البيان الأدبي
نافذة الحنبلي
ظِلُّ إنسانٍ يخطو خطوات هادئة وقورة، يزيد امتداد الظل تحت كل نور بين
عدة أمتار وأخرى.. يتأرجح الظلّ تحت تأرجح أغصان الشجر العاري وهبّات
الهواء التي تحاول جاهدة كسر هذه الأغصان ...
بيوت جميلة متباعدة يسكنها الهدوء القاتل.. تنبعث من نوافذها أنوار هادئة
تكاد ألا تضيء حافة النافذة التي زرعت بالزهور الجميلة وكأنها ألوان رسمت على
لوحة ثلجية ...
الظل يحدث نفسه.. ما أجمل هذه الطبيعة التي أودعها الله سرّه.. سبحان
الله.. رغم البرد ورغم سقوط أوراق الشجر عن عيدانها، ورغم اكتساء السماء بثوب سحبها الداكن ... أحس بإحساس عميق بسعادة عارمة تجتاح جوانحي.. حيث أحسّ في كل خطوة ومع كل هبّة ريح ومع تمايل كل غصن بعظمة الخالق وقدرته.. ما أروع هذا الشعور وما أسعدني به.. يسير الظل حتى يتوارى في أحد البيوت المختفية في حضن الأشجار.. يضيء نور خافت يرسل خيوطه متسللة عبر الستائر الشفافة.. يظهر الظل في النور بوضوح تام.. رجل أشيب.. طويل القامة.. قوي البنية.. يفتح كتاباً ويبدأ في قراءته بخشوع وتأمل.. ويقفل الكتاب بهدوء وينطفئ النور وتظلم الغرفة؛ ولكنَّ هناك نوراً غريباً يحيط هذه الغرفة وكأن انعكاسات من الخارج والداخل تتلاقى لتجعل للبيت وهجاً خفياً لا أحد يعرف كنهه.
الفجر يبدأ بفتح جفونه رويداً رويداً، ويحاول جاهداً إبعاد رمد الغيوم عن
مقلتيه.
البيت المختفي يضاء ثانية مع أول ومضة عين للفجر.. الرجل نفسه ينهض
بنشاط وحيوية يتوضأ ويصلي.. وما كاد الفجر يفتح عينيه جيداً حتى كان الرجل
قد انتهى من صلاته.. وتابع قراءة كتابه.
الشمس تحاول جاهدة أن تطلّ من خلف الستائر الدّاكنة التي حاول الفجر قبلها
فتحها لكن لم يستطع.
خرج الرجل ثانية من البيت وسار بهدوء ووقار من حيث كان يسير هو وظله
في المساء.. يحمل حقيبة يبدو أنها ملئت كتباً..
وصل إلى مبنى كبير وعريق وقديم.. أحجاره تتحدث بأنه قائم منذ مئات
السنين ولكنه لا زال متماسكاً قوياً جميل البناء.. كتب على بابه (جامعة) .
الرجل يدخل حتى يصل إلى أحد المكاتب ويجلس ليتابع كتبه بشغف
وتعمق.. تدق الساعة الثامنة.. يدخل إحدى القاعات الكبيرة التي عجت بالطلبة.
يدخل بهدوء.. تهدأ القاعة من الأصوات المتجاذبة من هنا وهناك.
يبدأ السلام باللغة العربية وبلغة أخرى.. ومن ثم يتابع إعطاء محاضرته عن
الإسلام والنفس البشرية بلغة أجنبية.
الأسئلة تنهال عليه كوابل المطر.. لماذا المسلم لا يشرب الخمر؟ لماذا لا
يقامر؟ لماذا لا ينطلق ويتمتع كيفما يشاء.. لماذا ولماذا؟ ؟
فأجابهم بهدوء: لماذا تكثر عندكم ملاجئ العجزة؟ لماذا تكثر عندكم الملاهي
الليلية؟ لماذا أنتم في صراع مع الزمن؟ لماذا أنتم تتعاطون المخدرات؟ لماذا
تنتشر عندكم الأمراض الخبيثة بكثرة؟ لماذا تكثر عندكم حالات الانتحار؟ لماذا
تسعى حكوماتكم إلى توفير بيوت للمواليد غير الشرعيين؟ لماذا ولماذا؟
وجم جمهور الطلبة بهدوء غريب، وتأملوا وجه هذا الرجل الذي يضيء
صحة ونوراً وكأنه في عنفوان شبابه.
ألا أقول لكم: لماذا لا يوجد عندنا كل هذا؟ لأننا مع الله.. وهل تعلمون
معنى أن يكون الإنسان مع الله؟ هو أن يعمر قلبه إيمان دائم كنهر عذب متدفق لا
تجففه الشمس ولا تجتاحه الفياضانات ولا تهزه الزلازل.. فهو دائم السريان.. دائم
العطاء.. دائم العذوبة.