مجله البيان (صفحة 3489)

قضايا دعوية

تخريج العمالقة

د. عبد الرحمن آل عثمان

لقد اقتضت حكمة الباري جل وعلا أن خلق البشر وجعلهم متفاوتين في

الصور والهيئات والألوان، بَلْهَ القوةَ والضعف، والصحة والمرض، والغنى

والفقر، فضلاً عن التفاوت العظيم بينهم في الهمم والإرادات، والميول والرغبات،

والفهوم والمَلَكَات، كل ذلك لحِكَم عظيمة بها تقوم حياة الناس وتتحقق مصالحهم،

ويُسخَّر بعضهم لبعض، ومن ثَمَّ أيضاً يتفاوت حسابُهم بحسب ما أعطاهم الله تعالى

من الأَعْراض والمَلَكَات، كما قال تعالى: [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا

بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم

بَعْضاً سُخْرِياً] (الزخرف: 32) ، وقال سبحانه أيضاً في آخر الأنعام: [وَهُوَ

الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ]

(الأنعام: 165) .

وهذا التفاضل ينتج عنه تَمَايُزٌ في السعي والتحصيل في العلوم والصنائع،

ومن ثَمَّ يحصل التكامل الذي به تكون عمارة الأرض وبناء الحضارة؛ فهذا يكون

رأساً في العلوم الشرعية، وذاك نابغة في العلوم التجريبية، وثالث هَامَة في الفنون

القتالية، ورابع باقِعَة [1] في التدبير والسياسة.. . وهكذا.

وإنما هذه المهارات بمنزلة الزرع؛ فهو يقوى ويشتد، ويُؤتي ثماره المرجوة

بأمرين:

الأول: قابلية المحلّ.

الثاني: القيام عليه وتعاهده بالسقي والرعاية.

فهو عند اجتماع الأمرين يكون بمنزلة جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها

ضعفين، وإن لم يصبها وابل فيكفيها طَلٌّ حتى تُخرِج من كل زوج بهيج.

وبانعدام أحدهما لا يحصل المطلوب؛ ذلك أن من يحاول علماً لا يتناسب مع

ميوله وقدراته كمن يزرع جوز الهند في الأندلس كما قال ابن حزم أو النخيل في

أحد القطبين!!

وهكذا نَفَاسَة المعدن، وتوقُّد الذكاء، وقابلية المحل، لا تكفي من غير صقل

وتربية وعناية.

وعليه يقال: مقومات النبوغ والتفوق والإبداع بعد توفيق الله تعالى أربعة:

الأول: الإخلاص لله تعالى وتقواه، خاصة إذا كان العلم المطلوب شرعياً.

وقد جاء في بعض رسائل الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ) رحمه الله ما

نصه: «.. . ومن تأمل أحوال العالم وجد ما يشهد به، فيجد من يَشِبّ ويشيب

وهو يقرأ ولم يُحصِّل شيئاً لمانع قام به وحال من نفسه» [2] .

ولما وقعت عين الإمام مالك رحمه الله لأول مرة على الإمام الشافعي رحمه

الله وهو في أوائل الطلب قال له مالك رحمه الله: «إن الله عز وجل قد ألقى على

قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية» [3] . وفي رواية عند ابن عساكر: «فلما أن سمع

كلامي نظر إليَّ ساعة [4] وكان لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد،

فقال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي؛ فإنه سيكون لك شأن من

الشأن» [5] .

الثاني: توفر المَلَكَة والأهلية في ذلك الفن.

الثالث: أن يوفَّق إلى المربي الفطن الذي يتمكن من اكتشاف مواهبه والتفرس

في مَلَكَاته منذ مراحله الأولى، فيوجهه إلى تنمية تلك القُدرات، ويَكِلُه إلى من لديه

القدرة على صقلها وتقويتها.

الرابع: وجود البيئة الملائمة من التلاميذ الذين يتفقون معه في النبوغ والتفوق

من جهة، والأساتذة البارعين في هذا الجانب من جهة أخرى.

وإذا وقع الإخلال بشيء من ذلك فالنتيجة المنتظرة هي الفشل والضمور

والتضاؤل، ومن ثَمَّ تكون الثمرة: تخريج الأقزام بدلاً من العمالقة. والله المستعان.

ولعل من المناسب في هذا العصر الذي برز فيه الحديث عن الموهوبين أن

أنقل لك كلاماً لعَلَم من أعلام المسلمين في هذه القضية الحيوية، وهو الإمام

الشاطبي رحمه الله (ت 790هـ) حيث يقول في معرض كلامه على فروض

الكفاية: «وذلك أن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في

الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ

أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]

(النحل: 78) ، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية؛ تارة بالإلهام كما

يُلهَم الطفلُ الْتِقام الثَّدْي ومصَّه، وتارة بالتعليم؛ فطلب الناس بالتعلم والتعليم لجميع

ما يُستجلَب به المصالح وكافة ما تُدْرأ به المفاسد، إنهاضاً لما جُبِلَ فيهم من تلك

الغرائز الفِطْريَّة، والمطالب الإلهامية؛ لأن ذلك كالأصل للقيام بتفاصيل المصالح

سواء كان ذلك من قبيل الأفعال، أو الأقوال، أو العلوم والاعتقادات، أو الآداب

الشرعية أو العادية وفي أثناء العناية بذلك يَقْوى في كل واحد من الخلق ما فُطر

عليه، وما أُلْهِم له من تفاصيل الأحوال والأعمال؛ فيظهر فيه وعليه، ويُبرِّز فيه

على أقرانه ممن لم يُهيأ تلك التهيئة؛ فلا يأتي زمانُ التعقُّل إلا وقد نجم [6] على

ظاهره ما فُطر عليه في أوَّليَّته؛ فترى واحداً قد تهيَّأ لطلب العلم، وآخر لطلب

الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها، وآخر للصِّراع والنطاح، إلى

سائر الأمور.

هذا وإن كان كلُّ واحدٍ قد غُرز فيه التصرف الكلي؛ فلا بدَّ في غالبِ العادة

من غَلَبة البعض عليه؛ فيردُ التكليفُ عليه معلَّماً مؤدَّباً في حالته التي هو عليها؛

فعند ذلك ينتهضُ الطلبُ على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهضٌ

فيه، ويتعين على الناظرين فيهم الالتفات إلى تلك الجهات؛ فيراعونهم بحسبها

ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم، ويعينونهم على القيام

بها، ويحرضونهم على الدوام فيها؛ حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه

من تلك الخُطط [7] ، ثم يخلى بينهم وبين أهلها، فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من

أهلها، إذا صارت لهم كالأوصاف الفطرية، والمدْركات الضرورية؛ فعند ذلك

يحصل الانتفاع، وتظهر نتيجة تلك التربية.

فإذا فُرِضَ مثلاً واحدٌ من الصبيان ظهر عليه حسنُ إدراك، وجودة فهم،

ووفور حفظٍ لما يسمع وإن كان مشاركاً في غير ذلك من الأوصاف مِيل به نحو ذلك

القصد، وهذا واجبٌ على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاةً لما يُرجى فيه من

القيام بمصلحة التعليم، فطلب بالتعلم وأُدِّب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد

أن يُمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويُعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نصَّ

عليه رَبَّانِيُّو العلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبعه إليه على الخصوص،

وأحبَّه أكثر من غيره؛ تُرك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه

حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا ترك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك

فحسن، وإن طلب الأخذ في غيره أو طُلب به؛ فُعل معه فيه ما فعل فيما قبله،

وهكذا إلى أن ينتهي.

كما لو بدأ بعلم العربية مثلاً فإنه الأحقُّ بالتقديم؛ فإنه يُصرَف إلى معلميها؛

فصار من رعيتهم، وصاروا هم رُعاةً له؛ فوجب عليهم حفظه فيما طلب بحسب ما

يليق به وبهم، فإن انتهض عزمه بعدُ إلى أن صار يحْذِقُ القرآن صار من رعيتهم، وصاروا هم رُعاةً له كذلك، ومثله إن طلب الحديث أو التفقه في الدين إلى سائر

ما يتعلق بالشريعة من العلوم، وهكذا الترتيب فيمن ظهر عليه وَصْفُ الإقدام

والشجاعة وتدبير الأمور، فيُمال به نحو ذلك، ويُعلَّم آدابه المشتركة، ثم يصار به

إلى ما هو الأوْلى فالأوْلى من صنائع التدبير؛ كالعرافة، أو النقابة، أو الجندية،

أو الهداية، أو الإمامة، أو غير ذلك مما يليق به، وما ظهر له فيه نجابة ونهوض، وبذلك يتربى لكل فعلٍ هو فرضُ كفايةٍ قومٌ؛ لأنه سير أولاً في طريق مشترك؛

فحيث وقف السائر وعجز عن السير فقد وقف في مرتبة محتاج إليها في الجملة،

وإن كان به قوة زاد في السير إلى أن يصل إلى أقصى الغايات في المفروضات

الكفائية، وفي التي يَنْدُر من يصل إليها؛ كالاجتهاد في الشريعة، والإمارة؛ فبذلك

تستقيم أحوال الدنيا وأعمال الآخر» [8] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015