مجله البيان (صفحة 3581)

المنتدى

تطاوعا ولا تختلفا

أكرم عصبان الحضرمي

إن المتأمل لشجرة الدعوة المباركة ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة

يرى امتداد ظلالها الوارفة يوماً بعد يوم، وإتيان ثمارها اليانعة كل حين، إلا أن

العواصف تتتابع لاجتثاثها، والأمراض تهدد نموها وانتشارها، ويأبى الله إلا أن

يتم نوره ولو كره الكافرون، ومن هذه الأمراض والعواصف عاصفة الاختلاف

العاتية بين أبنائها.

ذلك الاختلاف الهائل الذي أدى إلى أمرين خطيرين:

1 - الشماتة بالدعاة ودعوتهم، فيكون التنافر والتنابز مجلبة لازدرائهم؛

حيث يجد المتربصون بالدعوة فرصة عظيمة للنيل من أصحابها والشماتة بهم، كما

قال هارون لموسى عليه السلام حين أخذ برأسه: [فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ]

(الأعراف: 150) .

2 - انجفال المدعوين عن الدعوة، والنفرة من أصحابها لعدم اتفاقهم في

الدعوة أو عدم مراعاة آداب الخلاف؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي

موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن داعيين: «تطاوعا

ولا تختلفا» [1] ، وقد قيل لابن مسعود: عبتَ على عثمان ثم صليتَ أربعاً! قال:

الخلاف شر [2] .

وللاختلاف والفرقة بين الدعاة أسباب عديدة، من أهمها:

أ - الدعوة إلى النفس أو الجماعة: إن الدعوة يجب أن تتمخض خالصة

للكتاب والسنة، فيكون استتباع الناس بعلم: [يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ

يَأْتِكَ] (مريم: 43) ، وهدفه الهداية إلى الحق: [فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياًّ]

(مريم: 43) ، [اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ] (غافر: 38) ، وليحذر

الداعي أن يقع في المحذور فيدعو إلى شخصه أو نهجه أو جماعته، وإلى هذا الأمر

أشار القاسمي رحمه الله بقوله: «ولم تجد سبيلاً الطوائف المختلفة لاستتباع الناس

لها إلا بالغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها والإيقاع بسواها حسب ما تسنح لها

الفرص وتساعدها الأقدار وإن كان بالسنان واللسان» [3] .

ب - الغبن والبغي: الغبن في حق الدعوات المخالفة من أعظم أسباب

الاختلاف والفرقة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: «لأنَّ إحدى الطائفتين لا

تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من

الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدر الاختلاف

البغي» [4] .

فعلى الداعية أن ينظر إلى سبق إخوانه في الخير والفضل، ويجعل من ذلك

شفيعاً لهم في التأدب معهم في زلاتهم وَهَنَاتهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في

موسى عليه السلام حين ألقى الألواح، وجر بلحية أخيه، وفقأ عين ملك الموت:

«لم يعتب عليه ربه؛ إنه وقف تلك المقامات العظيمة، وقاوم أكبر أعداء الله،

وعالج بني إسرائيل. وذو النون لما لم يكن في هذا المقام سجنه في بطن الحوت

من غضبة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً» [5] .

ج - الانتساب المفرق: لا يكمن خطر الخلاف في تنوع العمل وتعدد

الجماعات غالباً ولكنه في التعصب لهذا العمل أو ذاك، بحيث يصير معقد ولاء

وبراء، ومحبة وبغض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا تفقه الرجل بطريقة

قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم

العِيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم» [6] ، وقال أيضاً: «ولا يحتاج

الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين، كل من أفاده إفادة دينية هو شيخه فيها،

وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن

يوالي كل من كان من أهل الإيمان ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ

وغيرهم» [7] .

د - الحسد: إن داء الحسد جر كثيراً من هذه المشاحنات بين الجماعات أو

الدعاة، وهذه قصة تبين ذلك. قال الإمام الذهبي: كثر أصحاب الإمام البربهاري

فاجتاز الجانب الغربي، فعطس فشمّته أصحابه، فارتفعت ضجتهم حتى سمعها

الخليفة فأُخْبِر بالحال، فاستهولها، ثم لم تزل المبتدعة توحش قلبه حتى نودي في

بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري، فاختفى [8] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015