تأملات دعوية
محمد بن عبد الله الدويش
من جوانب القصور لدى البشر الغلوُّ والإفراط، وفقدان التوازن في التعامل
مع الأفكار. ومن مظاهر فقدان التوازن: الغلو في الحماس للفكرة.
فقد يتكوَّن لدى المرء اقتناع بفكرةٍ مَّا، أو حماسة لمشروع دعوي أو علمي،
أو رؤية في تفسير ظاهرة من الظواهر؛ فيغلو في الحماس لهذه الفكرة. ومن
مظاهر هذا الغلو:
- تضخيم الفكرة وإعطاؤها أهمية أكبر من حجمها، سواء في الحكم على
مدى انتشار ظاهرة من الظواهر في المجتمع، أو في التفاؤل بنجاح مشروع من
المشروعات، أو في أهمية الإقدام عليه وخطورة إهماله، أو في صلة هذه الفكرة
بتفسير ظاهرة من الظواهر.
- توسيع دائرة الفكرة، والتكلف في ربط أمور كثيرة ربطاً متكلَّفاً بها، مع
أنه لا علاقة لذلك كله بهذه الفكرة من قريب ولا من بعيد.
- الاستهانة بغيرها، ويصل الأمر في أحيان كثيرة إلى احتقار ما يقوم به
الآخرون وينشغلون به عن هذه الفكرة الرائدة! ولو كانوا قد قاموا بوظائف شرعية،
أو سدوا ثغوراً مهمة مما تحتاجه الأمة؛ فهناك من يحتقر جهد من يدعون غير
المسلمين رغم دخول كثير من الناس في الدين على أيديهم بحجة سوء واقع
المسلمين وأنه أوْلى بالدعوة والاهتمام، وهناك من يحتقر من يعتني بالعلم الشرعي
ونشره وتعليمه بحجة أن غيره من الميادين الدعوية أوْلى منه، وهناك من يعكس
الصورة، وهناك من يحقر جهود البناء بحجة أن الأولوية في الاحتساب على
المنكرات ... وهكذا.
- الغفلة عن سلبيات هذه الفكرة ومشكلاتها؛ فكثير من الأفكار والمشروعات
قد لا تخلو من جوانب سلبية ومن مشكلات وعقبات، إلا أن الغلو في الحماس لها
يؤدي بصاحبها إلى أن يغفل عن سلبياتها ومشكلاتها، وكما قيل: حبُّك الشيءَ يعمي
ويصم.
- إشغال طائفة ممن لا يعنيهم الأمر بهذه الفكرة؛ فالناس طاقات ومواهب،
وقدرات وإمكانات، وما يعني الخاصة قد لا يعني العامة، وما يفقهه الدعاة وطلبة
العلم قد لا يفقهه غيرهم، فليس من المقبول أن نسعى إلى حشد طاقات الناس على
اختلاف مشاربهم وقدراتهم للحماس لفكرة معينة والتفاعل معها.
إن الغلوَّ صفة مرذولة مذمومة، تأباها الطباع المستقيمة، وتمجها العقول
السليمة؛ فكيف والشرع قد ذمَّ الغلو وعاب أهله بغضِّ النظر عن موضوع الغلو
ومجاله؛ فالغلو في تعظيم من يستحق التعظيم والتوقير قد يوصل إلى الشرك، بل
كثير من صور الشرك هي نتيجة للغلو في هذا الباب.
والغلو في التعبد ولو كان فيما هو مشروع بأصله يقود إلى رهبانية تخالف
منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، فكيف بالأفكار والآراء التي تحتمل الخطأ
والصواب؟
وكما أن غلو الشخص في العبادة يشغله عن الواجبات الشرعية الأخرى كما
قال صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان! أرغبت عن سنتي؟ ! فإني أنام وأصلي
وأصوم وأفطر وأنكح النساء؛ فاتق الله يا عثمان! فإن لأهلك عليك حقاً، وإن
لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً؛ فصم وأفطر، وصلِّ ونم» [1] .
فكما أن هذا الغلو يشغل صاحبه عن حقوق أخرى، فغلو المرء في الحماس
لفكرة يشغله عن غيرها.
وفي المقابل فحين لا تروق لنا فكرة فينبغي أن نعتدل في ردها ورفضها؛
فالغلو يولد الغلو.