دراسات في الشريعة والعقيدة
علم الجرح والتعديل
وعلاقته بالرواية
عبد اللطيف منديل
لما كان الحديث النبوي الشريف المورد الثاني للتشريع الإسلامي بعد القرآن،
والمنهل البياني له في تفصيل الأحكام المجملة التي وردت فيه، وتقييد المطلق
وتخصيص العام، وتأسيس الأحكام التي لم ينص عليها الكتاب، عُني المسلمون
بحفظه وفهمه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، واستمر هذا الاهتمام
عبر الأجيال المتتالية.
نشأة علم الجرح والتعديل:
كثيراً ما تتسرب بعض العلوم من أمة كان لها قصب السبق في الوجود إلى
أمة أخرى تبعت أثرها على هذه الأرض. لكن الوضع يختلف بالنسبة لعلم الجرح
والتعديل؛ فهو علم نشأ في ظل الإسلام، وتفردت به أمة محمد صلى الله عليه
وسلم، فلا أثر له في أي أمة من الأمم السالفة؛ لأن هذه الأمة سهرت على حفظ ما
جاء به نبيها صلى الله عليه وسلم، فتعلم فيه جيلٌ من الصحابة والتابعين ومن أتى
بعدهم. إلا أن إعطاء الصدارة لأبي بكر من الجيل الأول في البحث عن الرجال
في قصة ميراث الجدة كما سطر في كتب الجرح والتعديل فيه تأمل [1] . نعم قد
يصح في غير هذه القصة؛ فقد ذكر الحاكم أن أبا بكر وعمر وعلياً وزيد بن ثابت،
جرّحوا وعدَّلوا وبحثوا عن صحة الروايات وسقيمها [2] ؛ فقد طلب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه من أبي موسى الأشعري أن يأتيه بشاهد عندما حدثه بحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاث مرات فلم يؤذن له
فليرجع) فانطلق أبو موسى رضي الله عنه إلى مجلس فيه الأنصار فذكر ذلك لهم،
فقال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذن أحدكم ثلاث
مرات ... ؟ قالوا: بلى. لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام أبو سعيد الخدري إلى
عمر. فقال: هذا أبو سعيد. فخلى عنه [3] . وكذلك كان علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يستحلف من حدثه بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان
ثقة مأموماً [4] . ولم يكن الجيل الأول يتهمون بعضهم، ولكن كانوا يخشون جرأة
الناس على الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم دون تثبت وتدقيق، فشددوا في
قبولهم الروايات.
ثم اقتفى أثرهم واهتدى بهديهم في هذا جماعة من الجيل الثاني كالحسن
البصري، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، ومحمد بن سيرين، وغيرهم. لكن
رغم هذا لم تَنْمُ مادة واسعة في علم الرجال يتداولها العلماء والنقاد حتى منتصف
القرن الثاني الهجري؛ حيث شاع الوضع في الحديث، وكثر الضعفاء، فانبرى لهم
عدد من الأئمة النقاد والمحدثين الكبار مثل شعبة بن الحجاج، ومعمر بن راشد،
وهشام الدستوائي، وسفيان الثوري، وغيرهم كثير من أصحاب منتصف القرن
الثاني إلى أصحاب القرن الثالث؛ حيث بدأ نوع من التخصص في علم الرجال
يبرز بصورة خاصة عند يحيى بن معين، وعلي بن المديني؛ فنما التصنيف في
علم الجرح والتعديل خلال القرن الثالث والرابع. إلا أن الجرح في عصر التابعين
لا يكاد يتجاوز سوء الحفظ [5] ، وإنما ظهر الجرح والتعديل من حيث إنه علم قائم
بذاته له أهله ورجاله وقواعده بعد عصر التابعين. ولعل أول من كتب في قواعد
هذا العلم أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار المتوفى 292 هـ في جزء
له في معرفة من يُترَك حديثه أو يُقبَل. وهكذا نشأ هذا العلم، وهو أحد فروع علم
الحديث [6] .
حكم هذا العلم في الشريعة الإسلامية:
لقد جاءت عبارة ابن دقيق العيد ملجمة لأفواه المحدثين، والنقاد:
(أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس:
المحدثون، والحكام) [7] . لكن رغم هذا لم تمنعهم من الوقوف في وجوه الكذابين
والوضَّاعين ذبّاً منهم عن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام وقيل ليحيى بن
سعيد القطان: (أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركتَ حديثهم خصماءك عند الله
تعالى؟ قال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلَيَّ من أن يكون خصمي رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: لِمَ حدثتَ عني حديثاً ترى أنه كذب؟ !) [8] .
وقد أجمع العلماء على أن الجرح والتعديل جائزان في الشريعة الإسلامية، بل
هما واجبان صوناً للشريعة الإسلامية من الكذب. وقد أكد هذا الإجماع الإمام
النووي في كتابه: (رياض الصالحين) عند إخراجه هذا العلم من دائرة الغيبة
قال: (اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها. وهو ستة أسباب ... فذكر منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة) [9] . والحاجة هنا لا تخفى على من له غيرة على السنة المطهرة، وإجماع العلماء هنا يرتكن إلى دلائل من الكتاب والسنة: فمن الكتاب قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ] [الحجرات: 6] . وقوله تعالى: [وأشهدوا ذوي
عدل منكم] [الطلاق: 2] .
ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: (ائذنوا له. بئس أخو العشيرة أو ابن
العشيرة) [10] .
وقوله: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) [11] .
هل يقبل الجرح والتعديل مجملين من غير بيان أسبابهما؟
تباينت آراء العلماء في الجرح والتعديل: هل يقبلان مبهمين من غير بيان
أسبابهما، أم لا بد من ذكر سبب كل واحد منهما، أم ذكر التعديل دون الجرح أو
العكس؟ لكن الذي درج عليه جمهور العلماء ونقاد الحديث وحكاه ابن الصلاح في
كتابه: (مقدمة في علوم الحديث) عن الخطيب البغدادي أنه يقبل التعديل من غير
ذكر أسبابه؛ لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها. وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسراً مبين
السبب؛ لأنه قد يجرح أحدهم بما لا يعتبر جرحاً، ولذلك احتج البخاري ومسلم
وأبو داود وغيرهم من الأئمة بأناس جُرِّحوا بدون بيان السبب؛ فقد احتج البخاري
بحديث عكرمة مولى ابن عباس، وعاصم بن علي وغيرهما، واحتج مسلم بسويد
بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل داود السجستاني، وذلك دال على
أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فُسِّرَ سببه [12] .
ما العمل عند تعارض الجرح والتعديل؟
إذا توجه إلى فرد واحد جرح وتعديل، فالجرح مقدَّم على التعديل؛ لأن
المعدِّل يخبر عما انكشف من حال الراوي، والجارح يخبر عن باطن خفِيّ عن
المعدِّل، فكان المخبر عن شيء خفي معه زيادة علم يجب الأخذ بها، وهذا بعد بيان
سبب الجرح وإن كثر المعدلون. وهو مذهب جمهور العلماء وبه العمل
عندهم [13] .
وختاماً: أقول: إن هذا العلم علم الجرح والتعديل لا تزال الأمة الإسلامية في
أمسِّ الحاجة إليه، لا سيما في عصرنا هذا؛ حيث اتجه المستشرقون ومن لفّ لفهم
وشرب من منهلهم من بني جلدتنا إلى شن الغارة على السنة النبوية ورواتها،
وإثارة الشكوك حولها بأسلوب ناعم مسموم يتظاهر رواده بالتجرد والبحث العلمي
الموضوعي. ولهذا صار محتّماً على كل مسلم يعثر على خبايا هؤلاء الضفادع
وأتباعهم في السنة النبوية ورواتها أن يرجع إلى كتب علماء الجرح والتعديل ليقف
على حقيقة رواة السنة الموثقين والمجروحين؛ لأن هذه الماهية أو الحقيقة حقيقة
رواة السنة يستحيل أن نجدها عند المستشرقين المكذبين لرسالة محمد صلى الله عليه
وسلم، وإنما نجدها عند أتباعه وخدّام سنته، عند علماء الحديث. ولقد أحسن
القائل إذ قال:
أهل الحديث هم أهل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا [14]
وتخلي المسلمين عن هذا المنهج الحديثي النقدي سبب مباشر يقف إلى جانب
كيد المستشرقين في ازدياد هوة هذا الانحراف الذي تغلغل فيه المسلمون في هذا
الوقت.