البيان الأدبي
د. مصطفى السيد
(خير للإنسان أن يَعْدِل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير
منهج) [*] .
1/4
ولد النص النقدي بوصفه البحث عن الأنساق المتحكمة في شعرية النَّص
الأدبي بعد ميلاد هذا الأخير، وليس النص النقدي ثرثرة أو ترفاً فكرياً، بل هو من
مكملات النص الأدبي ومن مقوماته، ومن العناصر الأساس في الثقافة الإنسانية
الأصيلة؛ لأن الإنسان فرداً كان أو أمة يكون حظه من الفكر المتين، بمقدار حظه
مما يمتلكه من ذائقة نقدية وذهنية ناقدة لا تُسلِّم أو تستسلم لأي فكر قبل أن تحاكمه
نقدياً.
وإذا كان الخطاب الأدبي يمتح ابتداء من موهبة أصيلة، فإنه أيضاً يتقرَّى
بالواقع، ويقتات من إخفاقه ونجاحه ليرد إليه ما يأخذه منه بعد أن تعيد عبقرية
المبدع صهره، وصياغته صياغة أدبية؛ وبسبب من هذه العلاقة الأبوية بين
المجتمع/ الواقع والنص ظهرت الاتجاهات: الواقعي/ الاجتماعي / النفسي، لتحاكم
النص بوصفه إحدى التجليات الفكرية والإبداعية للمجتمع والمبدع، وما زالت هذه
الاتجاهات أكثرها تتبعثر جهودها حول النص لا فيه، ولم تلحظ استقلاله عن بيئته
الزمانية والمكانية، وعن حياة قائله وشخصيته، ولو أن أعمال شكسبير
(1564-1616م) مثلاً اعتمدت في فهمها وتقدير قيمتها على البيئة والعصر اللذين انتجاها لما كان لها معنى ولا قدر خارج هذه البيئة وذاك العصر؛ ذلك لأن الشعر أعمق بكثير من مجرد كونه مصدراً نستقي منه حياة الشاعر، وإذن فيمكن أن
يقال: إن القصيدة هي الحياة ولا أقول الواقع وقد وضعت في بناء لغوي موسيقي متوازن، تتضاءل فيها قيمة المناسبة الخاصة، وتتضاءل قيمة الواقع الخاص المصوَّر) [1] .
(ولعل واحداً على الأقل من أسباب انصراف الناس عن الآداب أن الدارسين
تحدثوا إليهم كثيراً عن الأدب وتحدثوا إليهم قليلاً في الأدب) [2] .
(فالدارس العربي محتاج إلى مراجعة موقفه على ضوء ما يتجه إليه النقد
العالمي في هذه الناحية؛ فما يزال لحياة المؤلف عنده أي الناقد العربي ذلك البريق
الشديد، وما يزال يحتفل بحقائق السيرة الذاتية، ويعدها وثيقة من وثائق الدرجة
الأولى لتفسير العمل الأدبي) [3] .
فالاتجاه الواقعي وأشقاؤه يمَّموا وجوههم قِبَلَ النص بوصفه وثيقة اجتماعية أو
تاريخية أو نفسية، واعتقدوا أنهم قالوا كل شيء عن العمل الأدبي عندما كشفوا
شبكة علائقه التاريخية والاجتماعية، ومدى محاكاته لمرجعيته الاجتماعية، وإلى
أي حدّ كان النص مظهراً لمشكلات مجتمعه ولنجاحاته أيضاً.
كما ساءلوا النص عن حياة الكاتب الخاصة؛ إذ أكّد سانت بيف
(1828-1893م) أكبر نقاد فرنسا في زمانه أكد (في تفسير أعمال الأدباء على دراسة حياتهم الخاصة، واستقصاء جميع تفاصيلها، بما فيها حياتهم الحميمة، حتى اتهمه الأدباء المعاصرون له بما يشبه التجسس على حياتهم الخاصة) [4] .
ويثمّن ريمون بيكار ناقد فرنسي جهود سانت بيف ومجهوداته قائلاً عنه وعنها
: (كان مسؤولاً أكثر من أي إنسان آخر عن هذا الخلط بين حياة المؤلف وعمله،
والغريب مع هذا أن مكانته لا تزال على حالها، ولا يزال سانت بيف الشخصية
التي تقرر مصير الأدب) [5] .
ولا شك أن النقد الفرنسي قد تجاوز سانت بيف، غير أن توجه هذا الأخير مازال مهيمناً على أكثر أركان المؤسسة الأدبية في العالم العربي وما زال النص درساً
ودارساً ومدروساً يعاني من السانت بيفية إذا صح هذا التعبير، ودراسة النص بهذه
المنهجية تجعل النقد والناقد يتنازلان عن موقعهما لموقع الشرطي والرقيب إزاء
العمل الأدبي، في حين يبقى موقعهما شاغراً.
يقول جورج ستينير ناقد أكاديمي إنجليزي: (إن رجل الشرطة والرقيب
يسألان الكاتب، على حين يسأل الناقد الكتاب فحسب) [6] .
وكان أكبر همِّ المناهج السابقة أن تجد في النص الفكرَ لا الجمال، والحقائق
لا الخيال، ولا يمكن أن نضع دعاة هذه الاتجاهات في قَرَن واحد، أو نحددهم
بتعريف وحيد، ولكن النقد الواقعي خاصة لفظ أنفاسه الأخيرة أو كاد على أيدي
دعاته من الروس عندما انحطوا بالنص الأدبي إلى مهام أقرب ما تكون تابعة
للبلديات لا للمؤسسات الأدبية، ولعل أندريه جدانون (1896-1948م) الذي رأى
اختزال الأدب ونقده إلى المستوى الذي يطابق منظوره ورؤيته الشيوعية السوفياتية
لهذا الفن الجميل، بل لعله كان يوقع شهادة وفاة هذا الاتجاه من حيث أراد بحسب
منظوره الزِّمّيت دفعه إلى الإمام.
ولا أنكر وأي باحث حر أن أموراً خارج النص يمكن أن تسعف في إضاءته،
وإنما غير المقبول هو تضخيم هذه الأمور الخارجية حتى توشك أن تحجب أشعة
شمس النص أو تكاد.
ولقد نبه نقاد كثر يُعتد بكلامهم إلى الإحالات الخارجية، ولكن بدون إسراف
في التناول.
يقول ت. إس. إليوت: (1888-1965م) : (إنه لا يمكن تحديد عظمة
الأدب على أساس المقاييس الأدبية وحدها) [7] .
ويقول غيره: (نجد أن القراءة الفاحصة جداً للنص، قد تضل عندما تمضي
دون الرجوع إلى السياق التاريخي) وكيف يستطيع ناقد الأدب الإنجليزي أن يقرأ
(تاجر البندقية) [**] (بسذاجة على أنها مادة أدبية خالصة) وأن خبث اليهود
وجشعهم كانا غائبين لدى كتابتها؟
2/4
وإذا انحرف فهم الأدب عن مهامه الرسالية ووظيفته الجمالية، استتبع ذلك
غالباً انحراف النقد وانحساره عن ارتياد جوهر النص، وانحصاره باستقراء ما قبل
النص تشاغلاً بذلك، وعجزوا عن حوار ملفوظ النص ودلالته، خدمة لأهداف قَبْلِية، وإبقاءاً للغة النص بكراً لم تفترعها أقلام النقاد.
وهكذا أدت هذه المناهج التي ترى النص وسيلة لا غاية إلى التعجيل بظهور
الشكلانيين الروس [8] الذين جسَّدوا عصر النص، ومجدوه بوصفه لغة تتحقق
جماليته في أدبيته، فهو بنية لغوية مغلقة هدفه ووسيلته أمر واحد: أدبيته،
ومرجعية الحكم عليه أو له من داخله؛ لأن له حياته الخاصة، ومن هنا كما يقول
الدكتور محمود الربيعي: (فإن حياة القصيدة المتطورة النامية الباقية لا حياة الشاعر
المحدودة المنقضية هي التي ينبغي أن تستحوذ على اهتمامنا) [9] .
ولذا فإن التماس المطابقة أو المفارقة بين المجتمع والناصِّ من جهة والنص
من جهة أخرى: التماس ذلك ليكون حكماً وحاكماً قطعي الدلالة يهمِّش النص في
الوقت الذي يعلي من شأن العوامل الثانوية في النتاج الأدبي.
يقول مالارميه: (1842-1898م) : (إن الكتابة مزودة باستقلالية تامة،
بالقياس إلى العالم الذي تتحدث عنه) .
ويقول جيرار جانبت ولد (1930م) : (إن الشيء الأدبي لا يمكن أن يوجد إلا
بواسطة نفسه، وفي مقابل ذلك فإنه لا يرتبط إلا بنفسه أيضاً) [10] .
وإذا كان للكتابة هذا الاستقلال فإن النقد يجب ألا يكون خاضعاً لغير النص،
بل يجب أن تكون علاقته مع النص علاقة نِدِّيَّة تحاوره ليكون النقد أدباً على أدب؛
لأن (النقد ذا القيمة هو النقد الذي يصبح نفسه أدباً، هو الذي تستمر قراءته لا
لحججه وأفكاره، إنما لكونه نبعاً مستقلاً للمتعة الأدبية) [11] .
وقد يستطيع الباحث أن يعدَّ كلاً من الجاحظ (150-255 هـ) وعبد القاهر
الجرجاني ت (471 أو 474 هـ) من الأمثلة التراثية المقاربة لاتجاه الشكلانيين،
غير أن هذا الاتجاه تطور على أيدي نقاد غربيين، وبات يعرف بالاتجاه البنيوي
الذي هو (عبارة عن جهود متفرقة تلتقي أساساً عند محاولة علمنة الدراسة النصية
للأدب) [12] ، ولقد بالغ هذا الاتجاه في الاعتداد بلغة النص، ولم يعتدّ بأية قيمة
فكرية أو أخلاقية يتضمنها النص، وذلك عندما جعله (بنية مكتفية بذاتها، لا تحيل
على وقائع مجاوزة للغة، قد تتصل بالذات المنتجة، أو بسياق الإنتاج، بل تحيل
على اشتغالها الداخلي فقط) .
ولكن بعض النقاد اعترف بالقيم التي ينتجها النص بوصفها مولوداً شرعياً،
ولكن حذَّر من قيم خارجية يفسر الناقد النص عليها. يقول هذا الناقد: (القيم جميعا
تتولد من لغة القصيدة، والقارئ الذي يستنتج من الشعر شيئاً لا تنشئه لغته لا يقرأ
الشعر، وإنما يقرأ أفكاره الخاصة) [13] .
ولعل الاتجاه الشكلاني والبنيوي هما الأقرب تمثيلاً لما بات يعرف بـ
(عصر النص) .
3/4
يجب على القراء ألاّ يظلوا (مجرد قراء مستهلكين، مجرد تلاميذ، يظلون
تلاميذ طول عمرهم، أنا أريد أن يتحول القارئ إلى ناقد يحاور المادة المقروءة،
وأحرره من سلطة المقروء وسلطة المؤلف والنص عليه لكي تتحقق إرادة القارئ
في حريته مع النص) [14] .
لا أدري هل ينهض الكلام السابق ليكون فاتحة الحديث عن عصر القارئ أو
عصر ما بعد النص، والذي يعد الناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980م)
أبرز ممثليه، وهو الذي كتب (لذة النص) [15] ليضع بحسب قوله: لذة الكتابة،
ولذة القراءة على قدم المساواة؛ وهو الذي دعا مع آخرين [16] إلى موت المؤلف
إحياءاً لدور القارئ، ومن حججه في ذلك وجود أعمال أدبية عالية المستوى،
عالمية الشهرة يتيمة الأب كبعض الملاحم وألف ليلة وليلة.
وهذا الاتجاه لا يعوّل على شيء مما قبل النص، وبذلك يسقط عملياً
الاتجاهات الواقعية والاجتماعية والنفسية، كما تجاوز الاتجاه الثاني، لا ليقف عند
ما تقوله لغة النص، بل عند ما يُقوِّله القارئ إياها. يقول بول فاليري (1871
-19451م) أحد أساطين هذا الاتجاه: (إن كل إبداع أوْلى له أن يكون أي شيء،
إلا أن يعزى إلى مؤلفه) ! ! !
فالقارئ هو المؤهل لإعادة إبداع النص، وإليه يدين بحياته وشهرته (عندما
لا تكون القراءة مجرد شرود، أو رغبة غير مبالية، مصدرها الملل، تكون نوعاً
من الفعل) [17] الذي يضاهئ [***] الفعل الأول المتمثل بإنتاج النص.
والقارئ المؤهل هو الذي يُنطِق النص الصامت على رفوف المكتبات عندما
يجعله بؤرة المشهد النقدي، ليؤهله للدخول في مفردات الفكر الأدبي والإنساني.
ولا إخال ناقداً مسؤولاً يوافق دعاة هذا الاتجاه ودعاواه في زعمهم أن موت
المؤلف يخلي لهم وجه النص؛ فهذه الدعوى أكذب من أن تصدّق، ومن يجرؤ على
بتر وشائج العلائق القائمة بين النص وكاتبه؟
يقول الجاحظ: (ليعلمْ أن لفظه أي الكاتب أقرب نسباً منه من ابنه، وحركته
أمسُّ به رحماً من ولده، ولذلك تجد فتنة الرجل بشعره وفتنته بكلامه وكتبه فوق
فتنته بجميع نعمه) [18] .
ولعل الجاحظ لامس بُعداً من المشكلة، ولكن بعداً خطيراً لا بد من الإشارة
إليه، وهو أن النظر إلى النص بوصفه لقيطاً يفقده ليس شيئاً من جمالياته بل
قداسته كما في النصوص الشرعية.
يقول الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض (ولد في 1935م) : (فكيف يعقل أن
تكون أنت الذي يكتب ثم لا تكون في الوقت ذاته أنت الذي يكتب تلك الكتابة؟ وأي
عقل يصدق ذلك؟ وبأي منطق يمكن البرهنة على موت المؤلف؟) ويرى أن
رفض المؤلف (رفضاً للإنسان في معناه العام، وهو قائم على فلسفة إلحادية أولاً
وعبثية آخراً) [19] .
كما يرفض الناقد فيرنون هال هذه الخدعة بقوله: (إن الناقد يدرك أنه مع
أهمية عمله في مساعدة القارئ أو المشاهد في الاقتراب أكثر من الروائع الأدبية،
فإنه لا يمكن أن يخدع نفسه، فيظن أن عمله يساوي العمل الأدبي ذاته؛ فوظيفته
أن يزيل العقبات من الطريق حتى يستطيع آخر أن يسير بسهولة في
الغابة) [20] .
4/4
وفي الموروث الشرعي والشعري عندنا توجد إشارات واضحة تؤكد دور
القارئ، وحقه في فهم النص فهماً يؤكد الثراء في بنية النص العربي الذي سالت
أوديته بفضل الله ثم بفهمٍ يؤتاه قارئ، ويؤتى آخر غير ذلك الفهم، وقد يكون
الثالث كما في الحديث الصحيح (لا يُمسك ماءاً ولا يُنْبِتُ كلأً) [21] .
ولعل فيما أخرجه الإمام البخاري (194-256هـ) رحمه الله تعالى في
صحيحه ما يعضد تعدد القراءات مع وحدة النص.
(عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الأحزاب: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في
الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بلى نصلي، لم يُرد
منا ذلك، فذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعنِّف واحداً منهم) [22] .
فالنص واحد والقراءات متعددة، ولقد أورد الإمام ابن حجر (773-852 هـ)
ما قد يؤكد ذلك؛ وذلك أثناء شرحه الحديث المشار إليه.
قال رحمه الله: (قال السهيلي وغيره: في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب
على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى
يخصصه، وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صواباً في حق إنسان، وخطأ في حق غيره) [23] .
وفي (محاسن التأويل) للقاسمي رحمه الله 1/31: قال أبو الدرداء: (لا
يكون أحد فقيهاً حتى يحمل الآية على محامل متعددة) ويقول مفسر تونس وفقيهها
صاحب (التحرير والتنوير) ابن عاشور رحمه الله 1/97 في حديثه عن كثرة
المعاني للآية: (لا تكنْ من كثرتها في حَصَر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً
للحمل على الآخر، إن كان التركيب سمحاً بذلك) .
ويقول أبو الطيب المتنبي (303 -354هـ) عن مؤسسة قرائه
: أنام ملءَ جفوني عن شواردها ... ويسهرُ الخلق جُرَّاها ويختصمُ
ويقول بول فاليري (1871-1945م) : (لأشعاري المعنى الذي تحمل عليه
ويقول: (إن القصيدة قد تبدأ في التكوُّن الحقيقي من اللحظة التي يتلقاها فيها
المتلقي الخبير) .
وقبل استعراض آراء بعض النقاد التي تتبنى تعدد القراءة = التفسير الأدبي
لنص واحد، لا بد من التذكير بأن القراءة المكثفة امتداد للكتابة المكثفة؛ فالنص
الشفاف الذي لا يتجاوز الضفاف يحدّد قُرَّاءه، كما يُطالب الناقد بالتفسير المركب
والتحليل المعمق لما يرتضيه من قراءات، وأن يكون النص يسعف كل قارئ
وقراءة، فلا يُلوى عنقه، أو يُقْسر على المعنى قسراً، وأن ندرك كما يقول رينيه
وليك صاحب نظرية الأدب: (إن هناك حدوداً موضوعة لحرية التفسير) ولكن إذا
سقي النص رحيق الموهبة، وأُشرِب ثقافة حرة أصيلة، فإن قراءته توشك أن
تكون عالماً بلا حدود، وإن كل ما يتوصل إليه في هذا الطريق صحيح ما دام
النص لا يرفضه منطوقاً ومفهوماً.
والمرء يدعو إلى تعدد القراءة؛ لأنه (ليس من الحكمة أن نتوقع من عمل ذي
عمقٍ مَّا أن يسلم معانيه كلها من القراءة الأولى التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان في
أي ظرف. صحيح أن الأدب يهدف إلى المتعة، ولكنها متعة التعرف والارتياد
والتنظيم، والإنجاز الجمالي، غير أنه علينا أن نعطي اهتماماً أكبر، وجهداً أكثر
فنتغلغل وراء المستوى البسيط) سيطرة الإيقاع مثلاً (لتلامس أعماق النص بحيث
تؤدي القراءة) من حيث هي فعل ذهني إلى إنشاء جديد لقول سابق، وإنطاق لما
بدا صامتاً في الأقاويل الشعرية) [24] .
وإذا تجاوزنا دوافع الكتابة لهذه الأقطار عن القراءة (فإن احتفال الدارسين
المحدثين بلحظة التقبل = القراءة ظل عابراً رغم ملاحظاتهم الوجيهة في حين أن
مبحث القراءة محتاج منهجياً ومعرفياً إلى دراسات كثيرة تلائم قيمته) [25] .
وأخيراً فإن الناقد الأريب الخِرِّيت هو الذي يأخذ من هذه المناهج ومن هذه
المفاهيم عن القراءة ما يعينه على استنطاق النصوص، وكشف ما فيه من إبداع أو
عكسه، فلا تستعبده مدرسة بعينها، بل يستخدم المعرفة بوصفها، أداة لا غلاً يقمح
عقله عن دقة الاختيار وروعة الاختبار، ثم (ما الذي يفيده رفض الفكر المخالف
سوى التمكين للرأي الواحد. إن النهضة الأدبية محتاجة إلى الاستماع إلى كل
الأصوات، ومن الواجب عدم طغيان صوت أدبي على صوت أدبي آخر، وقد لا
تتضح قيمة الأشياء من فورها، وبذا يكون من الخير الاقتصار على محاولة
استيعابها، وتأجيل الحكم على قيمتها) [26] .
ولنكن على ذكر دائم لقول أحد النقاد: (إن ما يفكر فيه الخيال الحديث أو
المعاصر ليس وضع أي شيء في كتاب بقدر ما هو إطلاق شيءٍ مَّا من الكتاب
بالكتابة) .