المنتدى
عبد الملك مطر النمر
قال الشاعر:
إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى ... ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري
وقال حكيم: من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه، أو فرضٍ أداه،
أو مجدٍ أثَّله، أو حمدٍ حصَّله، أو خير أسسه، أو علمٍ اقتبسه فقد عق يومه وظلم
نفسه.
وللوقت خصائص يتميز بها يجب علينا أن ندركها حق إدراكها، وأن نتعامل
معه على ضوئها، ومن هذه الخصائص:
أولاً: سرعة انقضائه: فهو يمر مر السحاب سواء كان زمن مسرة وفرح،
أم كان زمن اكتئاب وترح.
قال الشاعر:
مرت سنون بالوصال وبالهنا ... فكأنها من قصرها أيام
ثم أتت أيام هجر بعدها ... فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة فهو قصير ما دام الموت هو نهاية كل
حي. وعند الموت تنكمش الأعوام والعقود التي عاشها الإنسان حتى لكأنها لحظات
مرت كالبرق الخاطف.
ويحكون عن شيخ المرسلين نوح عليه السلام: عندما سئل: كيف وجدت
الدنيا؟ فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
وسواء كانت القصة صحيحة أم غير صحيحة فإنها تعبر عن حقيقة مقررة هي: تضاؤل الأعمار عند الموت. قال تعالى: [ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا
ساعة من النهار] [يونس: 45] .
ثانياً: أن ما مضى منه لا يعود ولا يعوَّض؛ فكل يوم يمضي وكل ساعة
تنقضي وكل لحظة تمر ليس في الإمكان استعادتها، ومن ثمَّ لا يمكن تعويضها؛
وهذا ما عبر عنه الحسن البصري بقوله البليغ: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: ... يا ابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني؛ فإني إذا مضيت لا
أعود إلى يوم القيامة) .
قال الشاعر:
وما المرء إلا راكب ظهر عمره ... على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحي كل يوم وليلة ... بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر
ثالثاً: أنه أنفس ما يملك الإنسان: فالوقت يعتبر من أنفس وأثمن ما يملك
الإنسان؛ لأن ما مضى منه لا يرجع ولا يعوَّض بشيء. وترجع نفاسة الوقت إلى
أنه وعاء لكل عمل وكل إنتاج؛ فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فرداً أو
مجتمعاً.
والوقت ليس من ذهب فقط كما يقول المثل؛ بل هو أغلى في حقيقة الأمر من
الذهب وغير ذلك من المعادن والجواهر النفيسة، إنه هو الحياة؛ فما حياة الإنسان
إلا الوقت الذي يقضيه من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة.
وفي هذا قال الحسن البصري أيضاً: ابن آدم! إنما أنت مجموعة أيام كلما
ذهب يوم ذهب بعضك، ومن جهل قيمة الوقت الآن فسيأتي عليه حين يعرف فيه
قدره ونفاسته وقيمة العمل فيه ولكن بعد فوات الأوان.
وفي هذا يذكر القرآن موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته، حيث لا
ينفع الندم:
الموقف الأول: ساعة الاحتضار، حين يستدبر الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة
ويتمنى لو منح مهلة من الزمن وأُخِّر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسد ويتدارك ما
فات. قال تعالى: [وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ
رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ] [المنافقون: 10] .
ولكن الله رد عليهم بقوله: [ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها إن الله خبير بما
تعملون] [المنافقون: 11] .
الموقف الثاني: في الآخرة: حيث توفى كل نفس ما عملت وتجزى بما
كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار؛ قال تعالى: [ووفيت كل
نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون] [الزمر: 70] ، وقوله تعالى: [اليوم
تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم بيوم إن الله سريع الحساب] [غافر: 17] .
هناك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الدنيا؛ ولكن هيهات لما يطلبون؛ فقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء، والله أعطى كل مكلَّف من العمر ما
يتسع لعمل ما كُلِّفَ به، ويُذكِّره إذا غفل عنه وبخاصة من عاش حتى بلغ الستين
من عمره؛ ففي هذا القدر من السنين ما يكفي لأن ينتبه الغافل ويتوب العاصي.
وفي الحديث الصحيح: (أعذر الله إلى امرئ أمهله حتى بلغ ستين عاماً) [1] .