مجله البيان (صفحة 3594)

مراجعات في السيرة والتاريخ

قراءة سياسية لنصوص بيعة العقبة

عبد الحكيم الصادق

لا ريب أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الجولة السياسية لمدينة

الطائف، ورحلته الربانية إلى بيت المقدس وسدرة المنتهى، ولقائه مع ممثلي

الأمم من النبيين والمرسلين عليهم السلام قام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بتعديل

منهج التغيير؛ حيث اعتمد العمل من خلال مؤسسات المجتمع الجاهلي وأعمدته

المتمثلة في القبيلة وأركانها؛ فقد قام صلى الله عليه وسلم باتصالات مكثفة بتلك

المؤسسات، كقبيلة عامر بن صعصعة، ومحارب بن خصفة، وفزارة، وغسان،

ومرة، وحنيفة، وسليم، وعبس، وبني نصر، وبني البكاء، وكندة،

وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة [1] .

كل ذلك محاولة منه صلى الله عليه وسلم أن يقبلوا الإسلام، أو يؤووه

ويمنعوه حتى يُبلِّغ دعوة الإسلام، ويُقيم دولة القرآن على أنقاض دول الكفر

والعصيان، وفي تلك التحركات السياسية قَدِم بعض قيادات الأوس والخزرج إلى

مكة سعياً لعقد تحالفات سياسية مع قريش رجاء أن تؤمن عليهم حياتهم الداخلية التي

كانت تهددها النزاعات الشديدة بين الأوس والخزرج، وتدفع عنهم المخاطر

الخارجية المتمثلة في تهديدات قبائل يهود، وذلك ما كان من زيارة سويد بن

الصامت الذي ارتاد مكة يبحث عن تحالف، وكذلك أبو الحيسر أنس بن رافع،

وإياس بن معاذ كانا في وفد لذلك الغرض، وأسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد

قيس الزرقي ذهبا إلى مكة للغرض نفسه كذلك!

وقد تم بالفعل اللقاء بشخص الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه

اللقاءات الاستراتيجية تدور في فلك إمكانيات قيام دولة الإسلام، والتمكين لها على

أرض يثرب حسب ما هو متاح من الحيز المكاني، والقطاع البشري المؤمن،

وحجم العناصر التأمينية الأساسية، كعنصر القوة العسكرية، والاقتصادية،

والأمنية.

الأبعاد السياسية لنصوص بيعة العقبة:

لا يخفى أن الإنسان مدني بالطبع؛ فهو مفطور على الاجتماع ببني جلدته،

تَحْدُوه بذلك دوافع الحصول على الكساء والغذاء والدفاع عن نفسه ضد الحيوان [2]

والإنسان خاضع لضرورة ثانية هي إقامة الجماعة السياسية لضبط جدلية النظام

والحركة؛ فالسلطة السياسية ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، ولا يمكن تصور

وجودها خارج الجماعة، كما أنه لا قيام للجماعة دون نظام سياسي. ذلك أن هنالك

قطبين يتقاسمان الوجود الإنساني، هما: قطب التعاون [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ

وَالتَّقْوَى] (المائدة: 2) ، ثم قطب الصراع [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم

بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) ، ومن ثم فإذا ما تصورنا هذا الوجود

كائناً حياً، كان لا بد له من ناظم يضبط ويكبح الغرائز الفردية الجامحة، وينمي

بالمقابل الإحساس بالتضامن الاجتماعي!

وهذا ما عبر عنه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله:

«لا بد للناس من إمارة بارَّة كانت أم فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين! هذه البارَّة

قد عرفناها؛ فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد

بها العدو، ويقسم بها الفيء» [3] .

فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الرائد كان يرى ضرورة السلطة

والتنظيم كضرورة الماء للكائن الحي، بل كان يرى ذلك حتى في أبسط شكل من

أشكال الاجتماع السياسي، كخروج ثلاثة نفر في سفر، كما صح عنه صلى الله

عليه وسلم ذلك، وذلك حين قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» [4]

وفي رواية أحمد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة

الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم» [5] .

يقول ابن تيمية رحمه الله في فهم هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قد:

«أوجب تأمير الواحد في الاجتماع العارض في السفر منبهاً في ذلك على سائر

أنواع الاجتماع» [6] .

ويقول في موضع آخر: «وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في

الآخرة إلا بالاجتماع، والتعاون، والتناصر، فالتعاون على جذب منافعهم،

والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد

لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة،

ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم

لا بد لهم من طاعة آمر وناه ... » [7] .

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مدركاً تمام الإدراك للدور الذي تلعبه

السلطة في عملية النهوض التاريخي، والتغيير الحضاري الضخم، ولكنه لم يدرك

ذلك مقولة ذهنية فحسب، بل مارس تلك الحقيقة ممارسة الواعي بخطه

الاستراتيجي، المدرك لتقلبات النظم السياسية، الراصد للتحولات العرفية

والإنسانية، العارف بالضرورة الإنسانية والحاجة الفطرية لذلك؛ حيث إنه كان

حريصاً على إقامة السلطة السياسية، وبناء الدولة الإسلامية قبل هجرته للمدينة،

وذلك أثناء بيعات العقبة الثلاث التي ركزت على تأسيس مقومات الدولة، وقيام

أركان الاجتماع السياسي بصورة لم يسبق لها مثيل ولا نظير في تاريخ التحول

البشري، والاجتماع السياسي.

أولاً: البعد الديني في بيعة العقبة:

يتضح مما مضى أن الدولة الإسلامية قائمة على عقيدة، وفكر، وتصور،

وأنه بقدر وضوح هذه القضايا في أذهان أفراد المجندين لصفوف الدولة،

وانتشارهم أفقياً ورأسياً مشكلين بذلك قاعدة عريضة تحمل هذه العقيدة والفكر

والتصور الصحيح، أقول: بقدر هذا الوضوح والانتشار يكون التمكين للدولة،

وبسط التأمين الشامل لأفكارها، وقياداتها، وبرامجها الآتية والبعيدة، كما يفهم ذلك

من قوله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي

الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم

مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] (النور: 55) .

ولأهمية هذا البعد الديني جاء ذكره في صدارة بنود مشروع قيام الدولة

الإسلامية؛ حيث قال الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: «أما الذي أسألكم لربي:

أن تؤمنوا به، ولا تشركوا به شيئا» [8] . وذلك ضرورة لتحقيق الإيمان بالله

ومقتضيات ذلك الإيمان، واجتناب نواقضه الاعتقادية، والقولية، والعلمية، لكون

ذلك شرط صحة في المشروع الإسلامي على مستوى الفرد والجماعة في مرحلتي

الدعوة والتأسيس، والدولة والتمكين ... يعبدونني لا يشركون بي شيئا.

ثانياً: البعد السياسي:

لا يخفى أن البيعة الأولى كانت تدور في فلك ضرورة الإيمان بهذه الدعوة

الجديدة وحمايتها ونشرها بين أوساط قبائل الأوس والخزرج تمحيصاً لتحقيق أبعاد

المشروع السياسي، وذلك بإقامة دولة الإسلام بأركانها الاعتبارية (دار وأنصار

وسلطان) .

وهذا البعد السياسي فيما يبدو كان واضحاً في أذهان الرهط الخزرجي،

وبرهان ذلك حين أشار الرهط الخزرجي على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم

أن يتريث في القدوم عليهم إلى أن يتمكنوا من ترتيب الأوضاع في بلادهم من

الناحية السياسية والأمنية وغير ذلك مما هو لازم لذلك التحول التاريخي.

ثم أرسل الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بعد هذه البيعة مصعب بن عمير

رضي الله عنه لتحقيق هذه المقدمات الضرورية لقيام الدولة الإسلامية، فانطلق

مصعب بن عمير ومن أحاط به من رجال الأنصار رضوان الله عليهم يقصدون

كسب سادة المدينة إلى الإسلام، فأسلم حينئذ عدد من زعماء المدينة، منهم أسيد بن

الحضير، وسعد بن معاذ.

وحين أصبح عدد الزعماء الذين أسلموا من أهل المدينة كافياً لتقديم النصرة

إلى الدعوة بمعنى تسليم السلطة السياسية إلى الرسول القائد صلى الله عليه وسلم

هنالك عقد الأنصار في المدينة مقر الدولة الإسلامية الجديد مؤتمراً فيما بينهم قرروا

فيه إعطاء النصرة للرسول صلى الله عليه وسلم لكي يتسلم مقاليد الحكم والسلطان

في المدينة، وعلى إثر هذا المؤتمر قدم وفد من هؤلاء الأنصار والزعماء يتألف من

ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتين وذلك في موسم الحج وتم عقد بيعة العقبة الثانية

التي أعطي فيها زمام الحكم والدعوة لصاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛

وذلك في الموعد نفسه الذي ضربه رسول الله للاجتماع بهم.

فقد ورد نص هذا المؤتمر الذي انعقد في المدينة على لسان جابر بن عبد الله

رضي الله عنه حين قال: «فائتمرنا، واجتمعنا سبعين رجلاً منا، فقلنا: حتى

متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة، ويخاف؟ فرحلنا حتى

قدمنا عليه، قال: تبايعوني قلنا: نبايعك.. الحديث» [9] .

وهذا يعني: أن هذا الاجتماع مع الرسول القائد صلى الله عليه وسلم في هذا

الوقت إنما كان فقط من أجل البيعة والتواثق على شيء قد تقررت الموافقة عليه من

قبل هذا اللقاء؛ وذلك بإعطاء النصرة للنبي صلى الله عليه وسلم بالمفهوم السياسي.

يدل على ذلك عدة أمور تفهم من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه بشأن

هذه البيعة وهي: أن العباس بن عبد المطلب وكان أول من تكلم في الاجتماع بادر

الأنصار قائلاً: «إن محمداً قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم» [10] .

إذن، فالأمر مبتوت فيه، وليس هذا الاجتماع من أجل الدخول في مباحثات

حوله من أجل تقريره أو لا، وإنما كان الاجتماع من جهة الرسول القائد صلى الله

عليه وسلم للتثبت من تسلم زمام السلطة وأن يسمعوا له ويطيعوا على كل أحوالهم

«أبايعكم على السمع والطاعة في النشاط والكسل» [11] ! ! «وأما الذي أسألكم

لنفسي أن تطيعوني أهدكم سبيل الرشاد» [12] .

هذا من جانب النبي صلى الله عليه وسلم، أما من جهة الأنصار فقد كان

التأكيد على قبولهم للدعوة والدولة الإسلامية، وأنهم على أتم الاستعداد للتضحية من

أجل سلامة هذا المشروع، وتحقيقه على أرض الواقع، وتأمين أهدافه في مختلف

مراحل التمكين والتأمين، «لن نقيل ولا نستقيل» ! !

ثالثاً: البعد العسكري:

لا ريب أنه لا يستقيم أمر عقيدة، وفكر سياسي، وكيان دولة تتجلى على

أرض الواقع؛ إلا بقوة عسكرية تحميها في مراحل تأسيسها وتمكينها؛ فكم من حق

ديس بالأقدام لعدم وجود قوة تحميه! وكم من باطل قام وانتفخ ليس بأفكاره وعدالة

مبادئه، وإنما للقوة المدججة التي تحميه وتنافح عنه! والواقع خير شاهد على

ذلك قال تعالى لنبيه: [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ

المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]

(النساء: 84) [13] .

جاء في رواية الزهري فيما قاله أسعد بن زرارة رضي الله عنه أحد رجالات

الأنصار في هذا الاجتماع، قال: «يا رسول الله! إن لكل دعوة سبيلاً إنْ لينٌ وإنْ

شدةٌ! !

وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس، متوعرة عليهم! !

دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك إلى دينك، وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك!

ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار، والأرحام، والقريب

والبعيد، وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك!

ودعوتنا ونحن جماعة في عز ومنعة، ولا يطمع فينا أحد أن يرأس علينا

رجل من غيرنا، قد أفرده قومه، وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى

ذلك! وكل تلك الرتب مكروهة عند الناس إلا من عزم الله على رشده، والتمس

الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا، وصدورنا، نبايعك على ذلك،

ونبايع الله ربك، يد الله فوق أيدينا، ودماؤنا دون دمك» [14] .

ثم قام العباس بن نضلة رضي الله عنه أحد فاعليات الأنصار الذين حضروا

البيعة، فألقى كلمة توضيحية قال فيها: «هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟

قالوا: نعم! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس» [15] .

ثم قام أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه أحد فاعليات الأنصار الذين

حضروا البيعة، فألقى كلمة أكد فيها على أهمية البعد العسكري لهذه البيعة المباركة،

فقال لهم: «يا قوم! هذا رسول الله، أشهد أنه لصادق، وأنه اليوم في حرم الله

وأمنه، وبين ظهري قومه وعشيرته، فاعلموا أنه إن تخرجوه رمتكم العرب عن

قوس واحدة! فإن طابت أنفسكم بالقتال في سبيل الله، وذهاب الأموال، والأولاد

فادعوه إلى أرضكم؛ فإنه رسول الله حقاً، وإن خفتم خذلاناً فمن الآن. فقالوا عند

ذلك: قبلنا عن الله، وعن رسوله ما أعطيانا، وقد أعطينا من رسول الله الذي

سألتنا يا رسول الله» [16] .

رابعاً: البعد الأمني:

لا بد للحركة التي تريد إحداث انقلاب استراتيجي سواء أكانت في مرحلة

الدعوة والتأسيس، أو طور الدولة والتمكين أن تعتني أيما اعتناء بفن الأمن

والتأمين لتحقيق التغيير الجاد الذي يهدف إلى استرداد حاكمية الله على العباد والبلاد،

ولا يكون ذلك التغيير الجاد إلا في وسط من ردود فعل حادة أو متوسطة من قِبَل

الجاهلية الكنود، فإن لم تكن استراتيجية الحركة قد أعدت العدة لتأمين قياداتها

وبرامجها في حالات الانتقال، والاصطلام، والاستلام، يكون الأمر جد خطير.

يقول ابن حجر رحمه الله وهو بصدد حديثه عن بيعة الحرب، بيعة قيام

الدولة الإسلامية، مؤكداً فيها على أهمية البنود الواردة بخصوص الأمن والتأمين

للدعوة والدولة في مراحل تأسيسها والتمكين لها: إنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن

إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من

الأنصار: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم، فبايعوه

على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم، هو وأصحابه» [17] .

وفي رواية أحمد: «وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم

علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا» [18] .

وينبغي ألا يعزب عن بالنا أن طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار

في هذه البيعة بيعة الدولة الإسلامية التأمين الشامل والكامل بشقيه الوقائي والإيجابي

في إطار (الأنفس، والأزواج، والأولاد، والأصحاب) ما هي إلا سنة من سنن

قيام الدولة الإسلامية التي تساعد على انطلاق استراتيجية الدولة نحو الأفق الواسع

تأسيساً وتجنيداً، استيعاباً وتمكيناً.

وفي المقابل فإن عدم الإقرار بهذا المبدأ، وعدم الاهتمام به، من وجهة نظر

حركية تغييرية، وسياسية انقلابية يعتبر اختزالاً لسنة الرسول الكريم صلى الله

عليه وسلم، وغايات اعتذارية يلجأ إليها على الغالب الذين جعلوا القرآن عضين:

[فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الحجر: 92-93) .

خامساً: البعد الاقتصادي:

لا ريب أن الجانب الاقتصادي له أهمية كبرى في مراحل التأسيس وأطوار

التكوين وذلك على مستوى الأفراد والجماعات والدولة، لذلك رأى الرسول القائد

صلى الله عليه وسلم تأمين هذا الجانب وضرورة التنويه عليه ضمن ديباجة البيعة

التأسيسية، فقال لهم: «وأما الذي أسألكم لي ولأصحابي: أن تواسونا في ذات

أيديكم، وأن تبايعوني على النفقة في العسر واليسر فمددنا أيدينا فبايعناه» [19] .

ويمكن لنا أن نفهم أن بنود البيعة كانت بمثابة لبنات تأسيسية لمؤسسات

وزارية في إطار الدولة فيما بعد؛ وذلك لتلبي حاجات الدولة الداخلية والخارجية،

وتأمين حياة الفرد في إطار ذلك، وذلك على كافة المستويات، فمثلاً قوله صلى الله

عليه وسلم: «تبايعوني: على السمع والطاعة، في النشاط والكسل» [20] يعتبر

ذلك بمثابة جهاز أمن يلبي حاجات الدولة والفرد ضمن منظومة أمنية بعنصريها

الوقائي والإيجابي، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وعلى النفقة في العسر واليسر»

بمثابة وزارة الاقتصاد التي تحقق التكافل الاجتماعي، والتضامن والتعاون

الاقتصادي في إطار استراتيجية الدولة الداخلية والخارجية، وقوله صلى الله عليه

وسلم: «وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» بمثابة وزارة الحسبة؛ حيث

إنها تحقق المحافظة على مبادئ المشروع الرباني من أن تشوبه الشوائب، وقوله

صلى الله عليه وسلم: «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم» بمثابة وزارة

الدفاع؛ حيث تحقيق الأمن والاستقرار للدولة ولمبادئها وقيادتها من أي اعتداء

خارجي، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وعلى أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم،

وأزواجكم، وأبناءكم» بمثابة وزارة الداخلية؛ حيث تحقيق الأمن الشامل لقيادات

المشروع الرباني، ولأهلهم «وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذنكم لومة لائم»

بمثابة وزارة الخارجية؛ حيث نشر الدعوة خارج الحدود، وطرح قضاياها

المصيرية في التجمعات السياسية والاجتماعية بدون خوف ولا وجل وأن تقولوا في

الله، لا تأخذكم لومة لائم «.

ومن هنا يمكن لنا القول بأن التكافل الاجتماعي، والتضامن الاقتصادي الذي

طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله واستقراره في مقر دولته الجديدة

(المدينة المنورة) يعتبر تطبيقاً لهذا البعد الاقتصادي الذي تم الاتفاق عليه بين

الرسول القائد صلى الله عليه وسلم والأنصار رضوان الله عليهم الذين آثروا

إخوانهم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله

ورضواناً. آثروهم بالأموال والأنفس في صورة لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل،

فقد صوَّر لنا المولى عز وجل ذلك بقوله: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ

يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى

أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ]

(الحشر: 9) .

ولا يخفى أن هذا البعد الاقتصادي كان يدور في فلك تحقيق معالم التكافل

الاجتماعي، والتضامن الاقتصادي، والاستقرار السياسي، وذلك من خلال الحفاظ

على ثوابت المشروع الرباني، وقيمه العليا، والوقاية من مذلة حاجة المأكل

والملبس والمسكن بالنسبة لعناصر الدولة وقياداتها، والتمكين للمهاجرين الذين

تركوا أموالهم وديارهم من تحسين وضعهم الاقتصادي، واعتبارهم السياسي،

ومكانتهم الاجتماعية في إطار المجتمع الإسلامي الجديد.

دواعي ودوافع ضمن الاجتماع المنعقد في العقبة الثانية:

لقد لوحظ في سرد الروايات التي تناولت وقائع البيعة لتأسيس الدولة

الإسلامية عدة نقاط تحدد دوافع قبول أهل المدينة توصيات تلك القمة الكبرى،

وتوقيعهم على بنودها بكامل السعادة والاطمئنان» لن نقيل، ولن نستقيل «وهذه

الدوافع، وتلك الدواعي جديرة بالتأمل، والتحليل، والاعتناء بها في مراحل الدعوة

والتأسيس، والدولة والتمكين في حالتي الاستضعاف والاستخلاف، وهي كما يلي:

الدافع الأول: ديني:

لا يخفى أن أهل يثرب كانوا على وعي ديني متقدم عن بقية القبائل الأخرى،

لذلك رأوا أن الإسلام يشبع رغبتهم الدينية، وفطرتهم البشرية، فأسعد بن زرارة،

وأبو الهيثم بن التيهان كانا ممن يتكلم بالتوحيد بيثرب، حتى إن ذكوان بن عبد قيس

الزرقي عندما استمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يوم ذهب ومعه أسعد

بن زرارة إلى هناك، فقال لأسعد:» دونك! هذا دينك «.

الدافع الثاني: سياسي:

لا شك أن هناك دافعاً سياسياً كان وراء تلك البيعة، وقد عبر هذا الدافع عن

نفسه بأشكال متعددة، بعضها منطلق من حالة القلق التي سادت الأوس والخزرج

بعد يوم بعاث وسعيهم إلى عقد تحالفات سياسية تؤمن لهم المستقبل.

وبعضها منطلق من الملل من الأوضاع السياسية في يثرب التي اتسمت

بحروب قبلية متصلة بين الأوس والخزرج جعلت العلاقات الاجتماعية قلقة

مضطربة والخوف من المستقبل حالة قائمة، ومن ثم دفعت أهل يثرب إلى البحث

عن حل يوحدهم حتى وإن كان هذا الحل خارجياً؛ فقد عبروا عن ذلك بقولهم

لرسول الله صلى الله عليه وسلم:» عسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم

عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك «.

الدافع الثالث: عسكري:

وذلك كان منطلقاً من الخوف من استعادة اليهود سيطرتهم على يثرب لا سيما

أنهم كانوا يهددون أهلها من العرب بأن نبياً سيظهر وأن اليهود سيتبعونه ويقتلون به

العرب، كما جاء ذلك على لسان الأنصار يوم البيعة؛ حيث قالوا:» يا رسول الله!

بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبال، وإنَّا قاطعوها؛ فهل عسيت إن نحن فعلنا

ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ «.

الدافع الرابع: اجتماعي:

مما لا شك فيه أن هناك دافعاً اجتماعياً كان ضمن الدوافع التي عجلت بالتوقيع

على بنود البيعة؛ إذ يوحي هذا الدافع بوجود خلل اجتماعي يعاني منه أهل يثرب؛

ففي حديث ابن إسحاق عن بيعة العقبة الأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلم

بايعهم بيعة النساء:» على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا

نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في

معروف «.

وفي تقديرنا أن الوعي الديني المتقدم، والقلق السياسي، والخوف من

السيطرة اليهودية، والضجر من الحياة الاجتماعية، والمستوى الثقافي المتقدم، كل

ذلك عمَّق الاتجاه نحو الإسلام، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الإسلام قدم لأهل

يثرب الوحدة؛ لأنه قدم لهم العقيدة، وخلق لديهم روح التعاون والتكافل والتضامن

التي جعلت الأوسي والخزرجي يتجاوز نفسه، ويتجاوز قبيلته إلى سعة الإيمان

وأخوة الدين، فكان طبيعياً إذن أن يلتقيا في وحدة أصبحت أسسها أقوى من تحزيب

اليهود الذين تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى: [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي

الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ

تَشْكُرُونَ] (الأنفال: 26) .

ولا ريب أن الإسلام قد قدم لهم بعد ذلك السيادة سيادة العقيدة والفكر، وسيادة

السلطة، وسيادة الذات؛ حيث وحَّدهم وحررهم من السيطرة اليهودية التي كانوا

أسيري خوف منها سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ

اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً]

(آل عمران: 103) .

ثم بعد ذلك قدم لهم أيضاً حلاً أخلاقياً للعلاقات الاجتماعية، والروابط الأسرية:

[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ

رَءُوفٌ رَّحِيمٌ] (التوبة: 128) .

نتائج وتوصيات بيعة العقبة الكبرى:

لقد أسفرت البيعة الأولى عن عدة نتائج وتوصيات استراتيجية في إطار

تأسيس الدولة الإسلامية، والانتقال من مرحلة الدعوة والتأسيس إلى مرحلة الدولة

والتمكين، وفحوى هذه التوصيات ما يلي:

أولاً: ضرورة تشكيل الجماعة الدينية الاجتماعية الأعوان، والأنصار وذلك

على هيئة منظومة موحدة لتنفيذ مشروع الدولة الإسلامية:» قد جعل الله لكم

إخواناً « [21] .

ثانياً: ترسيم الأرض وتحديد حدود الدار الإسلامية التي تقوم عليها الرعية

وهي آمنة على نفسها، وفي مالها، وعلى عرضها:» قد جعل الله لكم داراً تأمنون

بها « [22] .

ثالثاً: تعين السلطة الدستورية، والقوامة الشرعية:» ولا يطمع فينا أحد أن

يرأس علينا رجل من غيرنا، قد أفرده قومه، وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة

فأجبناك إلى ذلك « [23] .

رابعاً: تقرير قاعدة السمع والطاعة لهذه السلطة الدستورية، والقوامة

الشرعية، والقوانين الربانية في المنشط والمكره، في العسر واليسر:» تبايعوني

على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر « [24] .

خامساً: تحديد الشوكة الشرعية: وتقرير أهدافها الاستراتيجية وفق دستورية

الدولة الإسلامية الجديدة:» أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم

وأبناءكم، قال: فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم! والذي بعثك بالحق!

لنمنعنَّك مما نمنع منه أزرنا، فبايعْنا يا رسول الله؛ فنحن والله، أهل الحروب،

وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر نبايعك على ذلك « [25] .

وبهذه التوصيات، وتلك الأهداف تم تكوين الرعية المؤمنة، وترسيم

الأرضية، وتحديد معالم الدار سياسياً، وتعيين السلطة الدستورية والقوامة الشرعية،

وتقرير قاعدة السمع والطاعة لهذه السلطة الدستورية، وتحديد الشوكة الشرعية.

وبتلك التوصيات الانتقالية تكون الدولة الإسلامية قد خرجت من طور الدعوة

والتأسيس إلى مرحلة الدولة والتمكين، ومن مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة

الاستخلاف.

وفي مقال تالٍ بإذن الله سوف نتناول تفاصيل تلك المرحلة الاستراتيجية الهامة

في الفكر السياسي الإسلامي، مرحلة وضع الدستور، وكيفية التعامل مع الأقلية

والأكثرية من خلال بنود الصحيفة الدستورية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015