ملفات
ماذا يريدون من المرأة..؟ !
(2-2)
عبد العزيز بن ناصر الجليل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا
محمد وآله وصحبه. أما بعد:
فلم يعد خافياً على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة
من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها وقرارها في بيتها؛ حيث
ضاق عطنهم وأخرجوا مكنونهم ونفذوا كثيراً من مخططاتهم في كثير من مجتمعات
المسلمين؛ وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من
هذه المجتمعات تعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير مما أفسد الأعراض
والأخلاق، وبقيت بقية من بلدان المسلمين لا زال فيها والحمد لله يقظة من أهل
العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما
يرومون إليه. وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين
المصلحين والمفسدين.
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة مع وجود أهل العلم والغيرة
أن أولئك المفسدين لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة؛ ولكنهم يتسترون وراء الدين
ويُلبِسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأن أهل الزيغ كما وصفهم الله
عز وجل في قوله: [فّأّمَّا بَّذٌينّ فٌي قٍلٍوبٌهٌمً زّيًغِ فّيّتَّبٌعٍونّ مّا تّشّابّهّ مٌنًهٍ \بًتٌغّاءّ بًفٌتًنّةٌ
ّابًتٌغّاءّ تّأّوٌيلٌهٌ] [آل عمران: 7] . وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ
بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن أول ما دخل
الفساد على أية أمة فإنما هو من باب الفتنة بالنساء، وقد ثبت عن النبي صلى الله
عليه وسلم قوله: (ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء) [1] ، وقوله
صلى الله عليه وسلم: ( ... واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في
النساء) [2] .
وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة؛
حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها
وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا ممن رضعوا من
ألبان الغرب وأفكاره، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة ولا زال لأهل العلم
والغيرة حضورهم؛ فإنهم كما سبق بيان ذلك لا يتجرؤون على طرح مطالبهم
التغريبية بشكل صريح لعلمهم بطبيعة تديُّن الناس ورفضهم لطروحاتهم وخوفهم من
الافتضاح بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع، وإخراج
مطالبتهم في قوالب إسلامية وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل.
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونة الأخيرة مطالبتهم في
مجتمعات محافظة بكشف المرأة عن وجهها وإخراجها من بيتها معتمدين بزعمهم
على أدلة شرعية وأقوالٍ لبعض العلماء في ذلك. ولنا في مناقشة هؤلاء القوم
المطالبين بكشف وجه المرأة المسلمة أمام الأجانب واختلاطها بهم في مجتمع محافظ
لا يعرف نساؤه إلا الحجاب الكامل والبعد عن الأجانب لنا في ذلك عدة وقفات:
الوقفة الأولى:
إن هناك فرقاً في تناول قضية الحجاب وهل يدخل في ذلك الوجه أم لا؟ بين
أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري
الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر، وبين الأجر الواحد مع العذر هناك فرق بين أولئك وبين من يتبع الزلات، ويحكم بالتشهي، ويرجِّح بالهوى؛ لأن وراء الأكمة ما وراءها؛ فيؤول حاله إلى الفسق وَرِقَّة الدين ونقص العبودية وضعف الاستسلام لشرع الله عز وجل.
وهناك فرق بين تلك الفتاوى المحلولة العقال المبنية على التجرِّي لا على
التحري التي يصدرها قوم لا خلاق لهم من الصحافيين ومن أسموهم المفكرين تعج
منهم الحقوق إلى الله عجيجاً، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجاً، ينفرون
من تغطية الوجه لا لأن البحث العلمتي المجرد أدَّاهم إلى أنه مكروه أو جائز أو
بدعة كما يُرجفون، ولكن لأنه يشمئز منه متبوعهم من كفار الشرق والغرب. فاللهم
باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب) [3] .
(ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتَّبعوا التمدن
الغربي، ثم يسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي.
ولقد أوتيت المرأة من الرخص في النظام الإسلامي أن تبدي وجهها وكفيها إذا
دعت الحاجة في بعض الأحوال، وأن تخرج من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاء
يجعلون هذا نقطة البدء وبداية المسير، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب
الحياء والاحتشام، فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين، يل يجاوزه إلى
تعرية الشعر والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيئة القبيحة المعروفة، وهي الهيئة
التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط، بل يخرجن بكل تبرج
من بيوتهن، ويمشين في الأسواق، ويخالطن الرجال في الجامعات، ويأتين الفنادق
والمسارح، ويتبسطن مع الرجال الأجانب.
ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة
وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف؛ على أنه يحل لها أن تغدو وتروح في
الطرقات، وتتردد إلى المتنزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة، وأفتنها
للناظرين، ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية ذلك
الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة يُتَّخذ حجة ودليلاً على أن تودِّع المرأة المسلمة
جميع تبعات الحياة المنزلية، وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني
تماماً وحذو القُذَّة بالقذة كما فعلت الإفرنجية.
وها هو ذا الشيخ المودودي رحمه الله يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في
سياستهم، العبيد في عقليتهم قائلاً: (ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يُستخرَج منه
جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟ وإنكم يا إخوان التجدد إن شاء أحدكم أن يتبع
غير سبيل الإسلام فهلاَّ يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام، ويتفلَّت
من شرائعه؟ وهلاَّ يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له
أن يتَّبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً
وموضوعاً، ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتِّباع القرآن كي ينخدع
به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن؟) [4] .
الوقفة الثانية:
وهي نتيجة للوقفة الأولى، وذلك بأن ينظر إلى قضية الحجاب اليوم وما يدور
بينها وبين السفور من معارك إلى أنها لم تعد قضية فرعية ومسألة خلافية فيها
الراجح والمرجوح بين أهل العلم، ولكنها باتت قضية عقدية مصيرية ترتبط
بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة وعدم فصله عن
شؤون الحياة كلها؛ لأن ذلك هو مقتضى الرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد
صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
إن التشنيع على تغطية المرأة وجهها والتهالك على خروجها من بيتها
واختلاطها بالرجال ليست اليوم مسألة فقهية فرعية ولكنها مسألة خطيرة لها
ما بعدها؛ لأنها تقوم عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس وعلى تغريب المجتمع وكونها الخطوة الأولى أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنه بالطلقة الأولى.
وإن لنا في جعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية كلية مع أن محلها كتب
الفروع إن لنا في ذلك أسوة في سلف الأمة؛ حيث صنفوا بعض المسائل الفرعية
مع أصول الاعتقاد لَمَّا رأوا أن أهل البدع يشنِّعون على أهل السنة فيها ويفاصلون
عليها، من ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية في قوله عن أهل
السنة والجماعة: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في
الأثر) وعلق شارح الطحاوية على ذلك بقوله: (وتواترت السنة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين، والرافضة، تخالف هذه
السنة المتواترة) [5] .
ومعلوم أن المسح على الخفين من المسائل الفقهية؛ ولكن لأن أهل البدع
أنكروه وشنعوا على مخالفيهم فيه نص العلماء عليه في عقائدهم.
إذن فلا لوم على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضية أصولية مصيرية،
وذلك لتشنيع مبتدعة زماننا ومنافقيهم عليه ولحملتهم المحمومة لنزعه وجر المرأة
بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع من ذلك، وأنها لم تعد مسألة فقهية يتناقش فيها أهل
العلم المتجردون لمعرفة الراجح وجوانب الحاجة والضرورة فيه.
وقد صرَّح بعضُ العلماء بتكفير من قال بالسفور ورفْع الحجاب وإطلاق حرية
المرأة؛ إذا قال ذلك معتقداً جوازه.
قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه: (المسائل الكافية؛ في
بيان وجوب صدق خبر رب البرية) [6] :
(المسألة السابعة والثلاثون) : من يقول بالسفور ورفع الحجاب وإطلاق
حرية المرأة ففيه تفصيل:
فإن كان يقول ذلك ويُحسِّنُه للغير مع اعتقاده عَدَم جوازه، فهو مؤمن فاسق
يجب عليه الرجوعُ عن قوله، وإظهارُ ذلك لدى العموم.
وإن قال ذلك معتقداً جوازه، ويراه من إنصاف المرأة المهضومة الحق على
دعواه! فهذا يكفر لثلاثة أوجه:
الأول: لمخالفته القرآن: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ] [الأحزاب: 59] .
الثاني: لمحبته إظهار الفاحشة في المؤمنين. ونتيجة رفع الحجاب، وإطلاق
حرية المرأة، واختلاط الرجال بالنساء: هو ظهور الفاحشة، وهو بيِّنٌ لا يحتاج
إلى دليل.
الثالث: نسبةُ الحيف على المرأة، وظلمها إلى الله تعالى الله عما يقول
المارقون؛ لأنه هو الذي أمر نبيه بذلك، وهو بيِّنٌ أيضاً.
قلتُ: وظهور الفاحشة نتيجة لرفع الحجاب، وإطلاق حرية المرأة، واختلاط
النساء بالرجال يَشهد به الواقعُ من حال الإفرنج والمتفرنجين الذين ينتسبون إلى
الإسلام، وهم في غاية البعد منه.
وصرح الشيخ محمد بن يوسف الكافي أيضاً بتكفير من أظهرت زينتها الخلقية
أو المكتسبة، معتقدة جواز ذلك، فقال في كتابه المشار إليه ما نصُّه: (المسألة
السادسة والثلاثون) : من أظهرت من النساء زينتها الخِلقية أو المكتسبة؛ فالخلقية:
الوجه والعنق والمعصم ونحو ذلك، والمكتسبة ما تتحلى وتتزين به الخلقة كالكحل
في العين، والعقد في العنق، والخاتم في الإصبع، والأساور في المعصم،
والخلخال في الرِّجل، والثياب الملونة على البدن، ففي حكم ما فعلتْ تفصيل:
فإن أظهرت شيئاً مما ذُكِرَ معتقدة عدم جواز ذلك، فهي مؤمنة فاسقة تجب
عليها التوبة من ذلك، وإن فعلته معتقدة جواز ذلك فهي كافرة لمخالفتها القرآن؛ لأن
القرآن نهاها عن إظهار شيء من زينتها لأحد إلا لمن استثناه القرآن، قال الله
تعالى: [ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ] [النور: 31] .
قال هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول من سَبَّ أبا بكر وعمر أُدِّب، ومن
سَبَّ عائشة قُتِل؛ لأن الله يقول: [يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
] [النور: 71] . فمن سَبَّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قُتِل أي
لأنه استباح ما حرَّم الله تعالى انتهى.
الوقفة الثالثة:
ليس المقصود في هذه الوقفات حشداً للأدلة الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها
عن الرجال الأجانب ووجوب الابتعاد عنهم؛ فهي كثيرة وصحيحة وصريحة
والحمد لله ويمكن الرجوع إليها في فتاوى أهل العلم الراسخين ورسائلهم كرسالة
الحجاب للشيخ ابن عثيمين. ومن الكتب التي توسعت في هذا الموضوع وردَّت
على شبهات المخالفين كتاب: (عودة الحجاب/ القسم الثالث) للدكتور محمد بن
إسماعيل المقدم حفظه الله وإنما المقصود في هذه المقالة ما ذكر سابقاً من فضح
نوايا المنادين بكشف الوجه والاختلاط بالرجال، وأن وراء ذلك خطوات وخطوات
من الفساد والإفساد؛ ومع ذلك يحسن بنا في هذه الوقفة أن نشير إلى أن علماء الأمة
في القديم والحديث من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه كلهم متفقون ومجمعون
على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها إذا وُجِدَت الفتنة وقامت أسبابها؛ فبربكم أي
فتنة هي أشد من فتنة النساء في هذا الزمان؛ حيث بلغت وسائل الفتنة والإغراء
بهن مبلغاً لم يشهده تاريخ البشرية من قبل، وحيث تفنن شياطين الإنس في عرض
المرأة بصورها المثيرة في كل شيء في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة
والمرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع؛ فمن قال بعد
ذلك: إن كشف المرأة عن وجهها أو شيء من جسدها لا يثير الفتنة فهو والله مغالط مكابر لا يوافقه في ذلك من له مُسْكَة من دين أو عقل أو مروءة.
وبعد التأكيد على أن أهل العلم قاطبة متفقون على وجوب تغطية الوجه إذا
وجدت الفتنة يتبين لنا أن خلافهم في ذلك كان محصوراً فيما إذا أُمِنَتِ الفتنةُ، ومع
ذلك فتجدر الإشارة أيضاً إلى أن هذا القدر من الخلاف بقي خلافاً نظرياً إلى حد
بعيد؛ حيث ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية خلال مراحل
التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أن التزام الحجاب كان
أحد معالم (سبيل المؤمنين) في شتى العصور: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه
الله تعالى: (كانت سُنَّة المؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرة
تحتجب، والأَمَةُ تبرز) [7] .
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: (لم يزل الرجال على مر الزمان
مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن متنقبات) [8] .
وقال الحافظ ابن حجر: (لم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً أن يسترن
وجوههن عن الأجانب) [9] .
وقد يتعلق دعاة السفور أيضاً ببعض الحالات التي أذن الشارع للمرأة فيها
بكشف وجهها لغير محارمها كرؤية الخاطب لمخطوبته، وعند التداوي إذا عدمت
الطبيبة بشرط عدم الخلوة وعند الشهادة أمام القاضي ونحوها، وهذا كله من يُسْر
الشريعة وسماحة الإسلام؛ حيث رُخِّص للمرأة إذا اقتضت المصلحة الراجحة
والحاجة الماسة أن تكشف عن وجهها في مثل هذه الأحكام؛ وليس في هذا أدنى
مُتَعَلَّق لدعاة السفور؛ لأن الأصل هو الحجاب الكامل وهذه رخص تزول إذا زالت
الحاجة إليه.
الوقفة الرابعة:
ومن منطلق النصح والشفقة وإقامة الحجة أتوجه بالكلمات الآتية إلى أولئك
القوم الذين ظلموا أنفسهم وأساؤوا إلى مجتمعهم وأمتهم وخانوا أماناتهم وحملوا بذلك
أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون فأرجو أن تجد هذه
الكلمات آذاناً صاغية وقلوباً واعية قبل مباغتة الأجل وهجوم الموت؛ حيث لا تقبل
التوبة ولا ينفع الندم.
1 - أذكِّركم بموعظة الله تعالى؛ إذ يقول: [قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن
تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا] [سبأ: 46] .
فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه أو مع صاحبه، ثم فكرتم فيما أنتم
عليه من إفساد وصد عن سبيل الله عز وجل، هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما
تجرُّونه على أمتكم من الفتن؟ وهل هذا يرضي الله تعالى، ويجلب النعيم لكم في
الآخرة؟ إنكم إن قمتم لله عز وجل متجردين مثنى أو فرادى، وفكرتم في ذلك فإن
الجواب البدهي هو أن الفساد والإفساد لا يحبه الله عز وجل، بل يمقته، ويمقت
أهله، وسيأتي اليوم الذي يمقت فيه أهل الفساد أنفسهم، ويتحسرون على ما
فرطوا وضيعوا وأفسدوا، وذلك في يوم الحسرة؛ حيث لا ينفع التحسر ولا التندم،
فعليكم بالتوبة قبل أن يحال بينكم وبينها.
2 - أذكِّركم بيوم الحسرة والندامة يوم يتبرأ منكم الأتباع وتتبرؤون من
الأتباع، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ، بل كما قال تعالى:
[وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [سبأ: 33] .
أذكِّركم بالأثقال العظيمة التي ستحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين
تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا، قال تعالى: [ولَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ
ولَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ] [العنكبوت: 13] ، وقال عز وجل: [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ ومِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا
يَزِرُونَ] [النحل: 25] .
وإن الظالمين جميعهم رئيسهم ومرؤوسهم، تابعهم ومتبوعهم لهم يوم مشهود
ويوم عصيب، يوم يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويحيل التبعة
بعضهم على بعض؛ ولكن حين لا يجدي لهم ذلك إلا الخزي والبوار.
3 - إن لم يُجْدِ واعظُ الله سبحانه والدار الآخرة فيكم فلا أقل من أن يوجد
عندكم بقية مروءة وحياء تمنعكم من إفساد المرأة وإفساد المجتمع بأسره.
إن المتأمل لحال المتبعين للشهوات اليوم ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم!
فما لهم وللمرأة المسلمة التي تقر في منزلها توفر السكن لزوجها وترعى أولادها؟
ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها
وطبيعتها؟ ماذا يريدون من عملهم هذا؟ !
ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال
الكريمة؟ ماذا يريدون من إفسادهم وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم؟ هل
يريدون جيلاً منحلاًّ يكون وبالاً على مجتمعه ذليلاً لأعدائه عبداً لشهواته؟ إن هذه
هي النتيجة؛ وإن من يسعى لهذه النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها الأسر المسلمة
اليوم لهو من أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه.
إن من عنده أدنى مروءة ونخوة فضلاً عن الدين والإيمان لا يسمح لنفسه أن
يكون من هؤلاء الظالمين، وما ذُكِرَ من إفساد الأسرة إنما هو على سبيل المثال لا
الحصر؛ فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من الهبوط والجناية! توبوا إلى ربكم،
وفكِّروا في غايتكم ومصيركم، واعلموا أن وراءكم أنباءاً عظيمة وأهوالاً جسيمة
تشيب لها الولدان، وتشخص فيها الأبصار؛ فإن كنتم تؤمنون بهذا فاستيقظوا من
غفلتكم وراجعوا أنفسكم، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً، وإن كنتم لا تؤمنون
بذلك فراجعوا دينكم، وادخلوا في السلم كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون.
4 - يا قومنا! أعدوا للسؤال جواباً وذلك حين يسألكم عالم الغيب والشهادة
عن مقاصدكم في حملتكم وإجلابكم على المرأة وحجابها وقرارها في بيتها، فماذا
أنتم قائلون لربكم سبحانه؟ إنكم تستطيعون أن تفروا من المخلوق فتدلِّسون وتلبِّسون
، وقد يظهر ذلك للناس في لحن القول وقد لا يظهر؛ لكن كيف الفرار ممن يعلم ما
تخفون وما تعلنون؟ [يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية] [الحاقة: 81] .
فتوبوا إلى علاَّم الغيوب ما دمتم في زمن التوبة، وصحِّحوا بواطنكم قبل أن يُبعثَر
ما في القبور ويُحَصَّل ما في الصدور.
وختاماً:
أوصي نفسي وإخواني المسلمين الحريصين على دينهم وأعراضهم وسلامة
مجتمعاتهم من الفساد بأن يكونوا يقظين لما يطرحه الظالمون لأنفسهم وأمتهم من
كتابات وحوارات مؤداها دعوة إلى سفور المرأة واختلاطها بالرجال الأجانب، فما
دامت المدافعة بين المصلحين والمفسدين فإن الله عز وجل يقذف بالحق على الباطل
فإذا هو زاهق. وينبغي أن لا ننسى في خضم الردود على ما يكتبه المفسدون من
الشبهات والشهوات؛ ذلكم السيل الهادر الذي يتدفق من وسائل الإعلام المسموعة
والمرئية في بلاد المسلمين؛ وذلك بما تبثه الإذاعات والتلفاز والقنوات الفضائية من
دعوة للمرأة إلى السفور ومزاحمة الرجال في الأعمال والطرقات، والتمرد على
الرجل سواء كان أباً أو زوجاً أو أخاً؛ ولقد ضربت هذه الوسائل بأطنابها في بلاد
المسلمين فكان لزاماً على المصلحين محاربتها وإبعادها عن بيوت المسلمين قدر
الاستطاعة، فإن لم يكن إلى ذلك سبيل فلا أقل من تكثيف الدعاية ضدها والتحذير
من شرها ووقاية المسلمين من خطرها؛ وذلك بإصدار الفتاوى المتتابعة والخطب
المكثفة حول أضرارها وأثرها المدمر للدين والأخلاق؛ فإنها والله لا تقل خطراً عما
تكتبه الأقلام الآثمة عن المرأة إن لم تزد عليه، والمقصود أن لا يكتفي المصلحون
بمحاربة ما يكتبه المفسدون في الصحف والمجلات عن المرأة فإن هم سكتوا سكت
المصلحون وظنوا أن الخطر قد انتهى. كلا! إن الخطر لم ينته وإن المعركة
مستمرة؛ لأن الخطر الأكبر لا يزال قائماً ما دامت الوسائل المسموعة والمرئية لا
تكفُّ عن المرأة والاستهزاء بحجابها وقرارها في بيتها وقوامة الرجل عليها، وإثارة
الشبهات في ذلك.
أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يعز دينه
ويعلي كلمته، وأن يرد كيد المفسدين في نحورهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين.