مجله البيان (صفحة 3451)

قضايا دعوية

حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية

عبد الحكيم بن محمد بلال

لا تُنال المعالي بالأماني، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية

بشتى صنوفها. وإذا عُرف أن ابتلاء الدعاة سنة ماضية تبين أن الدعوة الحقة لا

تقوم بلا تضحية.

والمراد بالتضحية: التبرع بالشيء دون مقابل [1] ، كالتضحية بالنفس أو

المال أو العمل أو الوقت أو الجاه أو العلم أو المنصب ... أو غير ذلك، حتى يظن

الإنسان أن لا حق له فيما زاد على حاجته الضرورية، فيبذل جهده في تقويم ذلك

دون مقابل مادي يناله مكافأة على تبرعه، وإنما يرجو بذلك كله وجه الله تعالى،

ونصرة دينه [2] .

وهذا المعنى نفسه هو المقصود من الجود والبذل، وإن كان غلب إطلاق

الجود على إنفاق المال الكثير، بسهولة من النفس، في الأمور الجليلة القدر الكثيرة

النفع كما ينبغي، وهو لا شك من أعظم أبوابه، والمال عماد لكثير من أعمال

الخير المتعدية التي لا تقوم إلا به.

إلا أن المراد بالكلمة أوسع من ذلك؛ فإن هذا المعنى جزء من معناها الواسع

الذي يشمل المراتب الآتية أيضاً:

1 - الجود بالنفس، وهو أعلى مراتب الجود.

2 - الجود بالرياسة، وامتهانها في سبيل نفع الخلق ودعوتهم.

3 - الجود بالوقت والراحة والنوم واللذة، فيتعب ويسهر ويجهد نفسه.

4 - الجود بالعلم وبذله، وهو أفضل من الجود بالمال، ومنه تعليم الناس،

وإجابة السائلين بما يشفيهم، وهي زكاة العلم.

5 - الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان

ونحوه، وهذا زكاة الجاه.

6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كخدمة بدنية، وكلمة طيبة،

وفكرة نافعة.

7 - الجود بالعِرض، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب.

8 - الجود بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ. وهذا أنفع من الجود بالمال.

9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة والبسطة. وهو أعظم مما قبله.

10 - الجود بترك ما في أيدي الناس، وترك الالتفات إليه والتعرض له

بالحال أو اللسان [3] .

وهكذا يتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة - في بعض

الأحايين - أشد احتياجاً إليها من المال، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من

المال الذي تشغله تنمية ماله؛ فإذا تصدق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره. ثم

للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته، وصدقه فيها مع الله تعالى كما أخبر النبي

صلى الله عليه وسلم عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله

فقال: (فهما في الأجر سواء) [4] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

والنية أمر يعلمه الله من القلوب، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق

القليل حال الضراء.

وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات

والجماعات.

منزلة الجود والتضحية:

الجود والتضحية شعبة من شعب الإيمان، وخير وسيلة لشكر نعم الله التي لا

تحصى؛ لأنها استعمال للنعم في محبة الله عز وجل، كما أن استعمالها في غير

الطاعة أو الشح والبخل بها كفران لها.

والأدلة في مدح هذه الخصلة متكاثرة، لكن أبرزها في الدلالة على المقصود

تلك الآيات التي تصف المؤمنين بالإنفاق في حالات تعكس قوة يقينهم، واستقرار

هذه الصفة في نفوسهم. وإنفاق المال صورة من أبرز صور الجود، لكنها جزء

قليل منه. ومن تلك الأدلة: قوله - تعالى-: [يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه]

[الإنسان: 8] أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام؛ ولكنهم قدموا محبة الله

على محبة نفوسهم، ومثله قوله: [وآتى المال على حبه] [البقرة: 177] .

- قوله عز وجل في وصف المتقين المسارعين إلى الخيرات: [الذين

ينفقون في السراء والضراء] [آل عمران: 134] أي: في عسرهم ويسرهم،

إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً.

ومن اعتاد الإنفاق في الشدة هان عليه في حال الرخاء والسعة. فالإنفاق حال

العسر تدريب للنفس على البذل وحب الآخرين، وتحرير لها من سلطان الشح.

والمشاهد أن من يشح بالقليل حال فقره يشح بالكثير حال غناه [5] .

- قوله تبارك وتعالى: [ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة]

[الحشر: 9] وهذا المقام أعلى من الذي قبله [ويطعمون الطعام على]

[الإنسان: 8] ، فإن المحب للمال قد لا يكون محتاجاً ولا مضطراً إليه بخلاف

هؤلاء، كفعل الصدّيق رضي الله عنه لما تصدق بكل ماله.

والإيثار: أكمل أنواع الجود، ولا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله تعالى

مقدمة على شهوات النفس ولذاتها.

وفي مقابل الحث على البذل فقد عظم الله عز وجل قبح الشح وشناعته في

قوله: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] ، وهذا يشمل

وقايتها من الشح في جميع ما أمر به العبد، فيفعله منشرح الصدر، ويترك النهي

ولو دعته نفسه إلى فعله فلا يكون بين هذه النفس وبين الامتثال إلا العلم بالأمر،

ووصول المعرفة إليه، والبصيرة بأنه مُرْضٍ لله تعالى، فيحصل الفوز

والفلاح [6] .

وهذا يوضح أن الشح بشيء مما أوتيه الإنسان وكان في وسعه وطاقته مذموم

جداً وسبيل الفلاح ترك الشح، وهو أمر يعني: سماحة النفس وطيبها في فعل

أوامر الله تعالى، ونفع الخلق بكل وسيلة متاحة.

تضحيات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس جوداً كما وصفه بذلك صحابته.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود

الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) [7] .

فهو صلى الله عليه وسلم في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وجوده دائم

كالريح المطلقة التي لا تهب إلا بالخير والرحمة دائماً، ونفع جوده يعم الغني

والفقير كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه من الأرض الطيبة أو غير

الطيبة.

فقد كان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان، وهو أسوة الدعاة

والمصلحين.

وقد كان جوده متنوعاً شاملاً لكل أنواع الجود. ويعجز المرء على وصف

بذله وتضحياته لأجل الله عز وجل وهو أمر لا يخفى يدركه جيداً من تأمل سيرته،

وسير سنته، وأكثر النظر فيها، ولأجل التمثيل فقط أسوق هذه النصوص:

عن أنس رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن

الإسلام شيئاً إلا أعطاه، قال: (فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى

قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة) [8]

وصُوَرُ جوده بالمال يضيق عنها المقام، ويكفي أنه أعطى أناساً ألحوا عليه مع

أحقية غيرهم خشية أن يسألوه بالفحش، أو يصفوه بالبخل [9] ، فما أحرى هذا

بالتأمل الطويل!

وعنه قال: (إن كانت الأَمَةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله

عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت) [10] فكان صلى الله عليه وسلم باذلاً لجاهه

ووقته وراحته وماله ... في مرضاة الله تعالى ونفع الخلق.

كان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يحصل غاية ما يريده من الجاه، ونيل

الرئاسة والشرف، والتمتع بزهرة الدنيا من النساء وسائر الملذات، وتحصيل

الراحة والرفاهية ورغد العيش، ولكنه ترك كل ذلك لله عز وجل وضحى بكل ما

آتاه الله عز وجل فبذل نفسه وماله، ووقته وجهده، وجاهه وراحته، وأرخص كل

ذلك في سبيل الله.

وقد بدأت معه رحلة المعاناة منذ صعد الصفاة، وأنذر عشيرته الأقربين،

فوصفوه بالسحر والجنون بعد أن كان الصادق الأمين، وأوذي وأصحابه أشد

الأذى، وابتلوا أعظم البلاء، فصار يعرض نفسه على القبائل في الحج يطلب حمايته ليبلِّغ دين الله، وقصد الطائف لعله يجد بغيته، فرجع مُدمى القدمين طريداً، وحوصر وأصحابه وأنصاره في الشعب ثلاث سنين حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع. ويعاني الصحابة من صنوف البلاء وألوان الشدائد

ما لا يخفى، ويواجه بعضهم الموت كآل ياسر وخباب وبلال.

ويخرج بعض أصحابه إلى الحبشة طلباً للنصرة، ويصبرون على مفارقة

الأهل والأولاد والأوطان، ويتسامعون بإسلام بعض الصناديد المشركين، فيعود

بعضهم إلى مكة ليجدوا أشد مما كانوا يعانون، ثم يعودون ثانية إلى الحبشة، ومعهم

آخرون في رحلة عناء أخرى. ثم يأذن الله بالهجرة إلى المدينة، ويهاجر صلى الله

عليه وسلم وسائر أصحابه، ثم يكابدون الغربة، وكثرة الأعداء، وأذى المنافقين

واليهود، وقتال الأهل والعشيرة.

وقد كان لكثير من أصحابه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صفحات

طويلة من البذل والتضحيات، فيهجر مصعب رضي الله عنه النعيم والدعة ويهاجر

داعية إلى الإسلام في المدينة، ويعرِّض علي رضي الله عنه نفسه للهلاك بنومه في

فراش النبي صلى الله عليه وسلم عشية الهجرة، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء

في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه، ويُعرِض أبو الدرداء عن التجارة

تفرغاً لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقبل خالد بن الوليد التنازل عن

منصبه طاعة لأمير المؤمنين، ويتنازل أبو عبيدة عن إمرة الجيش لعمرو بن

العاص جمعاً لكلمة المسلمين، ويرفض الحسن بن علي الخلافة درءاً للفتنة وجمعاً

للكلمة، ويقبِّل عامر بن عبد الله رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى

المسلمين ... [11] .

ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائع بالجود والتضحية؛ فقد ضحت أم

سلمة بشمل الأسرة، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الهجرة، ولا يخفى جهد

أسماء وعناؤها أثناء الهجرة، ولا تضحيتها بابنها عبد الله بن الزبير في سبيل نصرة

الحق.

لا تقوم الدعوات إلا بالتضحيات:

باستقراء الحقائق، ومعرفة الواقع يتبين للبصير ما يلي:

1- كل دعوة لا تنتشر إلا بجهود أتباعها، ودين الإسلام لم ينتشر براحة

الأبدان وسلامة النفوس.

2- تتسع الثغرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم، وتكثر المجالات

الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها

3 - يتزامن مع هذا قلة الموارد، وجفاف المنابع، وضيق ذات الدعاة مما

يُخشى أن يشكل خطراً على بعض الدعاة وكثيراً من البرامج.

4 - هذا الواقع الصعب يواجه أفراداً ممن عرفوا واجبهم ورأوا خطورة الأمر

في حين أنه يحتاج إلى اجتماع الجهود واستعداد كل داعية غيور بالجود

والتضحية.

5 - وفي المقابل تزداد جهود أهل الباطل قوة، وتزداد مخططاتهم دقة،

وتتعدد أنشطتهم لتشمل شتى الجوانب.

ونجد هنا شكوى عمر رضي الله عنه المُرَّةَ ماثلةً: (اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ

الفاجر وعجز الثقة) ، ولا يرفع هذا الواقع إلا الصدق مع الله، ودليل الصدق

الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعوة في وقت كهذا، وهو

الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل، وشتان بين من يضحي وهو يرى

ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه

أمارات النصر ودلائل التمكين، قال الله عز وجل: [لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن

قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ

الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] . [الحديد: 10] .

موانع الجود والتضحية:

إن للتخاذل أسباباً أساسها ضعف الإيمان، وبرود اليقين، ومردها إهمال

التربية أو ضعفها، وإن كان كثير منها يعود إلى الشح بالمال، لكنها تحتمل وجوهاً

أخرى إضافة إلى أسباب أخرى عامة، منها:

1 - طول الأمل.

2 - التفات القلب إلى الولد. وهو يقوم مقام طول الأمل عند كثير من

الناس؛ لأنه يحمل على الجبن والبخل والحزن، لأن (الولد مجبنة،

مبخلة) [12] .

3 - فتنة الأزواج.

4 - الركون إلى الدنيا، وكونها الهمَّ والشغل الشاغل، وإيثار الدعة

والراحة.

5 - حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال.

6 - حب عين المال، والسعي للغنى والهروب من الفقر بلا نية صالحة.

7 - تزعزع القناعة، والثقة، وسلامة الطريق الذي يسير عليه.

8 - انعدام الجدية، ودنو الهمة، والعجز والكسل.

9 - الانشغال بالتضحية من أجل أهداف ومصالح شخصية.

10 - الوصول إلى بعض الأهداف الدنيوية لنيل شهرة، أو تحصيل جاه أو

شرف، أو منصب، يكون نهاية الجهد والعمل [13] .

11 - ضعف معرفة الواقع، وضخامة حاجة الدعوة، وجهود الأعداء، أو

الجهل بذلك.

12 - الشعور بالأثرة، وحب النفس.

وبعض هذه الأسباب كافٍ في تحطيم الداعية، وتسبيط همته على البذل

والتضحية.

بواعث الجود والتضحية:

يحصل بعث النفس على التضحية بأمور هي في حقيقتها علاج للعلل المانعة

منها؛ وذلك بالأمور الآتية:

1- دفع كل علة من العلل السابقة بما يضاد سببها؛ فعلاج حب الشهوات:

القناعة والصبر، وعلاج طول الأمل: كثرة ذكر الموت، وعلاج التفات القلب إلى

الولد: اليقين بتكفل الله عز وجل برزقه ورعايته، وعلاج حب المال: تعميق

محبة الله في القلب، ومحاولة بذل القليل إضعافاً لمحبة المال.

2 - معرفة حقيقة الابتلاء بالنعم، وأن لله تعالى في كل نعمة شكراً يليق بها؛

فالصحة لها شكر يناسبها، وكذا الوقت والجاه والقوة والذكاء والمال، وأن كلاً منها

منحة وعطية ورعاية من الله عز وجل لينظر الله أعمالنا، ويظهر الشاكر من

الكفور.

قال الله عز وجل: [وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ

بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ

رَّحِيمٌ] [الأنعام: 165] .

3 - تذكُّر بعض الحقائق المتصلة بالإنفاق، ومنها:

أ - أن ما قدمه الإنسان فلنفسه، فهو المستفيد منه حقاً.

ب - أن مال الإنسان حقيقة هو ما أنفقه في حياته، أما ما تركه فهو مال

الورثة، كما في الحديث [14] .

ج - أن إخراج ما زاد على حاجة الإنسان هو الخير له، (يا ابن آدم إنك أن

تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك ... ) [15] .

د - أنه يمكن للإنسان أن يكفيه القليل من المال، فما حاجته إلى الباقي؟

هـ - أنه لا حق للعبد في مال زاد عن حاجته في وقت اشتداد الحاجة، كما

في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له فضل ظهر فليعد به

على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له) . قال

أبو سعيد الخدري: (فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا

في فضل) [16] .

4 - معرفة منزلة الإنفاق وفضله وفوائده، ومنها:

أ - أن الله يُخْلِفُ له ما أنفق، قال تعالى: [وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ

وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] [سبأ: 39] مع أنه في الحقيقة هو الباقي عند الله تعالى في

الآخرة.

ب - أنه عز وجل يبارك فيما بقي، ومن أصدق الأدلة المحسوسة: أن الله

بارك في أوقات العلماء الصادقين فعملوا ما يصعب تصوره في الحسابات المادية،

وبارك في أقوالهم وأفعالهم وكتبهم؛ فبلغت مبلغاً من النفع والأثر ما لم يخطر لهم

على بال مما يكاد ألاَّ يتصوره غيرهم، وقد كانوا عظيمي التضحية بأوقاتهم

وعلومهم. قال عز وجل: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم

مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ] [البقرة: 268] .

5- معرفة واقع المسلمين وحاجاتهم، وخطط الأعداء وجهودهم، والتقصير

الحاصل في فروض الكفايات، مما يزيد الواجب وجوباً على أهل الكفاية والغنى

والمواهب والقدرات.

6 - التعود على تقديم القليل حال الفقر والحاجة، وبشكل أخص في أوقات

الشدائد والأزمات، التي تكثر فيها حاجات الدعوة، وتستدعي مزيداً من

التضحيات.

دلائل الجود والتضحية وثمراتهما:

1 - كمال الإيمان: وذلك لأن التضحية شعبة من شعبه، يزيد بها الإيمان،

وينقص بتركها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر

فليكرم ضيفه) [17] .

2 - حصول شرف التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أمارة أيضاً

على قوة الإيمان لقوله عز وجل: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن

كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] [الأحزاب: 21] .

3 - عدم الركون إلى الدنيا، والتعلق بالآخرة، وهو طريق سعادة العبد.

4 - تحصيل قناعة القلب وغنى النفس، وهو الغنى الحقيقي؛ لارتباط

صاحبه بربه عز وجل.

5 - ضمان الخلف لما أنفق، وحصول البركة لما بقي. وقد جاء في

الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم

أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) [18] .

وهو مفهوم القاعدة المشهورة: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه،

وأمثلتها في القرآن كثيرة: هجر إبراهيم عليه السلام قومه واعتزالهم فعوضه الله

الذرية الصالحة، وضحَّى يوسف عليه السلام بالشهوة فعوضه الله بالملك يتمتع

بالمباحات، وضحَّى أهل الكهف بالراحة فعُوِّضوا بالراحة الأعظم، وكانوا سبباً

لهداية الضالين، والمهاجرون تركوا أوطانهم وأهلهم فعوضهم الله بالرزق والعز

والتمكين، وجمع شملهم بعد فرقة ... وهكذا فكل من ترك ما تهواه نفسه وضحى به

لله تعالى، وجاد به في سبيله لرفعه كلمته عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة

إليه ما يفوق لذَّات الدنيا كلها [19] .

6 - ما يترتب على التضحية والجهود المبذولة من ثمرات ومنافع وهداية لا

تخطر ببال صاحبها، ولا يعلم مداها إلا الله تعالى، مصداق حديث النبي صلى الله

عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك

من أجورهم شيئاً) [20] .

وختاماً:

فما دامت الدعوات لا تقوم إلا على التضحيات فقد أدرك كل واحد

من الدعاة ما يجب عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015