البيان الأدبي
هدى سلطان
سهلٌ جداً أن نرى جيلاً جديداً من محبي الأدب والكتابة يتنافسون من أجل
الظهور بشكل مميز ومختلف، ولكن القلة هم الذين يستمرون ويبدعون، وهؤلاء
هم الذين نسميهم بالصفوة أو المبدعين. الحقيقة أن المبدع يستطيع أن يكتب، لكن
ليس كأي أحد، وهذا ما يجعله مختلفاً عن غيره. والإبداع هو أن يصل المبدع إلى
شيءٍ لم يصل إليه غيره، ويحقق شيئاً لم يحققه الآخرون، ويبدع أسلوباً آخر يحبه
الناس المتابعون. هبة من الله هذا المبدع وإبداعه؛ لكن هل كل مبدع يستطيع
إبراز فنونه وإبداعاته؟
قلة قليلة هم الذين كتب الله لهم الحياة والظهور على السطح ليراهم الناس،
والكثير من المبدعين من الجنسين دفنت الظروف إبداعهم، وحجبت المصالح
فنونهم، والإبداع يُحارَب على مر السنين، وهو يُحارب إما من طبقة المتخلفين
الجاهلين الذين لا يعرفون قيمة العلم والإبداع، ولا يؤمنون بأهمية التطور والتقدم،
ما يهمهم هو الحفاظ على العادات والتقاليد القبلية البالية التي بسببها تم اغتيال العديد
من المواهب المبدعة في مهدها، مما كان من الممكن أن تضيف شيئاً للبشرية.
وسلطة العادات لدى بعض البشر أقوى وأعظم من سلطة الدين.
إن الإسلام حارب الجهل والعصبية والتخلف، ومع ذلك نرى الكثير يعيش
في عالم آخر، عالم حجري كأنه لا يحس ولا يشعر! كما هو في حسد الحاسدين
الذين يغيظهم نبوغ أحد، أو ما يفعله آخرون من استغلال الفقر وضيق الحال أن
يلجئوا مبدعاً أو عالماً أن يبيع كتاباته وفنون أدبه وأشعاره الحزينة لِغنيٍّ خال من
الموهبة، لينال شهرة عظيمة في المجتمع؛ إذ جَمَعَ النار والماء، جمع المال
والإبداع حين استولى على إبداع وموهبةٍ كان نصيبها من الحياة أن صاحبها فقير،
وذلك يكفي لأن يكون الموت نصيبها أو نصيب هذا الجسد الذي تحيا فيه.. فهل
ثمة عقاب لمثل هؤلاء المعتدين؟ ! للأسف هذا حال كثير من المبدعين في هذا
الوطن العربي الكبير، بينما لا نرى اضطهاداً كهذا للمبدعين في بلاد الغرب وهم
الكافرون الضالون الذين يعملون المستحيل من أجل اكتشاف المبدعين الصغار من
المراهقين والشباب، وتتنافس المؤسسات من أجل كسبهم والنهوض بهم، بينما
المبدعون العرب لم نسمع بهم إلا بعد هجرتهم إلى بلاد الغرب؛ حيث وجدوا هناك
ما ساعدهم على العيش والحياة والاستمرار في الإبداع بشكل متميز. وأكبر دليل
على ذلك عالم الفضاء الدكتور فاروق الباز، وغيره من الأطباء والأدباء والمفكرين
الذين دفعتهم ظروفهم الاجتماعية وعسرها في بلادهم للهجرة؛ لأن السواد الأعظم
من مبدعي العرب في الغرب دافعهم الأول للهجرة التقليل من شأن إبداعهم في
وطنهم، والتضييق عليهم في رزقهم، وعدم توفير الفرص والتشجيع للاستمرار
الإبداعي لديهم، وهذا هو الظلم للنفس المبدعة التي أكرمها الله من دون النفوس
البشرية الأخرى بالنبوغ والتحليق فوق البشر بشيء فريد لا يصل إليه غيرها؛ لأنه
في داخل هذه النفس البشرية المبدعة الخيرة التي تسخِّر إبداعها من أجل خير
البشرية والإنسانية.
ومن هنا أطالب بتقديم العون لكل مبدع في الوطن العربي الكبير بتهيئة
الإمكانات وتقديم المنح والجوائز والفرص لمزيد من الإبداع ليس في مجال دون
مجال، ويجب فتح مؤسسات متخصصة لرعاية الموهوبين والمبدعين، ويجب
معاقبة كل من يحاول قتل موهبة أي مبدع، أو التقليل من شأنه، أو استغلال فقره
وشراء إبداعه، أو محاولة كتم صوته سواء في الإعلام أو غيره، وهذه المؤسسات
مطلب مهم للعناية بهذه البذرة الإبداعية؛ لأن الموهبة لا تستطيع أن تعيش بدون
اهتمام وبدون صقل لها، سواء بالدراسة العالية أو تحقيق الأمن المعيشي لها وتوفير
الجو الاجتماعي المثالي الذي يعين هذا الموهوب على الحياة الجديدة، فيحيا بحياته
في مجتمع يسعد بمثل هؤلاء المبدعين الذين يثرونه ويزيدون في موارده ويرفعون
اسمه ويساهمون في نهضته ورفعته.
وقد نرى خلال السنين القادمة مبدعين يتكررون من جديد، وربما يبدعون
أفضل من سابقيهم؛ فمن الممكن أن يظهر لدينا علماء يضاهون ابن تيمية وابن
خلدون، وقادة وساسة ربما يضاهون عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، والسلطان قطز وغيرهم كثير؛ وهذا ليس بمستحيل، والأمل بالله تعالى كبير وما
ذلك على الله بعزيز.