دراسات في الشريعة والعقيدة
الشمس آية من آيات الله
عظمتها، وتسخيرها، ومنافعها، ومصيرها
إبراهيم بن محمد الحقيل
آيات الله تعالى في خلقه كثيرة عجيبة سواء ما كان منها في السماوات من
أبراج وأفلاك ومجرات، أو ما كان منها على الأرض من عجائب النبات والحيوان
والبحار والسهول والجبال، أو ما كان منها في خلق الإنسان من أجزاء جسده
الكثيرة، وتعقيداتها الدقيقة. قال الله تعالى: [وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي
أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] (الذاريات: 20-22) .
ولو نظرنا في الأرض وما فيها من عجائب المخلوقات من كبير وصغير،
وقليل وكثير لتملكنا العجب من كثرتها وتنوعها واختلافها وتسخير بعضها لبعض،
ولو حاول الإنسان أن يظهر نسبته من بين المخلوقات التي يراها على الأرض لعلم
أنه لا يكاد يذكر، وأنه ذرة صغيرة من بين تلك المخلوقات. ثم لو قدر له أن يطلع
على ما في الكون من أفلاك ومجرات، وأنجم وبروج ومجموعات لهاله الأمر،
ولأيقن أن هذه الأرض العظيمة ببحارها وجبالها ونباتها وما فيها ومن عليها لا يكاد
يساوي ذرة في هذا الكون العظيم، وما لا يعلمه البشر ولم يكتشفوه من خلق الله
تعالى أعظم وأكثر، فيا لله! ما أعظم خلقه، وما أدق صنعه! ! وما عظمة
المخلوق إلا أكبر برهان على عظمة الخالق سبحانه وتعالى: [فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ
الخَالِقِينَ] (المؤمنون: 14) .
ومن الآيات العظيمة التي تدل على عظمة الخالق هذه الشمس التي تشرق كل
يوم فلا أجمل من شروقها، وتغرب فلا أحسن من غروبها، ينفعنا عند البرد
دفؤها، وتؤذينا أثناء الحر أشعتها، وهي جزء يسير من خلق الله سبحانه وتعالى:
[وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]
(الأنبياء: 33) .
القرآن يثبت عظمة الشمس:
خلق الله تعالى الشمس وبيّن قدرها فأنزل فيها سورة تتلى إلى يوم القيامة،
وتكرر ذكرها في القرآن كثيراً حتى جاء في اثنين وثلاثين موضعاً.
ولأجل هذه العظمة فإن أقواماً عبدوها من دون الله تعالى كما قال الهدهد
لسليمان عليه الصلاة والسلام: [إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ
وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ] (النمل: 23-24) .
إن حركة الشمس وضوءها، وإشعاعها ودفئها، وانتظامها في سيرها،
وضخامة حجمها كانت ولا تزال عند البشر مثار الدهشة، وموضع الانبهار، وما
عبدها من عبدها إلا من هذا القبيل؛ ولذا جاء القرآن بالبيان أنها آية من آيات
الخالق المستحق للعبادة، وأن عظمتها مهما بلغت لا توجب عبادتها بل توجب عبادة
خالقها ومدبرها ومسخرها [وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] (فصلت: 37)
وجاء الخبر في السُّنَّة أن المشركين كانوا يسجدون للشمس فنُهي المؤمن عن الصلاة
قبل شروقها وارتفاعها قِيدَ رمح وقبل غروبها وأثناء توسطها في السماء مخالفة لهم.
لقد كانت الشمس ولا تزال حجة داحضة، وآية ظاهرة على عظمة الخالق
جل جلاله بذكرها أنهى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فصول المناظرة، وقطع حجج
المخاصمة [قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] (البقرة: 258) .
وفي مناظرة أخرى له عليه الصلاة والسلام ذكر الشمس مما يدل على أهميتها
عند البشر [فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ
إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً
وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (الأنعام: 78-79) [1] .
والأرقام الهائلة تدل على هذه العظمة أيضاً:
بينت الدراسات الفلكية الحديثة ضخامة الشمس بالنسبة للأرض؛ حيث قدر
الفلكيون أن قطر الشمس يبلغ (865380) ميلاً بينما قطر الأرض (7913)
ميلاً؛ فهي أكبر من الأرض بنحو مليون وثلاثمائة ألف مرة، وكتلتها تعادل
(333000) مرة من كتلة الأرض وتعادل جاذبيتها ضِعْف جاذبية الأرض (28)
مرة، وتتكون من غازين أساسين هما: الهيدروجين والهليوم ونسبتهما (98%)
وما بقي (2%) غازات مختلفة يتجاوز عددها سبعين عنصراً، ويقدر الهيدروجين
بنسبة 80% والهليوم (18%) ويتحول الهيدروجين باندماج نووي إلى هليوم
وتتحرر طاقة هائلة على شكل حرارة وأشعة وضوء، ويتحول (400) مليون طن
من الهيدروجين إلى هليوم، في كل ثانية، وتفقد في الدقيقة الواحدة (250)
مليون طن من المادة لتتحول إلى طاقة [2] .
وإذا كان ما سبق من أرقام أمراً عجباً فإن ما هو أعجب منه حرارة الشمس
التي لا نطيقها في الصيف ونتظلل منها ونتبرد، ونهرب منها إلى المناطق الباردة؛
هذه الحرارة الشديدة تقطع مسافة طويلة تقدر بخمسة وتسعين مليون ميل أي
(150) مليون كم وهي المسافة التي بين الأرض والشمس، ولا يصل إلى
الأرض من حرارة الشمس إلا واحد على مليار (1/000 000 1000) فقط وهي
النسبة المطلوبة للحياة، وما يزيد على ذلك ينكسر ويرتد بفعل الغلاف الجوي
المحيط بالأرض. وللشمس نواة من الهليوم تتجاوز درجة حرارتها (25) مليون
درجة مئوية، تحيط بها منطقة إشعاع درجة حرارتها (?) مليون درجة مئوية،
وتصل حرارة سطح الشمس إلى (?) ملايين درجة مئوية. ولإدراك معنى هذه
الأرقام الهائلة لا بد من التذكير بأن الحديد الصلب لا يحتاج إلى أكثر من
(1500) درجة مئوية ليتحول إلى سائل يجري كالماء [3] .
الشمس تعبد الله سبحانه وتعالى:
رغم هذه الضخامة والعظمة التي اتصفت بها الشمس إلا أنها خاضعة لربها
عابدة له سبحانه وتعالى فهي تسبِّح الله تعالى كما قال تعالى: [وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] (الإسراء: 44) وهي أيضاً تسجد لله سبحانه وتعالى كل يوم تحت
عرش الرحمن. قال تعالى: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي
الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ
حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ] (الحج: 18) وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لأبي ذر رضي الله عنه حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب؟
قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش
فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: ... ... ...
[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] (يس: 38) [4] .
وأخطأ من تأول هذا الحديث ونفى حقيقة سجودها قال ابن العربي: أنكر قوم
سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هو عليه من التسخير الدائم [5] .
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها
من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد
والخضوع في ذلك [6] .
وقد أحسن الإمام الخطابي رحمه الله تعالى حينما قال: والخبر عن سجود
الشمس والقمر لله عز وجل قد جاء في الكتاب؛ إلى أن قال: وليس في هذا إلا
التصديق والتسليم، وليس في سجودها لربها تحت العرش ما يعوقها عن الدأب في
سيرها والتصرف لما سخرت له [7] .
إذن هي تسبح الله تعالى وتسجد له وقد بلغت هذا المبلغ من الضخامة والعظمة
ولم تستنكف عن عبادة الله سبحانه وتعالى فلماذا يستنكف هذا العبد الضعيف عن
عبادة ربه وهو مثل الذرة على الأرض التي هي أصغر من الشمس بأكثر من مليون
مرة؛ فلو تأمل العاقل ذلك لعلم ضعفه وعجزه وصغره، ولأدرك شيئاً من عظمة
الخالق سبحانه وتعالى مما يدفعه إلى مزيد من الخشية والمحبة والخضوع والعبادة.
تسخير الشمس لخدمة بني آدم:
من تكريم الله تعالى المتتابع على بني آدم أن سخر لهم عظائم مخلوقاته؛ فهذه
الشمس العظيمة مسخرة لهؤلاء البشر الضعفاء، قال تعالى: [وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ] (النحل: 12) ، وقال تعالى:
[وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] (إبراهيم:
33-34) نعم والله! لا نستطيع عدّ نعمة الله تعالى علينا كما لا نستطيع عدّ منافع
الشمس التي سخرت لنا؛ فكان فيها من الفوائد ما لا يحصى؛ فالوقت إنما تمّ
ضبطه على ضوء حركتها، فغروبها ليل، وشروقها نهار، وأوقات الصلوات
عرفت بالظل الذي هي سببه كما في قوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ
وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً] (الفرقان: 45) تضيء النهار
وتبدد الظلام، وتستيقظ على شروقها الأحياء في الأرض، فتسعى في رزقها،
وتكتسب قوتها، وتعم الحركة أرجاء الأرض على ضوئها ونورها، فإذا غربت خيم
الظلام وعم السبات وخلدت الأحياء إلى الراحة استعداداً ليوم جديد، فلو أنها أمسكت
عن المغيب فلم تغب، فكيف يرتاح الأحياء على الأرض، وكيف ينامون؟ ! ولو
أمسكت عن الشروق فلم تشرق، فكيف يعملون ويكتسبون؟ ! وقد جاء لهذه المنة
الكبرى ذكر في كتاب الله تعالى حيث امتن الله تعالى على عباده بتعاقب الليل
والنهار حتى تستقيم الحياة على الأرض وذلك في قوله تعالى: [قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ
اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ *
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم
بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (القصص: 71-73) .
والتسخير يعني التكليف بعمل بدون أجر، ومن معاني (سَخَر) : جرى،
فالله تعالى أجرى هذه الأجرام والظواهر الكونية بما فيها الشمس لتكون في خدمة مَنْ
على الأرض بغير أجر ولا ثمن؛ وتلك نعمة كبرى من الخالق جل جلاله [8] .
ولولا أن الله تعالى خلق الشمس وسخرها لنفع الأرض لما انتظمت الحياة فيها
على ما هو مشاهد من هذا النظام البديع؛ فمن جرَّاء الشمس تحدث ظواهر في
الأرض من تبخير المياه، وتحريك الرياح، مما يسبب هطول الأمطار، وانتفاع
الأرض وبث الحياة فيها، والنبات والحبوب والثمار تنضج بتأثير أشعتها، وتستمد
طاقتها من حرارتها، وتنتقل هذه الطاقة إلى الحيوان ثم إلى الإنسان عبر سلسلة
غذائية منتظمة، وتحرق الشمس بحرارتها ما لا يُعلم من الفطريات والجراثيم التي
لولا الشمس لانتشرت بسببها الأمراض والأوبئة فلا يبقى على الأرض حياة [9] .
وتقدير سيرها وبعدها عن الأرض آية أخرى، ونعمة من نعم الله الكثيرة؛
فقد قدر الله تعالى سيرها وجعلها منتظمة في هذا المسير لم يختل نظامها عنه يوماً
من الأيام، فما تأخرت يوماً عن موعد شروقها أو غروبها، وقدر تعالى بُعدها عن
الأرض حتى تنتفع بها ولذا يحكي الفلكيون أنها لو كانت أبعد لتجمدت الأرض ومن
عليها، ولو كانت أقرب لأحرقت الأرض بمن فيها، وفي ذلك يقول الله تعالى:
[وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ
فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 38-40) ، إنه نظام دقيق بديع يسير وفق أمر الله
تعالى وإرادته، لا يتقدم شيء على شيء ولا يتأخر شيء عن شيء، ليحصل من
جرائه النفع، ويرتفع الضرر وفق تقدير العزيز العليم.
ومن عجائب الشمس مع الأرض أن لها في الأرض مشارق ومغارب كثيرة،
ففي كل لحظة لها مشرق ومغرب كما قال الله تعالى: [فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ]
(المعارج: 40-41) .
علاقة الشمس باليوم الآخر:
إن للشمس ارتباطاً وثيقاً بيوم القيامة ولهذا فمواقفها في ذلك اليوم متعددة:
الموقف الأول: بما أن الشمس علامة في الكون ظاهرة يراها كل البشر،
كان اختلالها عن نظامها المعهود علامة على إيصاد باب التوبة، وآية على قيام
الساعة، وانتهاء التكليف؛ وذلك بطلوع الشمس من مغربها؛ حيث روى معاوية
بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:» لا تنقطع
الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها « [10]
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:» لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس
من مغربها فإذا طلعت من مغربها؛ ورآها الناس آمنوا جميعاً؛ فذلك حين لا ينفع
نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل « [11] .
ويبدو أنه يسبق طلوعها من مغربها ليلة طويلة جداً كما هو ظاهر في حديث
أبي ذر السابق في قصة سجودها تحت العرش؛ إذ جاء فيه أمرها بالرجوع وعدم
الإذن لها بالطلوع، والرجوع يحتاج وقتاً قدر وقت المجيء مما يدل على أن الليلة
التي تسبق طلوعها من مغربها تعدل ليلتين أو أكثر، وقد ذكر الحافظ ابن حجر
رحمه الله حديث عبد الله بن أبي أوفى وفيه:» تأتي ليلة قدر ثلاث ليال لا يعرفها
إلا المتهجدون، يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ، ثم ينام؛ فعندها يموج
الناس بعضهم في بعض، حتى إذا صلوا الفجر وجلسوا فإذا هم بالشمس قد طلعت
من مغربها فيضج الناس ضجة واحدة حتى إذا توسطت السماء رجعت «. وعند
البيهقي في البعث والنشور من حديث ابن مسعود نحوه:» فينادي الرجل جاره: يا
فلان! ما شأن الليلة؟ لقد نمت حتى شبعت وصليت حتى أعييت « [12] .
الموقف الثاني: مصير الشمس بعد انتهاء العالم، وانقضاء الدنيا حيث تُكَوَّر
وتصاحب القمر إلى نار جهنم كما قال تعالى: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ]
(التكوير: 1) ، وقال تعالى: [فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ] (القيامة: 7-9) ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:» الشمس والقمر مكوَّران يوم القيامة « [13] ، وفي رواية:
» الشمس والقمر نوران يكوَّران في النار يوم القيامة، فقال الحسن: وما ذنبهما؟
فقال أبو سلمة: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: وما
ذنبهما؟ ! « [14] قال الإسماعيلي: لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما؛ فإن لله
تعالى في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذاباً وآلة من آلات العذاب
وما شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة [15] .
وأما الحكمة من ذلك فقيل: لأن الشمس والقمر خلقا من نار فأعيدا فيها [16] ،
وقيل: حتى يراهما من عبدهما معه في النار وهو الأقرب لقوله تعالى: [إِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا
وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ] (الأنبياء: 98-99) ، ولما جاء في حديث أنس رضي الله
عنه أن الحكمة من ذلك (ليراهما من عبدهما) قال الخطابي: ليس المراد بكونهما
في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم
لهما كانت باطلاً [17] .
الموقف الثالث: في عرصات القيامة؛ حيث تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فيتأذَّوْن من حرارتها ويصيبهم من الكرب ما يجعلهم يطلبون سرعة القضاء
فيذهبون إلى أبيهم آدم من أجل الشفاعة لهم في سرعة القضاء، ثم إلى سائر أولي
العزم من الرسل حتى يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم كما في حديث
الشفاعة المشهور. وعن دنو الشمس من رؤوس الخلائق قال النبي صلى الله عليه
وسلم:» تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون
الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون
إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. وأشار
النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه « [18] وفي حديث آخر قال عليه الصلاة
والسلام:» إن العَرَقَ يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً، وإنه ليبلغ إلى
أفواه الناس وآذانهم « [19] .
وقد يُشْكل على بعضٍ عدم إحراق الشمس للناس في موقف العرض يوم
القيامة مع هذا الدنو الذي لا يتجاوز الميل سواء كان ميل المسافة أو ميل المكحلة
مع أنها لو اقتربت قليلاً من الأرض في الدنيا لأحرقتها ومن عليها. والحق أنه لا
إشكال في ذلك؛ لأن أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا؛ فلا تقاس عليها، ولو
صح القياس عليها لكان الموت أسرع من عرق الناس إلى آذانهم وأفواههم، ومن
بلوغ العرق في الأرض سبعين باعاً.
هذه هي الشمس التي نراها كل يوم، ويوشك أن يأتي اليوم الذي تتأخر فيه
عن موعد شروقها لتعود مرة أخرى فتشرق من مغربها؛ فيوصد على إثر ذلك باب
التوبة، ولا ينفع الندمُ مَنْ يندم، وهي التي يهرب العباد من شدة حرها في الصيف،
فهلاَّ تذكروا قربها وحرارتها في موقف القيامة حين تستخرج العرق من الأجساد،
فتسيله في الأرض حتى يبلغ الآذان والأفواه! وهلاَّ تذكروا ما هو أعظم من ذلك:
حرارة جهنم التي لا تقضي على من فيها فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها:
[كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ] (النساء: 56) .
إن حرَّ الدنيا يذكِّر بحرِّ الآخرة، وإن لهب الشمس اللافح يذكِّر بلهيبها في
عرصات القيامة كما يُذكِّر بحرِّ نار السعير أجارنا الله منها والمسلمين ولن ينجي من
حرِّ ذلك اليوم سفر ولا سياحة، ولن يطفئ لهبه تبريد ولا ماء. نعم والله! لن
ينجي من حرِّ ذلك اليوم ولهب شمسه، ثم زفرة ناره إلا الإيمان والعمل الصالح،
والأخذ بالأسباب التي تجعل العبد في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله،
وويل لمن كان في الدنيا منعَّماً وفي الآخرة معذَّباً، فما أحسن الاعتبار في الدنيا قبل
أن لا تنفع العظة في الآخرة!