مجله البيان (صفحة 3575)

الأقليات المسلمة. . بين آليات الإغاثة وفقه العمل الخيري مسلمو أوكرانيا أنموذجا

المسلمون والعالم

الأقليات المسلمة.. بين آليات الإغاثة

وفقه العمل الخيري

مسلمو أوكرانيا أنموذجاً

ناصر سنادة

يعيش اليوم كثير من المسلمين في أقليات حول العالم مسحوقين يعانون الفاقة

والفقر، ويذوقون الاضطهاد المر من أبناء جلدتهم، يعذبون ويشردون داخل

مجتمعاتهم التي لا ترحم والتي تنكر رابطة الرحم والدم إذا ما فكر أحدهم مجرد

تفكير في اعتناق الإسلام.

تلك حال معظم مجتمعات الغرب، مجتمعات العقوق والانحلال والتفكك

الأسري، هذه نظرة عامة، ولكن يبقى لكل مجتمع مميزاته وسماته، وحتى

ظروفه الخاصة، وأوكرانيا دولة لها ظروفها الخاصة والقاسية؛ إذ حكمها نظام

شيوعي بالحديد والنار لفترة تربو على سبعين عاماً، وعانى فيها المسلمون ويلات

ومظالم عجيبة، ولعل من أكبر المظالم التي عاشها المسلمون في أوكرانيا بشكل عام

ومسلمو شبه جزيرة القرم على البحر الأسود بشكل خاص في عهد الشيوعية الحاقدة

وأزمنتها البالية هو ذلك التشريد والتهجير الذي مورس عليهم قسراً، خاصة تلك

الحقبة التي حكم فيها (ستالين) على المسلمين بالفناء والتشريد، حيث ما تزال

آثار حملته الإبادية الجائرة ممتدة الأثر وواضحة المعالم في الشعب التتري وعموم

سكان شبه جزيرة القرم المسلمين حتى يومنا هذا؛ إذ لا يوجد في الحياة شيء أشد

مضاضة وألماً من ترك الإنسان لموطنه، تلك حقيقة يدركها كثير من الناس؛ فعندما

ترتد بنا الذاكرة إلى الوراء نستعيد تفاصيل صورة مفعمة بالحزن والأسى تزيدها

الأيام شفافية وشوقاً: رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقلب ناظريه أسفاً

ويخرج مودعاً مهد طفولته الطاهرة ومرتع صباه وخير بقاع الأرض قائلاً: «واللهِ!

إنكِ لأحبُّ أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» [1] وأي

شيء أشد قسوة من ظلم الإنسان وترك الأوطان؛ إذ عمد ستالين وزبانيته

الشيوعيون إلى افتعال المجاعات في شبه جزيرة القرم لإجبار الناس على الهجرة

بحثاً عن لقمة العيش في مكان آخر، وقد أخليت المنطقة بدهاء وخبث من سكانها

المسلمين أولاً، وليس ذلك فحسب، بل عمد ستالين إلى كسر شوكتهم وتذويبهم

وطمس هويتهم في بحر (أعراق وقوميات ومذاهب) دول الاتحاد السوفييتي

(السابق) فقتل علماء الدين، ومثَّل بهم شر تمثيل، وهدم مساجدهم، واعتقل

شيوخهم، واستباح كل حرام يخطر بالبال، وليت الأمر انتهى عند هذا الحد فحسب،

بل أثار حولهم الضغائن والضغوط والفتن ليقطع صلتهم بالدين الإسلامي بالكلية.

تلك صورة سريعة نستشف فيها أحداث المجازر والمآسي التي عاشها مسلمو

شبه جزيرة القرم وما آل إليه حالهم؛ إذ ليس من الحكمة الآن غض الطرف عن

الآثار والأضرار الجسيمة التي أصابتهم؛ فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)

هرع كثير من أبناء القرم أولئك الذين هُجِّروا متسابقين للعودة لموطنهم الأصلي؛

وهذه سُنَّةُ الله في أرضه، والله متم نوره ولو كره المشركون، فكثير منهم عادوا

ولا يزال بعضهم يكابد للحاق بالركب حتى الآن، فما زالوا يأتون زرافات ووحداناً

بعد أن باع معظمهم منازلهم بأبخس الأثمان، وتركوا وظائفهم وجنسياتهم

وارتباطاتهم في تلك الدول التي عاشوا فيها ردحاً من الزمن ونشأ بعضهم فيها، كل

ذلك من أجل الجذور والوطن، وأي وطن؟ ! وطن كان ذات يوم ثغر من ثغور

الإسلام! ولعل أكثر ما يعانيه المسلمون في شبه جزيرة القرم اليوم هو تهدم البنية

التحتية والتردي الواضح في الخدمات، وإهمال الحكومة الأوكرانية للمنطقة بدعوى

قلة الإمكانيات، إضافة إلى حاجتهم لأبسط مقومات العيش الكريم، فلا مأوى ولا

سكن ولا ماء ولا حتى تدفئة ومؤنة في الشتاء، وما أدراكم ما الشتاء في أوكرانيا؟ !

فحينما يطأ شتاء القطب الشمالي ببرده الثقيل السهوب والقرى المتناثرة في

البقاع، فيجعلها تئن وتعاني تحت وطأة ثلجه الكثيف وزمهريره القاسي حتى يأتي

موسم الربيع، وعندها فقط ندرك بأن الذي مضى كان اسمه الشتاء، تلك حال

مسلمي شبه جزيرة القرم بعد حقبة الشيوعية البغيضة؛ فمن يزور القرم اليوم يجد

آثار مساجدها المهدمة التي تغرق بصمت في واقع كثيب، ركام يشبع الأيام أبهة

وجلالاً، أما الناظر إلى البيوت فسيدرك أنها لن تقوى على تحمل عوامل التعرية

ونكبات الزمن، بيوت بنيت بطرق عشوائية تقشفية، وكيفما اتفق، ويظن من

يراها أن سكانها نُسَّاك زُهَّاد ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ إنه ضيق ذات اليد،

فمسلمو أوكرانيا عموماً ومسلمو شبه جزيرة القرم خاصة يحتاجون إلى دعم كبير

ينتشلهم من بحار الفقر؛ إذ إنهم أوْلى الأقليات التي تحتاج إلى الدعم الخيري

بالمقارنة مع دول القارة الأوروبية؛ وهذا الأمر يرجع إلى عدة أوجه وأسباب:

1- لأن أوكرانيا خرجت من وطأة العهد الشيوعي، وعانى المسلمون فيها

التنكيل والاضطهاد والتشريد، خاصة أيام حكم ستالين؛ إذ هاجر معظم المسلمين

خوفاً من حملات الاعتقالات والتنكيل؛ وفي هجرتهم القهرية خلفوا وراءهم

ممتلكات وحقوقاً ضيعت فيما بعد، بينما كانت الجمعيات والمنظمات في أوروبا تنعم

بالدعم الخيري أو بالأحرى اعتمدت على نفسها طول الوقت في تأسيس أرضية

ثابتة لانطلاق الدعوة فيها.

2 - لأن تعداد المسلمين في أوكرانيا يبلغ حوالي 2 مليون نسمة، وهم أساساً

مسلمون لكنهم يحتاجون إلى التثبيت والتفقه في أمور دينهم، ولا ينبغي إهمالهم

حتى لا يقعوا فريسة للجمعيات النصرانية واليهودية المنتشرة والنشطة داخل

أوكرانيا؛ فإن مثل هؤلاء لا يحتاجون إلى جهد دعوي كشخص كافر لا يعرف شيئاً

عن ربه ودينه؛ فهؤلاء في حظيرة الإسلام وبقي أمر تفقههم في الدين ومعرفتهم

لأحكامه.

3- لأن الجانب الاقتصادي يلعب دوراً رئيساً ومميزاً في الحياة العامة؛ إذ إن

قلة الإمكانيات أولاً وفقر مسلمي أوكرانيا وانشغالهم الكلي بهموم المعيشة كثيراً ما

يعيق هذا العمل الدعوي.

وأخيراً فإن النظام الاقتصادي الأوكراني المتضخم والفقير لا يشجع على إقامة

مصادر دخل ذاتي مقارنة بجمعيات ومنظمات تعمل في أوروبا وأمريكا وتنفق على

نفسها من خلال مواردها الذاتية.

4- لأن المسلمين الأوكرانيين وخاصة أولئك الذين يعيشون في شبه جزيرة

القرم يعانون من اهتراء البنية التحتية؛ فمعظم القرى التي يعيشون بها لا بنية

تحتية فيها ولا خدمات، ومن الصعب بمكان وصف كيف يمكن أن يقضي هؤلاء

الشتاء أو تخيل ذلك دون مؤنة ولا تدفئة؛ فمعظم هؤلاء دفعهم ارتباطهم بجذورهم

في القرم مخلفين وراءهم منازل ومتاعاً واستحقاقات، بل إن أكثرهم كانوا قد

تنازلوا عن جنسياتهم وجوازات سفرهم عند خروجهم من الدول التي عاشوا فيها.

5- لأن موضوع الأقليات (دينية أو عرقية أو مذهبية) أصبح هاجس الدول

الغربية وسبباً لتدخلها في شؤون دول أخرى (راجع موضوع الأقلية الألبانية

المسلمة في يوغسلافيا قضية كوسوفا) ، وعليه فحري بنا نحن المسلمين أن نهتم

بموضوع الأقلية المسلمة أكثر من غيرنا، كيف لا وهم إخوتنا في العقيدة والدين؟

ومن هنا ينبغي اعتماد موضوع هذه الأقلية المسلمة وإدراجه في أعلى جدول العمل

الإسلامي.

- لأن كثيراً من مسلمي أوكرانيا ضيعوا معاني الإسلام وغاياته، والآن وبعد

رجوعهم إلى موطنهم الأصلي واستقرارهم فإن الأمر يتطلب جهداً إضافياً؛ إذ لم

يستطع ستالين أن يمحو حبهم العظيم للإسلام وشرف الانتساب إليه.

6- لأن النظام الدكتاتوري الشيوعي كان يجرِّم العمل الإسلامي ويحظر

مشاريعه، وبالمقارنة مع دول غربية نجد اليوم مساحات لا بأس بها من القوانين

والحريات التي استفاد منها العمل الإسلامي لإقامة مشاريعه مثل (فرنسا وإنجلترا) ،

والحمد لله على أن القانون الأوكراني اليوم يكفل حرية العمل الإسلامي، ولا

ينبغي التفريط بذلك في الساحة العالمية؛ فمساعدة إخواننا المسلمين الذين يعيشون

في أقليات حول العالم هو هدف بحد ذاته يسعى إليه، وأستطيع تخيل تكلفة بناء

مسجد في أمريكا أو أوروبا بملايين الدولارات، وكييف عاصمة أوكرانيا يقطنها

100 ألف مسلم، وليس بها مسجد واحد! !

الشق الثاني من المسألة ولب الموضوع:

يبدأ من اتساع أفق فقه دعم العمل الخيري والإغاثي ليشمل الأجر والثواب

للداعمين والعاملين في هذا الحقل وإمكانية ربط الأقليات المسلمة بالمجتمع الإسلامي

بوثاق قوي رحيم، وهنالك ثلاثة أحاديث لرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم تكاد

تكون هي الأطر التي يمكن الاستنباط منها؛ والأجر يتحقق فقط عند الإنفاق أو

التبرع لهؤلاء المذكورين وحسب، وهذا ما يفهمه ويعتقده كثير من عامة الناس،

وهذه الأحاديث هي:

1 - «من فطر صائماً كان له مثل أجره» [2] .

2 - «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» [3] .

3 - «من بنى مسجداً لله بنى الله له بيتاً في الجنة مثله» [4] .

ونضرب مثلاً لتقريب المعنى: شخص يريد أن يتبرع ويدعم بناء كلية أو

جامعة إسلامية أو مركز إسلامي أو دعم صحيفة إسلامية وحيدة في ظل وجود مئات

البرامج والصحف والكتب التي تملأ شاشات التلفاز والمكتبات لأصحاب ديانات

أخرى، في دول مثل أوكرانيا، أو بناء مشروع تنموي ودعمه مما فيه فائدة لعدد

كبير من فقراء المسلمين وفيه منفعة للأقلية الإسلامية كلها؛ فهل لهذا من الأجر مثل

ما يوازي أجر أحد هؤلاء الثلاثة المذكورين أعلاه في الحديث؟ ! وما هو العمل

الأوْلى الذي يقدم على غيره؟ هذه المسألة تؤرق كثيراً الرجال القائمين بأمر الدعوة

والعمل الخيري في الخارج؛ إذ إن كثيراً جداً من المتبرعين يتبرع ويشترط ويحدد

أن ينفق ماله في أحد هذه الأعمال الثلاثة الجليلة وحسب، كما أن كثيراً من هذه

الأموال والدعم يأتي بواسطة منظمات أو أفراد، وقد لا يتسنى للجهة المتبرع لها

تقديم فكرة أو مشروع له أحقية في التنفيذ قبل غيره من حيث الفائدة المرجوة (وقد

لا يكون هنالك اتصال ولقاء مباشر مع المتبرع) حيث إن كثيراً من هذه المشاريع

يقترحها أبناء الأقليات المسلمة، أو تعد نتيجة لقراءة الواقع والمجتمع وفهماً

لاحتياجات المسلمين فيه؛ فأهل مكة أدرى بشعابها؛ ولعل هذا الأمر بحد ذاته

يشكل أكبر هذه الهواجس التي تشغل فكر العاملين في تلك المنظمات الخيرية

والإغاثية؛ حيث تضيع جهود كثيرة في (إعداد مشروع وتأجل مشروع آخر)

بينما تحدده وتشترطه الجهة الداعمة أو الشخص المتبرع، والكل مأجور بإذن الله

تعالى. إذن فنحن نحتاج لاستنباطات واجتهادات خاصة تلائم واقع الأقليات المسلمة

وإمكانية تعاطي العمل الخيري دون إخلال بالعمل وتضييع للأمانة؛ إذ أصبح عمل

كثير من المنظمات الإغاثية عبارة عن عمل ترقيعي (إن جاز التعبير) ، وليس

عملاً وقائياً؛ فعندما تحل كارثة مَّا، فإننا نجد منظمات الإغاثة تنشط حينئذ لتهرع

مع الهارعين إلى مكان الكارثة، وحري بنا أن نقف لنسأل سؤالاً: لماذا لا يتسع

الأفق بنا لنقف مع إخواننا المسلمين ولو للحظات لنفكر في همومهم وألمهم،

وبالطريقة التي يفكرون بها هم أنفسهم، عندها نستطيع أن نجنب إخواننا المسلمين

في كل مكان، وخاصة الأقليات فيهم والمستضعفين منهم الفاقة والفقر، والفتن

وويلات الحروب، والكوارث الطبيعية. نعم إن مثل هذا العمل يحتاج إلى جهود

جبارة وجيوش من المنظمات والعاملين والأموال وأهل الخير، وحسبنا أنه بالإمكان

الاستفادة في ظل الإمكانيات والظروف المتاحة الآن لنشر الثقافة الإسلامية وبناء

مؤسسات تنموية، ومدارس إسلامية.. إلخ، دون أن يكون هناك أي تعارض أو

تفضيل اللهم إلا بحسب ما تقتضيه الحاجة، والأمر برمته يحتاج أيضاً وقبل كل

شيء لمحاولة جادة وعميقة لفهم واقع الأقليات المسلمة ومسلمي أوكرانيا بشكل

خاص وربط ذلك بآليات فقه الدعم والإغاثة والعمل الخيري، ومدى إمكانية اتساع

أفق الدعوة والرؤى المستقبلية للأقليات المسلمة حول العالم.

والله من وراء القصد،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015