دراسات تربوية
خالد أبو الفتوح
ليس المقصود هنا توحيد مشاعر المسلمين وإن كان ذلك مطلوباً، ولكن
المقصود توحيد مشاعر المسلم ذاته، تجاه نفسه وتجاه الآخرين، بل وتجاه الأشياء
المحيطة به؛ فالمسلم الحقيقي يتفرد بأن مشاعره تعيش في حالة انسجام تام بعضها
مع بعض؛ لأنها تنبع من حقيقة العبودية لله عز وجل وتقوم أساساً على الحب وما
يقتضيه من المتابعة والنصرة. ويتفرع عن ذلك الحب: البغض لما ينافي
المحبوبات وما يقتضيه من نفرة وعداوة، وذلك ضمن إطار حكمة الابتلاء العام في
الحياة.
ومشاعر المسلم منسجمة موحدة - أو هكذا ينبغي أن تكون - من خلال علاقة
ممتدة طولياً عبر زمان يرتبط به قبل أن يولد ولا ينتهي بموته، وعرضياً عبر
شبكة من العلاقات والتفاعل مع الكون كله تزيل عنه النفرة مع عناصر هذا الكون.
يدرك المسلم أن نسبه يبدأ بأبيه آدم - عليه السلام -، ليس فقط باعتباره أباً
لكل البشر، بل أيضاً باعتباره أول المصطفين من البشر، وأول من عبد الله منهم،
ويدرك أيضاً أن أول أعدائه وأشدهم عداوة له هو عدو أبيه آدم وأمه حواء: ... [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن ورَقِ
الجَنَّةِ ونَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ
مُّبِينٌ] [الأعراف: 22] . [إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُواً مُّبيِناً] [الإسراء: 53] . علاقة قديمة وثأر مبيّت يُستدعى حتى قبل أن تغرس بذرة المسلم الأولى، بدعاء والديه (بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) [1] . فإذا ما خرج هذا المسلم الجديد إلى الدنيا استهل الشيطان معركة العداوة والإيذاء: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلاَّ ابن مريم وأمه) [2] ، وعلى الفور يُهمس في أذن الوليد أذان الصلاة معلناً انتماء هذا الإنسان إلى معسكر التوحيد، وهكذا ترتسم منذ أول وهلة خارطة مشاعر المسلم: محبة ونصرة لـ (لا إله إلا الله) وأهلها، وبغض وعداوة للشيطان وأوليائه.
المسلم والكون.. جزء من كل:
فإذا ما مَارَسَ المسلم حياته وجد نفسه جزءاً من عالم كبير يرتبط به ولا يشذ
عنه، يتوجه معه نحو ربه، ويخاصم من أبى عبوديته وعصاه.. شعور ممتد
وتفاعل مستمر مع عناصر الكون كله.
فهو يؤمن بأنه يعيش في كون يسبِّح الله - عز وجل -، سماواته وأرضه،
بره وبحره، جباله وسهوله، جماده وحيواناته، إنسه وجنه [تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ
السَّبْعُ والأَرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً] [الإسراء: 44] .
بل إن هذا الكون يذعن بالعبودية لله - تعالى - كما يذعن هو: [أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ] [الحج: 18] ،
والمسلم يؤمن بأنه ليس وحده في هذا الكون الذي يؤمن أن محمداً صلى الله عليه
وسلم رسول الله: (إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا
عاصي الجن والإنس) [3] .
كون يغار مثله على توحيد الله -جل وعلا -: [وقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَداً
(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إداً (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ
الجِبَالُ هَداً (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَداً] [مريم: 88 - 91] جباله مهيأة للتأثر
مثله بالقرآن [لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ... اللَّهِ] [الحشر: 21] ، ومن حجارتها ما يُرى عليها أثر خشية الله خلافاً لكثير من قساة القلوب من البشر [وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وإنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ... ] [البقرة: 74] ، بل صاحبت بعض الجبال والطير نبياً من أنبياء الله في عبادته: [وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر] [سبأ: 10] ، [إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ والإشْرَاقِ] [ص: 18] . ويحدث هذا التفاعل يحدث مع كل مسلم موحد: (ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا) [4] .
ولا غرو بعد ذلك أن تتشابه حركة المسلم في عبادة كالحج مع حركة الكون
من أصغره إلى أكبره، فدورانه حول الكعبة في الطواف يشبه في الشكل والاتجاه
دوران الإلكترون حول النواة في الذرة، كما يشبه دوران الكوكب حول النجم في
المجرة، وعدد مرات طوافه وعدد مرات سعيه هو نفسه عدد السموات وعدد
الأرضين: (سبعة) .
ويحس المسلم أن في الكون من الحيوانات والجمادات ما يتودد إليه؛ فعن أبي
ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من
فرس عربي إلا يُؤْذَن له مع كل فجر، يدعو بدعوتين، يقول: اللهم خولتني من
خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه) [5] ، وفيه ما يعينه على
تحسس الخير والابتعاد عن الشر؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛
فإنها رأت مَلَكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوُّذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى
شيطاناً) [6] ، وفيه ما يستغفر له؛ فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... وإن العالِمَ ليستغفر له من في
السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء) [7] .
وفي حس المسلم أنه ليس وحده الذي يؤمن بقيام الساعة، ولكن الكون كله
يترقب معه قيامها، ويشفق منها إشفاق العبد الوجل: عن أبي هريرة - رضي الله
عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (.. وما من دابة إلا وهي مُسِيخَة
[منصتة] يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلا
الجن والإنس ... ) [8] ، ( ... وفيه [أي: يوم الجمعة] تقوم الساعة، ما من ملك
مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم
الجمعة) [9] ، والمسلم يتيقن أن رد الحقوق إلى أهلها يوم القيامة لن يستثنى منه
أحد، حتى البهائم العجماء؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال: (لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة
الجلحاء من الشاة القرناء) [10] .
وهو يعتقد أن شهود النجاة أو الهلاك في هذا اليوم ستشمل عناصر كثيرة في
عالم المحسوسات وعالم المعنويات والغيبيات؛ فعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
صعصعة الأنصاري عن أبيه: ( ... أن أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال
له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة
فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا
شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه
وسلم) [11] ، وفي وراية: (لا يسمعه جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر إلا شهد له) [12] .
وأعضاء الإنسان تشهد عليه إن أذنب: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ
وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [النور: 24] ، [حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ وأَبْصَارُهُمْ وجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (?) وقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا
قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ]
[فصلت: 20، 21] ، وذلك أدعى إلى مراقبة العبد نفسه في السر والعلن.
والمسلم يعتقد أن أثر الطاعة والمعصية لا ينحصران في اليوم الآخر فقط،
بل يعيشه في الدنيا أيضاً: [ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ
مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ... ] [الأعراف: 96] ، [ويَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ ولا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]
[هود: 25] ، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُبسَط له في رزقه، ويُنسَأ له في أثره، فليصل رحمه) [13] ، وعن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعاً: (لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء) [14] ، وهذا ما وُجد صداه لدى سلف هذه الأمة؛ يقول ابن القيم - رحمه
الله -: (قال بعض السلف: إني لأعصي الله -عز وجل - فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي) [15] .
مشاعر متبادلة مع الكون كله:
ومن هذه العلاقات تنبثق مشاعر الحب والبغض والموالاة والمعاداة عند
المسلم، علاقات ومشاعر متبادلة بينه وبين الكون كله.
فالسماء والأرض لا تبكيان على موت الكافرين والطغاة [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ
السَّمَاءُ والأَرْضُ ومَا كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: 92] بخلاف المؤمن الذي يبكي
عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء كما ورد عن علي وابن عباس
رضي الله عنهم -[16] .
والمسلم قد يتبادل مشاعر المحبة مع جبل أصم، عن أنس - رضي الله
عنه - قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحُد، فقال: (إن أُحُداً جبل يحبنا ونحبه) [17] ، ومن ثَمَّ: فمن مقتضيات هذه المحبة عدم إزعاج المحب لمحبوبه؛ عن قتادة أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُداً، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: (اثبتْ أُحُدُ! فإنما عليك نبيٌّ وصدِّيق وشهيدان) [18] .
والحجر والشجر يناصران أهل التوحيد، ويتعاونان معهم: عن أبي هريرة -
رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى
يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر
والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي،
فتعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود) [19] ، فحتى الشجر والحجر
يوالي ويعادي على أساس الدين.
والمسلم ينظر إلى الهلال فيرى العلاقة المشتركة معه أن (ربي وربك
الله ... ) [20] ، وهو منهي عن لعن الريح؛ فعن ابن عباس - رضي الله
عنهما - أن رجلاً لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تلعن الريح؛ فإنها مأمورة ... ) [21] .
والمسلم لا ينسى للوزغ عداءه القديم لخليل الرحمن، فيبادله العداوة بمثلها.
عن عائشة رضي الله عنها (.... . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حين أُلقي في النار لم تكن في الأرض دابة إلا
تطفئ النار عنه، غير الوزغ كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بقتله) [22] ، بينما دواب أخرى يلتقي المسلم معها في تسبيح ربها ودعوتها
إلى التوحيد ونفعها، نُهِيَ المسلم عن قتلها: فعن ابن عباس رضي الله عنهما،
قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة،
النحلة، والهدهد، والصُّرَد) [23] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن نملة قرصت نبيّاً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم
تسبِّح؟) [24] ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: (نهى النبي ... صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، وقال: إن نقيقها تسبيح) [25] ، وإذا
احتاج المسلم إلى الانتفاع بحيوان بإزهاق روحه، فإنه لا يفعل ذلك إلا تحت إذن واهب هذه الروح وبالطريقة التي حددها - سبحانه -: [ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ ... أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ] [الأنعام: 121] والصيام والقرآن يدافعان عن المسلم التقي يوم القيامة؛ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه) ، قال: (فيشفعان) [26] .
والمسلم يراعي في تصرفاته مشاعر مسلمي الجن ومصالحهم؛ ففي الحديث:
( ... وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: كل عظم يُذكَر اسم الله عليه ... ...
يقع في أيديكم أوفر ما كان لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما زاد إخوانكم الجن) [27] .
والمسلم الذي يناصب الشياطين العداء ويستعيذ منهم في معظم أحواله، يقف
موقفاً مختلفاً من الملائكة، عباد الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون؛ فعلاقته بهم حددت منذ خَلْق أبي البشر آدم -عليه السلام -، عندما
أطاعوا الله -عز وجل -: [وإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ أَبَى]
[طه: 116] ، وعلاقته بهم مستمرة ممتدة؛ فهم يشهدون مثله شهادة الحق: [شَهِدَ
اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ] [آل عمران: 18] ، وهم
حريصون مشفقون على من في الأرض: [والْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ] [الشورى: 5] ، وخاصتهم يستغفرون للمؤمنين
خاصة: [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويُؤْمِنُونَ بِهِ
ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا واتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ] [غافر: 7] ، ويلعنون من يستحق: [كَيْفَ يَهْدِي
اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ وشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ واللَّهُ لا يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ والْمَلائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ]
[آل عمران: 86، 87] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال أبو
القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى
يَدَعَهُ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) [28] ، ويبدون رضاهم لطاعة المسلم ربه: (إن
الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب) [29] ، بل يحضرون مواطن
الطاعات: (لا يقعد قوم يذكرون الله -عز وجل - إلا حفتهم الملائكة) [30] ،
ويقتربون لسماع القرآن ( ... تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت
ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم) [31] .
ويشاركون المسلمين مواجهتهم لحزب الشيطان؛ مشاركة قتالية: [بَلَى إن
تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا ويَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ
مُسَوِّمِينَ] [آل عمران: 125] ، ومشاركة إعلامية ودعائية: عن البراء رضي الله
عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: (اهجهم أو هاجهم وجبريل
معك) [32] .
وكما توالي الملائكة المسلمين، يواليها كل مسلم، فهو يؤمن بها:
[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ
وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ ... ] [البقرة: 285] ، وهو بالطبع يعادي من يعاديها: [من كان
عدو لله وملائكته ورسله جبريل وميكال فإن الله عدوِ للكافرين] [البقرة: 98] ،
وهو يراعيها في تصرفاته: فلا يؤذيها: عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا؛
فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس) [33] ، ويصفُّ كصفوفها: عن حذيفة -
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فُضِّلنا على الناس
بثلاث: جُعِلَتْ صفوفنا كصفوف الملائكة..) [34] .
أولئك حزب الله:
وفي عالم الإنس فالعلاقة الشعورية بين المسلم وغيره قائمة على رابطة
الإيمان، وهي رابطة راسخة في حس المسلم كما هي واضحة في دينه: [إنَّمَا
ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وهُمْ رَاكِعُونَ]
[المائدة: 55] ، [والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي
الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ] [الأنفال: 73] ، وقد لخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه العلاقة في حديث جامع؛ حيث عرَّف أوثق عرى الإيمان بأنها: (الموالاة في
الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله) [35] ، وهذه العلاقة تصهر
المسلم مع بني دينه في بوتقة واحدة [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: 10] ،
ومن الأخوة تنبثق المشاعر والعلاقات:
فرابطة الإيمان مقدمة في حس المسلم على غيرها: فعن عمرو بن العاص
رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: ... (إن آل أبي ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنين) [36] .
والمسلم ينتقي صحبته على أساس الإيمان: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل
طعامك إلا تقي) [37] ، ويشتاق إلى أخيه المسلم: عن الحسن أن عمر [ابن
الخطاب رضي الله عنه] ، كان يذكر الأخ من إخوانه الليل، فيقول: ما أطولَها من
ليلة، فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه) [38] ، ويدعو له
بظهر الغيب: عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك ... بمثل) [39] ، ويحب له ما يحب لنفسه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) [40] ، ويؤازره: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وشبك بين أصابعه [41] ، ويرد عن عرضه: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) [42] ، وينصره ولا يخذله: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: (تأخذ فوق يديه) [43] ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) [44] .
علاقة ممتدة حتى الخلود:
ولا يمنع المسلمَ عجزُهُ عن نصرة دينه وإخوانه، بل لا تنقطع هذه العلاقة
حتى بالموت؛ فالمسلم يهتم لنصرة دينه حتى إنه يكترث لذلك بعد موته، هل رأيتم
من يجاهد بجثته؟ ! : غزا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الروم فمرض،
فلما حُضِر قال: (أنا إذا مت فاحملوني، فإذا صافعتم العدو فادفنوني تحت
أقدامكم، وسأحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذا ما حدثتكموه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) [45] ، فأبو أيوب - رضي الله عنه - يذكِّر نفسه بما ينبغي أن يموت عليه، ويذكِّر أصحابه بالرسالة التي لأجلها خرجوا (التوحيد ونبذ الشرك) ، ويضرب أروع مثال للفداء والتضحية من أجل هذه الرسالة، وهو الحرص على إبلاغ الرسالة وعلى امتداد جهاده بعد موته، وذلك بتكريس إسلامية أرض فتحها المسلمون، بدفنه فيها، وإضافة سبب يحفز أصحابه على التقدم وعدم التقهقر عن أبعد نقطة وصلوا إليها، وذلك حفظاً لحرمة الميت.
وتمتد علاقة المسلم بدينه وإخوانه: عند الموت: يودع الدنيا بإعلان التوحيد
كما دخلها: (لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله) [46] ، ويُبرز المسلمون الخير عند
أخيهم المحتضَر،، وتشاركهم الملائكة: عن أم سلمة - رضي الله عنها -؛
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم المريض، أو الميت، فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون) [47] .
وتمتد العلاقة بعد الموت: فالمسلمون يصلون عليه ولو كان بعيداً غائباً ولو لم
يروه؛ فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه) يعني النجاشي [48] .
ورغم أن دفن الميت يكفي في القيام به نفر قليل، إلا أن إخوانه المسلمين لا
يتركونه بعد موته يذهب وحيداً إلى أول منازل الآخرة، بل يشيعونه إلى قبره كما
يشيع الضيف العزيز الراحل: (حق المسلم على المسلم ست: ... وإذا مات
فاتبعه..) [49] .
والمسلم لا يُدفن للتخلص من جثته، بل هو يعود مرحلياً إلى الأصل الذي
خرج منه: [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وفِيهَا نُعِيدُكُمْ ومِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى] [طه: 55] ،
وهو في هذا العَوْد مرتبط أيضاً بدينه وإخوانه؛ فهو ينزل إلى القبر تحت شعار ...
(بسم الله وبالله وعلى سنة - وفي رواية: ملة - رسول الله) [50] ، ويدفن متوجهاً
إلى القبلة؛ ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن البيت
الحرام: (قبلتكم أحياءاً وأمواتاً) [51] ، كما أنه ينحاز إلى إخوانه المسلمين الأموات، فلا يدفن في مقابر غيرهم، وفي المقابل: لا يُدفن غير مسلم في مقابر ... المسلمين [52] . وبعد الدفن يقف المسلمون عند قبر أخيهم يسألون له التثبيت: ... (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل) [53] ، والمسلم إذا مر ... على مقابر إخوانه المسلمين سلَّم عليهم ودعا لهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) [54] ، ... أما إذا مر بقبر كافر فالأمر يختلف؛ ففي حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) [55] .
ولا تقف العلاقة عند هذا الحد، بل تمتد حتى لما بعد البعث؛ فيوم القيامة
يحشر الناس بحسب متابعتهم ومشابهتهم الإيمانية في الدنيا: [يوم ندعو كل أناس
بإماهم] [الإسراء: 71] ، [\احْشُرُوا الَذِينَ ظَلَمُوا وأَزْوَاجَهُمْ ومَا كَانُوا يَعْبُدُونَ
(?) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ (?) وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ]
[الصافات: 22 - 24] ، وهنا يبرز مآل المشاعر، والعلاقات بين الناس: ... [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاَّ المُتَّقِينَ] [الزخرف: 76] ، ولا شك أن ذلك
أثر لما كان في الدنيا: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت) [56] .
وعند الجزاء يكون كل فرد مع مجموعته أيضاً: [وسيق الذين كفروا إلى
جهنم زٍمرا] [الزمر: 71] ، [وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زٍمرا]
[الزمر: 73] .
وتستمر مشاعر الأخوة وعلاقاتها حتى بعد المستقر في الجنة: [ونزعنا ما
في صدورهم من غل إخوانا على سرٍر متقابلين] [الحجر: 74] ، بينما في النار:
[كلما دخلت أمة لعنت أختها] [الأعراف: 83] .
مشاعر موحدة تجاه كل شيء، وعلاقات ممتدة من قبل الميلاد حتى بعد
الوفاة. فمن غير المؤمن التقي له تلك المنظومة؟ ! [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ] [الأنعام: 125] .