دراسات في الشريعة والعقيدة
(2 - 2)
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
تكتمل الفكرة باكتمال عناصرها. وقد عرض الكاتب في (الحلقة الأولى)
لأصنافٍ من البشر تم تقديسهم مثل: (العُبَّاد، العلماء، والحكام) ثم ألقى الضوء
على بعض مظاهر هذا التقديس، ويتابع في هذه الحلقة بقية تحليلاته لعناصر هذه
الظاهرة حتى تتضح الصورة وتكتمل.
- البيان -
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن أسباب ظاهرة تأليه البشر وبواعثها فقد يتعذر
الإحاطة بتلك الأسباب نظراً لاتساع تلك الظاهرة وتعدد صورها وتنوع أنماطها.
لكن نسوق جملة من الأسباب الرئيسة مع تضمينها شيئاً من العلاج:
من أعظم أسباب تأليه البشر: ضعف التعلق بالله تعالى وضعف تحقيق
العبودية لله تعالى وحده لا شريك له.
فإذا ضعف تعلُّق العبد بربه، وانحسر تحقيقه لعبودية الله تعالى قوي تعلُّق
قلبه بغير الله، وصُبَّ في قلبه من العبودية للبشر بحسب ذلك؛ فما كان لبشر أن
يُستعبَد قلبه لبشر مثله إلا بسبب إخلاله بعبودية الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير ذلك: «كلما قوي طمع العبد في
فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له وحريته مما
سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه
عنه. وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه
لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبِّراً
لأمورهم، متصرفاً بهم؛ فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل إذا
تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تتَحَكَّم فيه وتتصرف بما
تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو
أسيرها ومملوكها» [1] .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على تمام التعلق بالله
وحده [2] ، ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يسألوا الناس شيئاً؛ فإن من احتاج إلى الناس نقص قدره عندهم وفاته من عبودية الله تعالى بحسب ذاك الاحتياج «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله؛ فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يُشرَك به شيء» [3] .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «والله! ما صدق اللهَ في عبوديته مَنْ
لأحد من المخلوقين عليه ربَّانية» [4] .
ومما سطره ابن القيم في هذا الباب: «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا
الله وحده، تحمَّل الله سبحانه حوائجه كلها، وحَمَل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه
لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله
الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة
الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو
يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع
غيره.
فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق
ومحبته وخدمته» [5] .
ولذا كان اليأس مما في أيدي الناس أعظم التحرر من رق عبوديتهم، فأما إذا
طمع فيما عندهم فإن قلبه يتعلق بهم ويفتقر إليهم.
«ولهذا يقال:
العبد حر ما قنع ... والحر عبد ما طمع
ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر، واليأس
غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه.
وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه؛ فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا
يطمع فيه، ولا يبقى قلبه فقيراً إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من
الأمور ورجاه فإن قلبه يتعلق به فيصير فقيراً إلى حصوله وإلى من يظن أنه سبب
في حصوله» [6] .
وما أروع كلام ابن الجوزي إذ يقول: «والقناعة بما يكفي، وترك التشوُّف
إلى الفضول أصل الأصول، ولما أيأس الإمام أحمد بن حنبل نفسَه من قبول الهدايا
والصلات اجتمع همه وحسُن ذكره، ولما أطمعها ابن المديني وغيره سقط ذكرهم.
ثم فيمن يطمع؟ إنما هو سلطان جائر، أو مُزَكٍّ منّان، أو صديق مُدِلٌّ بما يعطي،
والعز ألذُّ من كل لذة، والخروج عن ربقة المحنة ولو بسفّ التراب» [7] .
ولما أعرض قوم فرعون عن عبادة الله تعالى اشتغلوا بتأليه فرعون حتى
صدَّقوه في دعواه [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] (النازعات: 24) وما كان لفرعون
أن يدعي ذلك لولا أن قومه خارجون عن عبادة الله تعالى فاستخفهم فأطاعوه،
كما قال عز وجل: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ]
(الزخرف: 54) .
يقول سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية: «واستخفاف الطغاة للجماهير
أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون
عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما
يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثَمَّ
يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال
مطمئنين!
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون
على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يَزِنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون
فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح، ومن هنا يعلل
القرآن استجابة الجماهير لفرعون فيقول: [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
فَاسِقِينَ] (الزخرف: 54) » [8] .
ومن أسباب تأليه البشر وبواعثه: الغلو في محبة البشر وتعظيمهم وإطرائهم؛
فهؤلاء النصارى لما غلوا في إطراء عيسى عليه السلام جعلوه إلهاً من دون الله
تعالى.
كما قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ
الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ] (النساء: 171) .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «ينهى تعالى أهل الكتاب عن
الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى؛ فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى
رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً
من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه
على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً،
أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً، ولهذا قال الله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] (التوبة: 31) [9] .
ومن حكمة الشارع أنه نهى عن الغلو وحذّر منه أيما تحذير، حتى قال صلى
الله عليه وسلم:» إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو
في الدين « [10] .
كما قرر عجز البشر وضعفهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا
يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
ومن الظواهر المؤسفة في الواقع والإعلام: الغلو في الإطراء، والمبالغة
الممجوجة في المديح لا سيما إن كان ذاك الإطراء المكشوف صادراً عمن ينتسب
للعلم!
فما أسمج أن يبادر هؤلاء بإطلاق المدائح جزافاً تجاه قوم لم يُعرَفوا إلا بالظلم
والفجور! وكما قال الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله أثناء حديثه عن ذاك المديح:
» إن إطراء الشيوخ للحكام ومسارعتهم المريبة إلى تهنئتهم في كل مناسبة،
وتعزيتهم في كل مصيبة بأسلوب يكتبه الأرقاء والأتباع، ويتنزه عنه الرجال
الأحرار، هذه الظاهرة التي تدل على داء عياء بالقلوب، قد غضت من شأن الدين
ومنزلته لدى العامة.
وقد تذاكر الناس أن شيخاً كبيراً من جلة العلماء كما يقولون كان في المرض
الذي يُسقِطُ عنه الصلاة لا ينسى أداء مراسم الوثنية السياسية، على حين كان
الدكتور طه حسين وموقفه من الدين معروف يتكلم بحذر ويرسل مدائحه بقدر! !
هذا في الوقت الذي شُطبت فيه ميزانية الأزهر، وأُرسل المال سيلاً غدقاً إلى
وزارة المعارف التي كان يشرف عليها آنذاك طه حسين « [11] .
ومما يحسن ذكره ها هنا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه قال:» سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في
المدحة فقال: «لقد أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل» [12] .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: حاصل النهي أن من
أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة؛
فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به، ولذلك تأوّل
العلماء في الحديث الآخر» احثوا في وجوه المداحين التراب «أن المراد من يمدح
الناس في وجوههم بالباطل، وقال عمر: المدح هو الذبح، قال: وأما من مُدِحَ بما
فيه فلا يدخل في النهي، فقد مُدِح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب
والمخاطبة ولم يحثُ في وجه مادحه تراباً» انتهى ملخصاً [13] .
وإذا كان مدح الشخص بما فيه لا يأمن أن يحدث فيه كبراً أو إعجاباً أو فتوراً
عن العمل الصالح فكيف إذا مُدِح الشخص بما ليس فيه مما يعدّ كذباً وباطلاً؟ بل
وما ظنك بمن يُمدح بنقيض حاله! كمن يُمدح بأنه أكمل الناس بِراً وعدلاً، وهو في
الحقيقة أعظم الناس فجوراً وظلماً.
وكم أفضت كثرة المديح والإطراء إلى الولوغ في آفات الكبر والغرور
والعُجب، ومن ذلك أن عبد الله بن زياد بن ظبيان خوّف أهل البصرة أمراً،
فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من نواحي المسجد: أكثر الله فينا مثلك.
فقال: لقد كلفتم الله شططاً.
قال الماوردي معلقاً على حال هذا المغرور وأشباهه «فانظر إلى هؤلاء كيف
أفضى بهم العُجْب إلى حمق صاروا به نكالاً في الأولين، ومثلاً في الآخرين، ولو
تصور المعجَب المتكبر ما فُطِرَ عليه من جِبِلَّة، وبُلي به من مَهْنة لخفض جناح
نفسه، واستبدل ليناً من عُتُوِّه، وسكوناً من نُفُوره، وقال الأحنف بن قيس: عجبت
لمن جرى في مجرى البول مرتين كيف يتكبر» [14] .
ومن أقبح الغلو في محبة الأشخاص وأشنعه: عشقهم واستغراق القلب في
ذكرهم ووصلهم؛ حتى آلَ بهم العشق إلى الكفر بالله تعالى وسوء الخاتمة، كما في
قصة عاشق أسلم [15] الذي أنهكه العشق وأتلفه، حتى أنشد عند موته:
أسلم يا راحة العليل ... رفقاً على الهائم النحيل
وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل [16]
فعياذاً بالله تعالى من مصارع السوء ومن الحَوْر بعد الكَوْر.
وهذا رجل كان يجاهد مع المسلمين فعشق نصرانية فتنصّر من أجلها [17] ،
وثالث كان مؤذناً فشغف قلبه بنصرانية فارتد عن الإسلام وتنصر ومات على
ذلك [18] . ورابعهم كان متنسكاً عابداً فهوى شخصاً فتهتك وأظهر الخلاعة
والفجور [19] .
«كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ينشد:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الخزي والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار [20]
ومما يجدر ذكره أن هؤلاء المعظَّمين من البشر يُضفون على أنفسهم أنواعاً
من الهالات والبهرجة والأبهة والرسوم التي تسلب عقول السذج والرعاع، وتشغل
قلوبهم بالمهابة والتقديس لأولئك المتألهين، وعندما قارن الشيخ علي الطنطاوي
رحمه الله بين حجاب المتبرجات، وحجاب الأمراء قال:» والحجاب عند الصنفين
زينة وفخر، ولو كان النساء عاريات أبداً كسائر المؤنَّثات.. . من باقي المخلوقات
لفقدْنَ تسعة أعشار فتنتهن ونصف العشر أيضاً، ولو تعرّى الأمراء عن الشارات
والزينات والأبواب والحُجَّاب لخسروا مثل ذلك من هيبة الحكم « [21] .
وها هي قبور الأموات إذا بُني عليها وأُسرجت وزُيّنت أورثت تأليهاً لأولئك
المقبورين، فكيف ببهرجة الأحياء من ذوي النفوذ والتأثير ورسومهم؟ !
وكما قال العلاَّمة الشوكاني رحمه الله في أثر بناء القبور وتزيينها:» إن
الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على
القبور الستور الرائعة والسرج المتلألئة، وقد سطعتْ حوله مجامر الطيب، فلا شك
ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا
الميت من المنزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه العقائد
الشيطانية « [22] .
ومن أسباب تأليه البشر: إلغاء دور العقل وطمسه عن التأمل والتفكر، ولمَّا
غلب على المتصوفة وكذا غلاة الشيعة تحجيم العقل وإهماله استحوذ عليهم تقديس
البشر وتأليههم.
إن تحرير العقل من رق تقديس الأشخاص إنما يكون بالتفكر وإمعان النظر
والتأمل، والحذر من وصاية الآخرين وهيمنتهم، وعدم قبول الدعاوى إلا ببينة
وبرهان.
ولذا فإن المجتمعات التي يعمها الجهل وتقليد الآخرين والتبعية العمياء تكون
ذليلة منقادة لكل ناعق، كما وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله
عنه هذا الصنف بقوله:» همج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم،
ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق « [23] .
ولابن هبيرة كلام جميل في شأن التدبر والتأمل وخطر وثنية التقليد؛ حيث
قال رحمه الله:» ومن مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن؛ لعلمه أن
الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في
القرآن تورعاً. ومنها أن يقيم أوثاناً في المعنى تعبد من دون الله، مثل أن يَبين
الحقُّ، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليداً للمعظَّم عنده، قد قدَّمه على الحق « [24] .
وتحدّث الكواكبي عن التلازم بين استبداد المتألهين وبين الجهل وإهمال العقل
فكان مما قاله:» بين الاستبداد والعلم حرب دائمة وطراد مستمر، يسعى العلماء
في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام.
ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا «. العوام
هم قوت المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته،
ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري
بعضهم ببعض فيفتخرون بسياسته، وإذا سرف في أموالهم يقولون: كريم، وإذا
قتل منهم ولم يمثِّل يعتبرونه رحيماً.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل
والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف» .
- إلى أن قال -: «والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان، فكل
إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل،
والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم
في تنوير أفكار الناس. والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون
بهم» [25] .
ومن أسباب تأليه البشر وبواعثه: الطاعة العمياء والاستجابة المطلقة
للمتألهين؛ وإنما استكبر من استكبر من الفراعنة والجبابرة لأنهم وجدوا من الرّعاع
من يسارع إلى إجابة أهوائهم وإطاعة نزواتهم دون بصر أو حذر فعتوا في
الأرض وعلوا علواً كبيراً.
وفساد الأديان الأولى جاء من طراوة الأتباع في أيدي رؤسائهم، وتحولهم مع
مبدأ السمع والطاعة إلى أذناب مسيَّرة لا فكر لها ولا رأي.
إن الفراعنة والأباطرة تألهوا؛ لأنهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعي.
والأحبار والرهبان والبابوات تألهوا كذلك؛ لأنهم وجدوا رعايا تمنحهم الثقة
المطلقة وتلغي وجودها الأدبي أمام ما يصدرون من أحكام، والشعوب التافهة في كل
زمان ومكان هي التي تصنع المستبدين وتغريهم بالأثرة والجبروت « [26] .
ومن ثم فينبغي الاعتناء بضوابط الطاعة وشروطها؛ فإن الطاعة العمياء
والاستجابة المطلقة للحكام لا تقل ضرراً وفساداً عما يضادها من الطيش والفوضى
دون طاعة لحاكم أو أمير.
ومن تلك الضوابط: أنه لا طاعة مطلقة إلا للرسل عليهم السلام فليس من
المخلوقين من أمره حتم بإطلاق إلا الرسل عليهم السلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد:» من نصب إماماً فأوجب
طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك كأئمة الضلال الرافضة الإمامية؛
حيث جعلوا في كل وقت إماماً معصوماً تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد
الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء « [27] .
ومن هذه القيود: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما في قصة
سرية عبد الله بن حذافة رضي الله عنه عندما أمر أصحابه بأن يوقدوا ناراً
ويدخلوها؛ فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:» لو دخلوها ما خرجوا
منها أبداً؛ إنما الطاعة في المعروف « [28] .
ومما قاله ابن القيم في شأن تلك الحادثة:» وإن كانوا مطيعين لولي الأمر فلم
تدفعهم طاعتهم لولي الأمر معصيتهم لله ورسوله؛ لأنهم قد علموا أن من قتل نفسه
فهو مستحق للوعيد؛ فإذا كان هذا حكم من عذب نفسه طاعة لولي الأمر، فكيف
من عذّب مسلماً لا يجوز تعذيبه طاعة لولي الأمر.
وأيضاً فإذا كان الصحابة المذكورون لو دخلوها لما خرجوا منها مع قصدهم
طاعة الله ورسوله بذلك الدخول، فكيف بمن حمله على ما لا يجوز من الطاعة
الرغبةُ والرهبة الدنيوية؟ « [29] .
ومن ضوابط الطاعة أنه ليس للسلطان أن يلزم بمسائل الاجتهاد إن لم يكن
معه دليل من كتاب أو سنة، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في
مناظرته خصومه بشأن العقيدة الواسطية، كما قررها أثناء محنته في مصر سنة
706 هـ كما في مقدمة كتابه التسعينية. يقول رحمه الله:» وأما إلزام السلطان
في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق
المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك.
إلى أن قال: ومما يجب أن يُعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن
ينكر إلا بحجة وبيان؛ إذ ليس لأحد أن يلزم أحداً بشيء، ولا يحظر على أحد شيئاً
بلا حجة خاصة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلِّغ عن الله « [30] .
ومن أسباب تأليه البشر: غلبة أرباب الاستبداد وهيمنة أهل العلو في الأرض
والفساد، وإنهاكهم في البغي والعدوان، واستفحال قمع النفوس وإتلافها.
وقد خلّف ذاك الاستبداد والطغيان ثماراً نكدة في حياة الناس، فعمّ الجبن
والمهانة والذل والاستكانة، فراج سوق النفاق، وأُهدرت الحريات، وشُلت
الطاقات، ونُهبت خيرات البلاد.
إن» الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا؛ فهو بلاء يصيب الإيمان
والعمران جميعاً.
وهو دخان مشؤوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد فلا
سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج! !
إن المستبدين ينبتون في مناصبهم نبتاً شيطانياً لا توضع له بذور، ولا تحف
به رعية، ولا تشرف عليه موازنة أو مشورة!
وعندما يوضع رأس فارغ على كيان كبير فلا بد أن يفرض عليه تفاهته،
وأثرته، وفراغه.
بل تمادى المستبدون في كبت الحريات، حتى نهوا عن ذكر عمر الفاروق
رضي الله عنه [31] . فقال أحدهم: أنهى عن ذكر عمر؛ فإنه مرارة للأمراء مفسدة
للرعية [32] .
وذلك لما اشتهر به عمر الفاروق رضي الله عنه من تمام الإحسان
إلى الرعية، والقيام بحقوقها والرفق بهم، وإكرامهم والشفقة عليهم.
ومن ذلك أنه كتب إلى أمراء الأجناد: «لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا
تحرموهم فتكفِّروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم» [33] ، كما فرض عمر
عطاءاً لكل مولود في الإسلام [34] .
وكان يقول: «والله لأزيدن الناس ما زاد المال، لأُعدنّ لهم عدّاً؛ فإن
أعياني كثرته لأحثونَّ لهم حثواً بغير حساب؛ هو مالهم يأخذونه» [35] .
وكان يقول: «لو مات جمل ضَياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله
عنه» .
وقد كشف ابن خلدون عن عواقب الاستبداد والطغيان وما يخلفه من الضيم
وذهاب المنعة وضعف الأمم وفنائها فكان مما كتبه: «وأما إذا كانت المَلَكة
وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكف حينئذ من سَوْرة بأسهم وتُذِهب
المَنَعة عنهم» .
وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمُذهِبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم
يدافع عن نفسه يكسبه المذلة التي تكسر من سَوْرة بأسه بلا شك.
إلى أن قال: والأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء،
والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا مُلكِ أمرها عليها
وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم، فيقصر الأمل ويضعف التناسل.
ثم قال: وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى
الاستخلاف الذي خُلِقَ له، والرئيس إذا غُلب على رياسته وكُبِحَ عن غاية عزه
تكاسل حتى عن شِبَع بطنه ورِيِّ كبده، وهذا موجود في أخلاق الأناسي « [36] .
وتحدث ابن خلدون عن تأثير المغارم والضرائب في وقوع الذل والهوان فقال:
» إن في المغارم والضرائب ضيماً ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية، إلا إذا
استهونته عن القتل والتلف، وإن عصبيتها حينئذ ضعيفة عن المدافعة والحماية،
ومن كانت عصبيته لا تدفع عنه الضيم فكيف له بالمقاومة والمطالبة وقد حصل
له الانقياد للذل، والمذلة عائقة؟
هذا إلى ما يصحب ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب
ملكة القهر « [37] .
إن إباءة الضيم خلق مجيد، وخصلة نابعة عن العزة والشجاعة، ولذا فهي
حاجز منيع تجاه الاستبداد والطغيان، فما أجمل أن يأبى أحدنا الضيم لنفسه أو أهله
أو أمته فيكره الظلم والاضطهاد والاستعباد.
لقد كان العرب في الجاهلية يأبون الضيم بكل حماسة وصلابة، ويضربون
لاحتمال الضيم أبشع الأمثال وأشدها تنفيراً منه، كما قال شاعرهم:
ولا يقيم على ضيم يُراد به ... إلا الأذلان: عَيْرُ الحي والوَتِدُ
هذا على الخسف مربوط برمَّته ... وذا يُشَجُّ فلا يرثي له أحدُ [38]
وقد كان الإسلام وسطاً تجاه هذا الخُلُق بين الإفراط والتفريط؛ فهناك من
تجاوز حد الاعتدال وأفرط في إباءة الضيم كما كان العرب في الجاهلية؛ حيث
كانوا لا يكتفون بالقصاص في القتال، بل يقتلون بالواحد جماعة من الناس [39] .
وأما الأنظمة الجاهلية المعاصرة المستبدة فإنها تسعى إلى استئصال هذا الخُلُق، ومسخ الشعوب إلى قطعان مذعنة، كما وصفهم الكواكبي بقوله:» المستبد يود
أن تكون رعيته كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً، وعلى الرعية أن تكون
كالخيل إن خُدمت خَدمت، وإن ضُربت شَرست، وعليها أن تكون كالصقور لا
تُلاعَب ولا يُستأثَر عليها بالصيد كله، خلافاً للكلاب التي لا فرق عندها أَطَعِمَتْ أو
حُرمت حتى من العظام.
نعم! على الرعية أن تعرف مقامها: هل خلقت خادمة لحاكمها تطيعه إن
عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف؟ أم هي جاءت به
ليخدمها لا يستخدمها؟ ! والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون
بقائه في يدها لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزت به الزمام وإن صال ربطته « [40] .
وتحدث الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله عن إباءة الضيم بكلام نفيس
فكان مما قاله رحمه الله:» هذب الإسلام إباءة الضيم، وجعلها من الخصال التي
يقتضيها الإيمان الصادق، فأصبحت خلقاً إسلامياً، أينما وجد الإيمان الصادق
وجدت إباءة الضيم بجانبه.
ألا تقرؤون فيما تقرؤون من الكتاب المجيد قوله تعالى: [وَلِلَّهِ العِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] (المنافقون: 8) ؟ ولا عزة لمن يسومه عدوه ضيماً
فيطأطئ له رأسه خاضعاً.
ووقاية الأمة من مهانة الضيم تستدعي العمل لأن تكون للأمة قوتان: مادية،
ومعنوية إلى أن قال: وأما المعنوية فبتربية النشء على خلق الشجاعة وصرامة
العزم والاستهانة بالموت؛ فالأمة التي تأبى الضيم بحق هي الأمة التي تلد أبطالاً
وتبذل كل مجهود في إعداد وسائل الدفاع، لا يقعد بها بخل، ولا يلهيها ترف،
وتفاضل الأمم في التمتع بالحرية والسلامة من أرجاس الضيم على قدر ما تلد من
أبطال، وما تعده من أدوات الرمي والطعان.
متى تجمعِ القلبَ الذكيَّ وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبْكَ المظالمُ
ومن الحِكمة أن يعمل الإنسان للتخلص من الضيم بعد شيء من التدبُّر وإحكام
الرأي حتى لا تفضي به مكافحة الضيم الصغير إلى ضيم أفظع منه « [41] .