بأقلامهن
علياء بنت عبد الله
ما زلنا نخاطب النفوس والقلوب منذ عدة عقود غير منتبهين لانحراف
المفاهيم التي غدا فيها الحق باطلاً والمنكر معروفاً في كثير من الأحيان! !
حين يحب الإنسان شيئاً يسعى إلى تكميله وتجميله، ويجتهد ما استطاع في
حمايته من كل خدش يعكر صفاءه، أو كسر يؤذيه، وكذلك هو هذا الدين؛ نحمل
له ولأبنائه المخلصين كل مشاعر الحب والتقدير والاحترام، ونذود عنه حتى من
نسمة الريح. ومن تمام هذا الحب علينا أن نسعى جاهدين من أجل تأدية الأمانة
التي حمَّلنا إياها.
وما حمل على كتابة هذه الأسطر إلا الطمع في القائمين على أنشطة الدعوة
في الوصول إلى التمام والكمال بالمفهوم الشرعي لهذين اللفظين وليست الرغبة في
الانتقاص من أحد؛ وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.
أولاً: القرآن تهميش أم تفعيل؟
كان وحي السماء كفيلاً بأن يغير حياة أمة جاهلية لا تعرف معنى الإنسانية
بنقلها إلى النقيض من تلك الحياة. كانت آياته تلامس أوتار النفوس فيُقبِل الناس
على هذا الدين الوليد، وكان المسلمون في مكة يُعذَّبون فتثور فيهم ثورة العربي
فتأتي التربية القرآنية: [أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَّ]
[النساء: 77] وحين ينتشي المسلمون بفرحة النصر في بدر يردها الله إلى الميزان
الحقيقي في وزن الأمور: [ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وأَنتُمْ أَذِلَّةٌ] [آل عمران:
123] ويُهزَم الجيش المسلم في أُحُد فتأتي الآيات لتلمس الجرح وموطن العطب: ... [مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ومِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ] [آل عمران: 152] وفي الوقت الذي
يرجع فيه المسلمون من صلح الحديبية مستائين محبَطين تأتي الآيات بعكس ما كانوا
يتوقعونه تماماً: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] [الفتح: 1] ويستمر تنزيل الآيات حدثاً
بحدث وآية بآية، ومحنة بمحنة يشاركهم أفراحهم ويسلِّيهم عن أحزانهم، حتى
استطاع بحروفه وكلماته أن يحوِّل تلك الأمة إلى أمة ضربت بأرجلها هام السحاب.
إن كتاباً هذا شأنه وهذا شرعه جدير بأن يحتل مكاناً أكبر في برامجنا الدعوية. إن برامجنا تجعل من تحفيظ القرآن هدفاً أول وهذا حق وواجب، ولكن من
الواجب علينا أيضاً أن نصرف مجهوداً إن لم يكن أكبر فعلى الأقل مماثلاً له في
تفسيره والوقوف على آياته واستخراج كنوزه، وما ذاك إلا لإعادة دوره في حياة
الناس وربطهم بما تقتضيه الآية من استجابة فورية وتنفيذ مباشر، وإلا فإننا نطبق
ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: (هذا أوان يُختَلَس العلم
من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء) فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف
يُختَلَسُ منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنُقرئنه نساءنا وأبناءنا! فقال: ... (ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة؛ هذه التوراة والإنجيل
عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟) [1] .
إن جزءاً من إيماننا بأن كتاب الله هو شريعتنا الوحيدة إلى يوم القيامة يحتم
علينا أن نصرف المزيد من الأوقات في استخراج أسراره ودروسه العقدية
والتربوية والإيمانية وغيرها، ومن ثَمَّ فإن الإقلال من دور القرآن في جعله مادة
للحفظ فقط مع التعريج السريع على معاني كلماته وجعل الأوقات الكبرى والذهبية
تُصرَفُ في تعلُّم مواد أخرى ظلم كبير لكتاب الله وتهميش لدوره الحقيقي الذي يجمع
العلم كله، ومن تعلَّم القرآن فقد أخذ بحظ وافر.
ثانياً: برامجنا بين الكم والكيف:
رغم تعالي الأصوات وتكرر النداءات بوجوب العناية بالكيف والبعد عن
الغثائية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ولكنكم غثاء كغثاء
السيل) [2] إلا أنه ما زالت برامجنا تخطو خطوات بطيئة نحو ترجمة هذا المفهوم، ... وما زالت تخاطب الجميع الخطاب نفسه وباللهجة نفسها.
فإذا أخذنا أحد البرامج على سبيل المثال نجد أن المشتركين قد يصل عددهم
إلى 400 مشترك: منهم العابد، ومنهم طالب العلم، ومنهم المسرف على نفسه،
ومنهم من جاء يشغل فراغاً، وآخر لا يُعلَمُ سببٌ لمجيئه! ! هؤلاء الأربعمائة
يُجمَعون جميعاً في مكان واحد ليتلقوا المعلومة نفسها والتوجيه نفسه؛ وعلى أحسن
الأحوال فقد يُفصَل الأطفال عن الكبار، وقد يكونون ربع العدد، كما يفصل كبار
السن وهم الربع الآخر لتجمع المئات المتبقية بعضها مع بعض.
أي نوع من التربية الذي نطمح إليه من خلال هذا الطرح؟ !
وبماذا يختلف هذا الأسلوب عن قراءة كتيب أو توزيع شريط؟ !
ولماذا نشتكي من عدم وجود قيادات جديدة مؤهلة، ونشتكي من تكرر الوجوه
على مر السنين؟ لماذا نشتكي من ذلك إذا كانت برامجنا لا تتسع لتقوية الضعفاء،
ولا لتحديث القدماء، ولا لتمييز الطاقات؟
ولسنا نجد تشبيهاً لفعلنا هذا إلا بطبيب يحقن جميع مرضاه على اختلاف
علاتهم بدواء واحد فيشفي هذا ويقتل هذا؛ والسبب هو الخطأ في الدواء! هذا
ونحن نتغافل عن إجابات رسول الله صلى الله عليه وسلم المختلفة لسؤال واحد هو: أوصني يا رسول الله! فيأتي الجواب تارة بالحث على الصلاة في وقتها، وتارة
بعدم الغضب، وأخرى ببر الوالدين؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لا يحمل
إجابات متسرعة ومجهزة يقدمها لكل من يسأل! ! وإنما يعطي كل سائل حسب
طاقته وحسب حاله.
إننا إذا تعاملنا مع هذه المئات بهذه الكيفية فإننا نحمل وزرهم؛ لأننا نظلم ذلك
المتعطش المتلهف فنبطئ من سرعة تحصيله ونطفئ فيه رغبته لمعرفة الحق،
وعلى الصعيد الآخر فإننا قد نرمي بهذا الخطاب العام بسهام تصيب أولئك
المستجدين فتجعله آخر العهد بهم! !
ثالثاً: العيش في الشرنقة!
في الوقت الذي يقف هذا الجيل الناشئ أمام مغريات الواقع الكبيرة وفتنه
الأكبر، إلا أن برامجنا ما زالت تخاطب تلك القلوب البريئة نفسها والنفوس
الصافية التي كانت تخاطبها قبل عشرين سنة مضت متجاهلين بذلك تغير الزمان
وانحراف مفاهيم الناس التي غدا فيها الحق باطلاً والمنكر معروفاً في كثير من
الأحيان.
فحين كنا نجعل بالأمس من قضية نقاب المرأة مشكلة العصر ونعتبرها أهم
الدروس ونجمع في ذلك الفتاوى، فإننا نقف اليوم مشدوهين أمام تفسخ كامل وعري
فاحش وكَمٍّ هائل من العلاقات المحرمة، وانتشار للزنا بصورة مروعة؛ وقصص
المدارس والمستشفيات أكثر من أن تُعد أو تُحصى، فإذا أضفنا إلى ذلك إقرار
بعض أفراد المجتمع لهذه الممارسات بحجة متطلبات العصر ومستلزمات النقلة
لعرفنا حجم التغيير الذي يجب أنه نحدثه في برامجنا الدعوية حتى يتسنى لنا
استيعاب هذا الانحراف والدخول على مختلف شرائح المجتمع لتصحيح ما أفسده
هذا الانقلاب في حياة الناس.
رابعاً: دعوة للمخلصين:
استقراءاً لما سبق فإننا نأمل من القائمين على البرامج الدعوية إعادة النظر في
البرامج المطروحة على الساحة وبنائها من جديد على أساس متين آخذين بالاعتبار
ما يلي:
1- إعادة دور القرآن في حياة الناس؛ وذلك من خلال التأكيد على وقفاته
الإيمانية ودروسه التربوية والعلمية، وإعطاء تفسيره وشرحه الوقت الكافي،
ومحاولة ربطه بواقع الناس من حيث ضرب الشواهد من حياتنا اليوم مع ربطها
بفتاوى المشايخ في بعض مستجدات العصر للتأكيد على أن الدين واحد لا يتجزأ،
وأيضاً من خلال إعطاء معلمي القرآن أهدافاً لا بد من تحقيقها وفوائد ودروساً لا بد
من التأكيد عليها من خلال التفسير.
2 - إتاحة الفرصة لانطلاق قيادات جديدة عن طريق فتح برامج تأهيلية تعنى
بأولئك المتلهفين المتعطشين والذين تبدو عليهم علامات النبوغ والتميز، ويجب
دراسة ذلك من ناحية الكثافة العلمية والتربية الجادة والمتابعة الدقيقة.
3 - مراعاة الفروق بين الناس؛ وذلك عن طريق فتح دورات جديدة
لاحتياجات الناس ومطالبهم لا سيما في هذا الوقت العصيب.. ففي الحين الذي
تحس فيه امرأة بأن أصعب مشكلاتها هي عدم قدرتها على تخريج حديث مَّا، قد
تحس أخرى بأن أصعب مشكلاتها هي في التعامل مع أطفال لها بلغوا سن المراهقة: كيف تحميهم من الفتن؟ كيف تربيهم على الفضيلة وسط مجتمع منحرف؟
إن لكل فرد مطالبه، ولكل منا مشكلاته؛ وكلما استطعنا فتح أبواب جديدة
لتوسيع الخطاب مع الناس كلما استطعنا أن نسد شيئاً ولو قليلاً من أبواب الفتنة التي
عمت وطمت.
هذا ونحن لا نستطيع أن نقلل من حاجة هذه أو تلك؛ ففي الوقت الذي نُكْبِرُ
فيه سؤال حنظلة واهتمامه بإيمانياته حين يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام قائلاً:
نافق حنظلة، أو يقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع تلك المرأة التي تأتيه
شاكية زوجها فلا يهمِّش من قضيتها، بل وتنزل فيها آيات تتلى إلى يوم القيامة: ... [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ] [المجادلة: 1] وكم
حوت آيات القرآن من أوامر للوالدين بوقاية أطفالهم من النار والاعتناء بتربيتهم
وحفظ حقوقهم: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَاراً] [التحريم: 6] .
فبماذا ستنتفع الأمة إذا كانت الأم لا تحسن تربية أبنائها ولا تستطيع غرس
الفضيلة في صدورهم لتخرج للأمة رجالاً مشوهين فكرياً مليئين بعقد النقص
والهزيمة الداخلية؟