأل الحسن وتزيل اليأس وتدفع
القنوط قوله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ
فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]
(الأنفال: 36) . والمنصرون مجال حديثنا في هذا المقال ينفقون أموالهم ويبذلون
جهودهم وأوقاتهم، ويستنفرون كيدهم في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات
في وجه هذا الدين، والله تعالى ينذرهم بأنها ستعود عليهم بالحسرة، وسينفقونها
لتضيع ويغلبوا، ولينتصر الحق في النهاية [7] .
ومنها أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه: «ليبلغن
هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله
الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به
الكفر» [8] .
وستنتهي المعركة مع القوم بنزول سيدنا المسيح ابن مريم عليه السلام،
وعندها يتجلى التوحيد ويخبو الشرك، ويتبين للقوم ما هم عليه من غرور وضلال.
وأكبر ضامن لنصرة الإسلام وهيمنته في الأرض طبيعة منهجه وحاجة
البشرية إليه. يقول سيد قطب رحمه الله: « ... فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه
هذا الدين، ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج، نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع
في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه أراد
أعداؤه أم لم يريدوا..» [9] ، وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى كما لا
يملك منهج آخر أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني عنه
طويلاً « [10] ، ويقول أيضاً:» ... ونحن نعتقد أن المستقبل لهذا الدين، بهذا
الاعتبار. باعتباره منهج حياة يشتمل على تلك المقومات كلها مترابطة، غير
منفصل بعضها عن بعض. المقومات المنظِّمة لشتى جوانب الحياة البشرية، الملبية
لشتى حاجات الإنسان الحقيقية، المهيمنة على شتى أوجه النشاط الإنساني « [11] .
ومن دلالات الواقع على ذلك أنك ترى إنجازات المنصرين ونجاحاتهم لا
تتناسب أبداً مع جهودهم المبذولة والفرص المتوفرة والتأييد العالمي الذي يتلقونه
والإمكانات المتاحة، وفي المقابل: ترى الإقبال على الإسلام يفوق جداً جهود الدعاة
المبذولة وإمكاناتهم الملموسة حتى أصبح المرء يجزم بأن الإسلام ينتصر بقوته
الذاتية وما يحمله من حجج دامغة وبراهين ساطعة لا بجهود أبنائه وقوة المنتسبين
إليه.
وكون الإسلام قادماً والتوحيد منتصراً أمر محسوم وقضية منتهية، ولكن
السؤال الأهم بالنسبة لنا: ما دورنا نحن في ذلك؟ هل نكون ممن أسهم في نصرة
الإسلام؛ فاعتصم بالله واستمد العون منه، وقام بما يجب عليه تجاه دينه؟ أم نكون
ممن ركن إلى الدنيا واشتغل بالأولى عن الأخرى، ونسي ربه فأنساه الله نفسه؟ !
نسأل الله رحمته ومعافاته، وأن يستعملنا في طاعته ويجنبنا غضبه.
والله غالب على أمره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.