مجله البيان (صفحة 3362)

أفريقيا.. استقلال أو استغلال؟

المسلمون والعالم

إفريقيا.. استقلال أم استغلال؟

الحسن عمر الفاروق جارا

النسبة الأعلى من الشعوب الإفريقية لم تتأثر بموجات الغزو الثقافي الأوربي،

ولا تزال تحمل حنيناً للإسلام 80% من دول إفريقيا تظهر في قائمة الدول الفقيرة

بالرغم من أنها من

أغنى القارات مؤتمر برلين الجائر زرع ألغام الحدود السياسية في إفريقيا منذ

قرن، ولا تزال تتفجر لليوم بين حين وآخر كان وجود الاستعمار بأجلى صوره،

وأقصى أنواعه الاستغلالية واتجاهه نحو تنصير شعوب القارة الإفريقية دافعاً بشكل

كبير لظهور الميول الاستقلالية لدى كثير من شعوبها، ومعها نشأت اتجاهات الكفاح

المسلح من أجل تقرير المصير.

ثم تطورت تلك الحركات من المراحل السلمية حيث استخدام الإعلام والمحافل

الدولية إلى العنف بعد إحكام السيطرة، واستخدام السلاح والقوة؛ فرصد الغرب

الاستعماري تلك الحركات، وتدارك الميول الجديدة في إفريقيا التي باتت هي

الاتجاه السائد، وبسبب التطورات التي حدثت في العالم، رأى الاستعمار أنه من

الأفضل لمصالحه أن يلتقي مع تلك الاتجاهات وهي لا تزال ضعيفة وفي بداياتها

غير المتطورة؛ بدلاً من أن يصطدم بها ويساعد بذلك على بلورتها في اتجاهات

خطيرة عليه في المستقبل، كخلق حالة من النهوض واليقظة، تتوسع لتشمل إفريقيا

كلها [1] .

بل أدرك الغرب عن كثب أن حالة كهذه لن يكون المرفوض فيها هو الوجود

الاستعماري فحسب؛ بل يقود ذلك إلى رفض أفكاره، وما تتضمنه من نظرة أداء

(رسالة الرجل الأبيض) في توعية الرجل الأسود وتحضيره (حسب زعمهم) والتي

معناها: النظر إلى المستعمرات على أنها أقاليم منتجة لصالح الرجل الأبيض، وقد

أوجدت تلك السياسة الاستعمارية ردود أفعال قسمت السكان في البلدان الإفريقية إلى

فئات ثلاث:

الفئة الأولى: وتضم جماهير كل الشعب من الذين وقفوا على الحياد بحكم

عوامل موضوعية أهمها: عدم القدرة على استيعاب حقيقة ما يجري حولها، وذلك

باعتبار أن الغالبية العظمى كانوا ولا يزالون في عداد الأميين.

الفئة الثانية: وهي التي قبلت فكرة الدمج وتحمست لها لأسباب مختلفة: إما

بفعل العامل الثقافي، أو نتيجة للسياسة التي ابتدعها الاستعمار؛ تطبيقاً للمبدأ ...

التقليدي: (فرّق تسد) ، كما نجد المثال على ذلك فيما عرف بنظام المناطق ... الأربعة في السنغال، ويعني منح الجنسية الفرنسية بصورة تلقائية لكل من يولد في المدن الأربعة الآتية: سان لويس روفِسْك غوري داكار.

الفئة الثالثة: وتضم الثائرين بدوافع وطنية الذين رأوا في الاستعمار شراً

مستطيراً يجب محاربته، فوضعوا تصورهم موضع التنفيذ، ونظموا حركات

المقاومة المسلحة. وكانت المحصلة نمو الأفكار التي يسميها الإعلام الغربي بـ

(الأفكار المتطرفة) . وهذه الفئة هي التي جابهت الاستعمار منذ البداية، وسعت

جادة للحيلولة دون تحقيق التكالب الغربي، وعملت لتوحيد أبنائها، وإيجاد التغيير

الجذري لرفض ثقافة الغرب ونظرياته، ثم إخراجه، ولكن تم قمعها بشراسة من

المستعمر.

وقد مثلت تلك الحالة عملية انفصال عميق بينه وبين إفريقيا امتدت لأجل

طويل.

يضاف إلى ذلك وصول بعض الأفارقة إلى مستوى ثقافي عال، فتفتحت

عيونهم على الأوضاع في بلادهم، وانتبهوا إلى ضرورة أداء واجبهم نحوها، ثم

الاحتكاك الثقافي والحضاري بين الأفارقة وغيرهم أثناء الحروب التي فرضت

عليهم أن يشاركوا في تحمل ويلاتها دون أن يجنوا ثمار تلك التضحيات، إلا أنها

ساعدت على تبلور الوعي السياسي عندهم.

وأكثر من ذلك؛ فالمؤتمرات الإفريقية الآسيوية التي عقدت بعد الحرب

العالمية الثانية بالذات، والتي أظهرت لشعوب القارتين وحدة الأهداف ووحدة

المصير هذه العوامل ساهمت بشكل فعال وأيقظت روح التحرر والمقاومة والسعي

إلى تقرير المصير لدى الأفارقة؛ ولم يستطع الاستعمار إزاء ذلك أن يستمر في

فرض سيطرته على شعوب القارة ودولها، بل أيقن أن الاستقلال أصبح وشيكاً

وأكيداً بعد الحرب العالمية الثانية.

ففي عام (1957م) أصبحت (غانا) أول دولة مستعمرة في غرب إفريقيا

تحصل على استقلالها. ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام (1975م) تم استقلال جميع

الدول المستعمرة في غرب إفريقيا وتحررت من السيطرة الأجنبية شكلياً؛ وبقيت

رهن إرادة سيطرة الأجنبي في مؤسساتها باستثناء عدد قليل نسبياً وسمي عام

(1975م) عام إفريقيا.

المشكلات الإفريقية:

يتضح أثر السياسات الاستعمارية فيما عانته ولا زالت تعانيه الدول الإفريقية

من مشكلات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية. وقد برزت مشكلات الحدود على

قمة المشكلات الإفريقية، وفيما يلي عرض لأهم هذه المشكلات:

1 - مشكلات الحدود السياسية:

عندما نالت الدول الإفريقية استقلالها لم يكن أمامها مفر من أن تقبل بحقيقة

الحدود السياسية المصطنعة. وترجع هذه المشكلة إلى الأسس غير المنطقية التي

خططت على أساسها الحدود بين مناطق النفوذ الأوروبي في القارة؛ وفي الواقع

فإن دول غرب إفريقيا من أكثر دول القارة الإفريقية تأثراً بعملية التجزئة التي

اتبعتها القوى الاستعمارية الأوروبية في إفريقيا؛ حيث قامت بتقسيم القارة إلى

وحدات استعمارية متعددة تصل إلى إحدى وأربعين وحدة سياسية، وقد بدأت في

تقسيم تلك الوحدات نفسها على أسس عرقية وقبلية، وكان ذلك واضحاً تماماً في

غرب إفريقيا الفرنسية صلى الله عليه وسلم. O. F منذ أن أصدرت فرنسا قانون عام

(1956م) (?) (Lois Cadre) ، الذي نص على اختيار (جمعية وطنية

إقليمية منتخبة) ... مما ساعد على إيجاد سلسلة من الدول الضعيفة، بدلاً من توحيد

الإقليم في اتحاد فدرالي قوي قد يناوئ السياسة الفرنسية في المنطقة ... ولم يكن من

المستبعد عودة القوى الإصلاحية التي تبدو غائبة عن الساحة، وعن مجريات

الأمور السياسية إن هي

أفسحت المجال لقيام مثل هذه الاتحادات ... لذا ضغطت فرنسا على داهومي

(بنين حالياً) ، وبوركينا فاسو للانسحاب من الاتحاد الفيدرالي المشار إليه الذي كان

من شأنه أن يكلف فرنسا في المستقبل ثمناً باهظاً، وجاءت الوحدات السياسية مثقلة

بالمشاكل التي ستكلل مسيرتها وتتغير بسببها جهود التغيير والإصلاح؛ وتتضح هذه

الحقيقة أيضاً إذا نظرنا إلى هذه الوحدات نظرة فاحصة ثم إلى خريطة القارة قبل

عام (1884 1885م) فقد تم رسم هذه الحدود بشكل يتنافى تماماً مع الوضع

الطبيعي لأي تقسيم سياسي. فنجد مثلاً (غامبيا) التي رفضت سياسة الاستيعاب

تعتبر جزءاً من جمهورية (السنغال) فهي تقع في وسط السنغال. بجانب ذلك نجد

(توجو Togo لاند) ، وحدة اصطناعية، فأهلها يشبهون سكان البلاد المجاورة

(غانا بنين) ، وأقسامها الجغرافية هي أقسام جيرانها [2] فشعب (الأيوي مينا

Minai) الساحلي كان قبل التحرر موزعاً بين النفوذ البريطاني (غانا) ، وفي توجو

الفرنسية، وفي جزء من داهومي، مع فروق جوهرية في الخلفيات الحضارية،

وقد انتهى الأمر بعد عهد التحرر إلى تكوين جمهورية غانا، وجمهورية توجو،

وبنين. وإلى جانب هذا تكمن المشكلة القبلية في كثير من الوحدات السياسية،

(كالهوسا) في شمال نيجيريا؛ حيث ينتشر أفرادها بين نيجيريا والنيجر

والكاميرون.

ولقد برزت مشكلات الحدود بصورة واضحة فيما يلي:

نزاع دائم بين الكاميرون ونيجيريا على الحدود بسبب الخلاف على تحديد

مناطق التنقيب عن البترول.

مشكلات الحدود بين مالي، وبوركينا فاسو، (والجزائر، والنيجر، وليبيا)

التي أدت إلى الاقتتال بين مالي، وبوركينا فاسو عام 1983م.

مشكلة الحدود بين موريتانيا، والسنغال؛ حيث نشبت في نيسان (1989م)

مشكلة حادة بينهما، بدأت بأحداث بسيطة في المنطقة الجمركية على نهر السنغال،

وانتهت إلى اشتعال فتيل القتال بين الموريتانيين البيض، وأبناء الجالية السنغالية

في البلاد، وبين الزنوج (الموريتانيين السود) أنفسهم.

وستظل مشكلات الحدود الإفريقية هذه بشكلها الراهن إلى أجل يصعب التكهن

به، وهي من الآثار السياسية التي تعاني منها القارة منذ استقلالها إلى اليوم، وهي

ثمرة مؤتمر برلين الجائر (1884 - 1885م) .

2 - مشكلات اقتصادية:

من المشكلات الحادة التي تواجه دول إفريقيا دون استثناء مشكلة التخلف

الاقتصادي منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن؛ إذ كان للاستعمار الغربي وخاصة

الفرنسي نفوذ واسع النطاق في مختلف بلدان القارة.

فقد خلفت السيطرة الاستعمارية بشكل عام وراءها أوضاعاً اقتصادية متخلفة

جعلت الدول الإفريقية تواجه صعوبات جمة في سبيل تنمية مواردها ورفع مستوى

معيشة شعوبها بمعدلات سريعة؛ ذلك لأن البنية التحتية للاقتصاديات الوطنية كان

قد تم اقتلاع أسسها، بالإضافة إلى نهب الموارد التي كانت ستمثل دعماً مهماً للنظم التي ستقوم مستقبلاً لبناء الاقتصاد الوطني بشكل قوي.

وقد أدى النمط الاقتصادي الذي أرسته فرنسا وإنجلترا في المنطقة إلى جعل

مستعمراتها مرتبطة بها على وجه الخصوص بروابط اقتصادية وثيقة من الصعب

التغلب عليها.

فبعد أن تم تقسيم إفريقيا لمناطق نفوذ بين الدول الأوروبية في مؤتمر برلين،

خرجت هذه الدول بعد عصر الاستعمار، وهي تعاني من نتائج السيطرة الأجنبية

على مواردها الاقتصادية، واستنزافها لصالح الدول المستعمرة، والتي تتمثل في

قلة الخبرة الفنية، وعدم توافر رؤوس الأموال الوطنية، وسوء استغلال الثروة

القومية، وارتباط الاقتصاد الإفريقي باقتصاديات الدول الاستعمارية، وقصور

وسائل النقل والمواصلات.

وبالرغم من أن القارة الإفريقية تعد من أغنى قارات العالم، بالنظر لثرواتها

الطبيعية وموارد القوى الموجودة فيها، إلا أن 80% من الدول الإفريقية تظهر في

ذيل القوائم العالمية الخاصة بثلاثة عشر مؤشراً للرفاهية الاجتماعية.

وقد قال الرئيس د. نكروما في كتابه: (الاستعمار الجديد La nouvélle

colonisation) (أرضنا غنية، ولكن منتجاتها التي تأتي من فوق تربتها ومن

تحتها لا تعمل على إثراء الإفريقيين أنفسهم، بل جماعات وأفراد آخرين يعملون

على أن تظل القارة في حالة فقر ... ) [3] .

وإذا دققنا النظر في الأوضاع الاقتصادية لهذه الدول نجد أن مشكلاتها تزداد

حدَّة بسبب محدودية الاستفادة من مواردها الطبيعية؛ فنجد أن ميراث الماضي ما

زال يؤثر على القاعدة الاقتصادية مما نتج عنه اقتصاد متخلف، ومستوى صناعي

وتكنولوجي متأخر.

هذا بالإضافة إلى نقص في البنية الأساسية، والخدمات الرئيسة، وصغر

حجم السوق المحلية. هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى الاعتماد الكبير على

الاستيراد؛ نظراً لمحدودية الإنتاج الصناعي في هذه الدول، وافتقارها إلى المهارة

الفنية التي تجعلها تحافظ على مقدرة فنية عالية، والاعتماد على رأس المال

الأجنبي، والتكنولوجيا الأجنبية.

إن ميراث العهد الاستعماري ميراث ثقيل على كاهل الدول الإفريقية المستقلة

بلا جدال، وسيبقى لفترة طويلة عاملاً مؤثراً في توجيه العلاقات الثقافية

والاجتماعية بين دول القارة، وتمكين القوى الخارجية من التدخل في قضايا المنطقة

الداخلية ... وليس من شك كذلك في أن الدول الإفريقية ستحتاج إلى فترة طويلة

للتخلص بشكل نهائي أو جزئي من تلك التركة، لكن هذا العمل يبقى ضرورياً لكي تشهد القارة مستقبلاً ما يرشحها لأن تقوم بوظيفة جوهرية تتحقق فيه آمال وتطلعات شعوبها.

وإلى جانب التخلف الاقتصادي مثلاً ترى هناك جانب الاستقلال الوطني الذي

له ارتباط وثيق وصلة عميقة بمسيرة هذا التقدم الاقتصادي ...

فالباحثون في الشؤون الإفريقية يرون أن العبرة ليست في الواقع بإعلان

استقلال هذه البلاد، ورحيل المستعمر؛ بل بتصحيح العلاقات التي تربط المستعمر

السابق بالشعوب الإفريقية، هذه العلاقات التي جعلت هذه الشعوب أسواقاً للسلع

الأوروبية، وجعلت أوروبا السوق الوحيد لمنتجات هذه الشعوب وثرواتها

المعدنية [4] .

ولعل موازين مدفوعات، وإحصائيات التبادل التجاري في الدول الإفريقية توضح إلى أي مدى ارتبطت هذه الدول بالدول الأوروبية.

ولأن إفريقيا من أكثر القارات تأثراً بعملية التجزئة التي اتبعها المستعمر؛

حيث قام كما أسلفنا بتقسيم القارة إلى إحدى وأربعين وحدة سياسية، ثم قام بالتعاون

مع الفئات التي استلمت زمام الحكم في الدول المستقلة بعملية خطيرة قديماً وحديثاً

للحيلولة دون توحيدها

لتكوين وحدة سياسية واقتصادية.. هذه العملية نفذها الغرب عن وعي،

وتعاونت معه تلك الفئات الإفريقية في الغالب دون وعي، ويحاول الفكر الغربي

وأعوانه إعطاء هذا الوضع طابع التحرر والموقف الإنساني؛ وهو في الحقيقة أبعد

ما يكون عن ذلك؛ فهو صادر عن الموقف الاستعماري ذاته ولخدمة المصالح

الأنانية ذاتها ... ولا يعدو هذا التسويغ أن يكون أسلوباً لمواجهة الظروف المستجدة

نحو الوحدة ... وإلا فالاستعمار بقي كما هو ولم يتغير مضموناً.

وإن كانت الحاجة ملحة إلى إحداث تغيير شامل في الأوضاع القائمة في القارة

بدءاً بتحرير كل المنطقة من الهيمنة الخارجية التي اختلفت شكلاً عن الأسلوب

الاستعماري المباشر، واتفقت معه موضوعاً، فإن الضرورة تلح كذلك على أن يتم

تهيئة المناخ للإنسان الإفريقي، ليصبح قادراً على التخلص من السلبيات الاجتماعية

والاقتصادية والتعليمية التي تعاني منها الدول الإفريقية.

وإذا كانت معظم هذه الأمراض الفكرية والنفسية ترجع جذورها إلى الطريقة

الاستعمارية التي كانت تسعى إلى خلق مثل هذه العقلية في المنطقة، والتي تتجاوب

مع متطلبات بقائها في القارة؛ فإن هذا لا يدعونا إلى إلقاء التبعة على الماضي فقط، ... ولن يعفى أبناء إفريقيا من المسؤولية.

وهذا التغيير لا يحدثه التعلم، ولا زيادة الدخل، أو الصحة، بل الأمر متعلق

بالسلوك والأخلاق، والشخصية الإنسانية من جميع النواحي في قرار المواطن؛

وليس هذا مستحيلاً في الحياة البشرية؛ فقد أحدث الإسلام ذلك في رعيله الأول،

حتى جمع الجباة أيام عمر بن عبد العزيز الزكاة والصدقة في إفريقيا ولم يجدوا من

يأخذها.

فالأوضاع السلبية المترسبة من آثار الاستعمار في إفريقيا الغربية تنتظر نفوساً

تؤمن بالمساواة وتنبذ القبلية والأنانية والطمع، وتأخذ بيد الجميع إلى السعادة

والرفاهية، في المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ لكن نجاح هذه العملية

المبدئية لن يتم إلا عندما توجد القيادة التي تمثل النموذج الذي ينظر إليه العامة،

فيعجبون به فيسيرون على خطاه.

3 - مشكلات اجتماعية وسياسية:

إذا اتجهنا نحو القضايا والمشكلات الاجتماعية، وهي غالباً ما تكون مرتبطة

ارتباطاً وثيقاً بالقضايا والمشكلات الاقتصادية، وجدنا أن الأغلبية الساحقة من

الحكام الأفارقة تدرك حق الإدراك أنها عاجزة عن إحداث تغيير جوهري في

الظروف التي ما زالت مجتمعاتها فيها بعيدة عن إمكانية الاكتفاء الذاتي، كمشكلة

القضاء على الجوع، أو تقديم الخدمات الطبية والتعليمية الشاملة ... إلخ، ناهيك

عن جملة قضايا البيئة، مما ينعكس سلباً على الأوضاع الاجتماعية في إفريقيا كلها.

والذي تجدر الإشارة إليه هنا أننا نرى أنه بالرغم من الأزمات الاقتصادية

الحادة التي تعاني منها الدول الإفريقية؛ فإنها تتمادى في اقتطاع مبالغ هائلة

للحصول على الأسلحة في حين تعمل الدول المتقدمة على تقليل نسبة الإنفاق على

التسلح وزيادة نسبة الإنفاق على نواحي الرفاهية الأخرى مثل الصحة والتعليم،

وليس أدل على ذلك من دولة عظمى مثل: الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت بتخفيض نسبة الإنفاق على التسلح ورفعت نسبة الإنفاق على التعليم والصحة؛ ففي خطة الموازنة لعام 1995م التي وضعتها إدارة الرئيس الأمريكي كلينتون تم تخفيض موازنة الدفاع بنسبة 3% عن موازنة عام 1994م بينما تم رفع موازنة التعليم بنسبة 5% وموازنة الأمن الاجتماعي بنسبة 5% [5] .

وإذا كانت الدول المتقدمة تعمل على تصريف هذه الأسلحة إلى الدول النامية

بأي ثمن كان؛ فمعظم أقطار دول غرب إفريقيا تغالي في تخصيص الإنفاق

الحكومي على الدفاع على حساب التزاماتها نحو رفع مستوى الخدمات الاجتماعية؛

فاقتطاع جزء من تلك النفقات يمكن أن يوجه لإنتاج الغذاء اللازم للسكان.

وقراءة سريعة للائحة المساعدات العسكرية الغربية للدول الإفريقية تجعل

الباحث يميل إلى ترجيح الرأي القائل بفساد الحكم والحكام، واختلاسهم لموازنات

الدول ووضعها في حساباتهم الخاصة في البنوك الأجنبية، سواء كان ذلك بإيعاز من

الخارج أو لقلة إدراكهم وشعورهم بالمصلحة العامة. وإن كان يصعب إثبات ذلك،

إلا أن ما يتم نشره من أرقام عن ثروة بعض الحكام بعد خروجهم من الحكم يرجح

هذا القول.

فالتحيز إلى جانب الإنفاق العسكري لا يمثل هذه المبالغ، ولا يمكن تسويغه

بحجة الحفاظ على الأرض؛ فالحفاظ على المجتمع مطلوب أيضاً ومن شأنه التقليل

من النفقات العسكرية لأداء خدمات الدولة الأخرى التي تعتبر ضرورية كالصحة

والتعليم ... فالخطر الأكبر الذي يهدد العديد من هذه الدول اليوم لم يعد افتقارها إلى

الأمن الكافي (طبعاً باستثناء بعض دول المنطقة) ولا مواجهة عدو أو معتدٍ خارجي، ولا حتى القضاء على العناصر التي تزعم أنها تهدد الوحدة الوطنية أو أمن الدولة؛ بل إن أشد ما يهدد هذه الدول في المجال الاجتماعي هو المجاعة التي تنذر بإبادة

السكان.

وتزداد خطورة الوضع الاجتماعي خصوصاً في منطقة جنوب الصحراء؛

حيث تذكر الإحصاءات الصادرة عن البنك الدولي أن معدل نمو إجمالي ... الناتج القومي للمنطقة في الفترة من: (1985 - 1990م) ، يتراوح ما بين (1% و1.1 %) ، وهو معدل منخفض للغاية، وعلى المدى الطويل فإن نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي لعام (2000م) ، سيقدر بـ (218 -311 دولاراً ... سنوياً) ، بالنسبة لمعظم البلدان الإفريقية ذات الدخل المنخفض [6] ، ويوضح الدكتور عصام الدين جلال انعكاسات هذا الوضع بأن هذه المنطقة تحتل مركزاً متأخراً في مجال التنمية التي هي إحدى ركائز التقدم الاجتماعي؛ يضاف إلى ذلك ثلاثة من المؤشرات الرئيسة للتنمية وهي: نصيب الفرد في إجمالي الناتج القومي معدل القراءة والكتابة ثم متوسط العمر المتوقع.

إن إفريقيا وهي تواجه مشكلة الجفاف المتزايد، تقف دولها اليوم عاجزة أمام

التزايد السكاني في القارة، وهي غير قادرة على توفير الطعام اللازم لمواطنيها،

بل إن التزايد السكاني يحد كل يوم من نصيب الفرد في الموارد الغذائية المتاحة،

فيؤدي ذلك إلى مزيد من التعقيد للمشكلات، كما يسهم عدم الاستقرار السياسي إلى

حد كبير في ازدياد مشكلات هذه الدول؛ فكثرة التغيير في أنظمة الحكم، وتوالي

الانقلابات العسكرية في القارة، لها عواقب وخيمة على الدول الإفريقية، خاصة أن

الحكومات الجديدة قلَّما تبذل جهداً كافياً من أجل التوفيق والمصالحة بين الأطراف

المتنازعة [7] ، بل ترفض الحل الوسط وكل

ما من شأنه أن يكون لصالح البلد؛ وهذا ما حدث في زائير مثلاً عام

1991، وتكرر في عام 1993م؛ إذ رفض الرئيس موبوتو (MOرضي الله عنهOUTO)

الانصياع لإرادة الشعب وذلك بدعم من فرنسا وبلجيكا ... وهي المشكلة عينها

القائمة في توجو في حكومة الرئيس أباديما نياسبي.

وهناك أيضاً مشكلة تدخُّل الحكام في تزوير أو إلغاء الانتخابات، كما جرى

في الانتخابات التي جرت في مالي (في مايو/ أيار 1992م) وفي توجو ونيجيريا.

ويجدر هنا أن نشير إلى ما تواجهه غالبية الدول الإفريقية من مشكلات عرقية

وقبلية، وقد برزت هذه المشكلات بشكل خاص في كل من سيراليون ونيجيريا.

4 - مشكلات تعليمية:

الموضوع الذي يطرح نفسه دائماً وبإلحاح في عرضنا للمشكلات الإفريقية بعد

الاستقلال هو أن الأوضاع الإفريقية التي تشكلت بعد الانسحاب الاستعماري هي

نفسها الأوضاع الموجودة الآن كما أسلفنا.. ويتأكد هذا الواقع أكثر فأكثر في

المجالات التعليمية، والثقافية. فبعد أن تم التكالب والسيطرة الأوروبية على هذه

الدول كانت المحصلة النهائية هي فرض ثقافة موحدة على هذه الدول، شأنها في

ذلك شأن الأوضاع السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، وبالرغم من أن أثر هذا

الفرض ودرجته قد اختلفت من بلد إلى آخر، ومن نوع حكم استعماري لآخر؛ إلا

أن العناصر الأساسية بقيت قائمة ومنسجمة؛ ذلك أن تلك الدول تنهل من الحضارة

ذاتها، ومن معين الثقافة نفسها، ولكن الذي يجب ألا ننساه في الوقت ذاته تلك

المبالغات في تعميم تأثير تلك الثقافات على دنيا سكان القارة من بعض الكتاب في

الشؤون الإفريقية؛ فبالرغم من تطابق التجربة التي خاضتها المجتمعات الإفريقية

في كل مكان؛ يبقى تأثير الثقافات الأوروبية وأفكارها عشية الاستقلال مقصوراً

على جزء صغير من السكان في أي بلد، وهي المجموعة الصغيرة التي وجدت

هويتها مع القيم الثقافية للنظم الاستعمارية والتي تدّعي بأنها (النخبة التي قبلت

الإيديولوجية الغربية، واندمجت مع سياسة الاستيعاب) .

أما الجماهير الريفية والتي نكاد نجزم أنها مسلمة في أكثر المناطق فقد رفضت

الاستيعاب وقاومته، وهي تشكل (80%) من السكان الإفريقيين الذين لم تمسهم تلك

المؤثرات الغربية الأوروبية [8] .

فتأثير الثقافات الغربية الوافدة على مستوى القارة الإفريقية غير متوازن؛ فمن

البلدان من استجاب نسبياً لهذه الثقافات، ومنها من حاربها وقاومها مقاومة شديدة،

وفي شرق إفريقيا وغربها؛ حيث دخل الإسلام ولعب دوراً هاماً؛ إذ استطاع

المسلمون أن يغيروا الكثير من

المفاهيم القديمة لتحل محلها المفاهيم الإسلامية والقيم الروحية التي من شأنها

أن تسمو بالإنسان، وترفع من شأنه ومستواه في عدة مجالات؛ لذلك فإنه عندما

وفدت الثقافات الغربية، والتيارات الفكرية الأخرى لم يكن من السهل عليها أن تجد

الطريق ممهداً أمامها كي تؤثر على هؤلاء الذين عرفوا المنهج الإسلامي والتربية

الإسلامية الصحيحة، فقاوموا كل تيار وافدٍ عليهم، وظل الإسلام ينتشر في ربوع

القارة، ولكن ذلك لا يعني أن غيرهم لم يتأثروا بالأفكار الغربية وقيمها وثقافتها فيما

بعد بشكل مطلق؛ ذلك لأن المستعمر استعمل شتى الوسائل والطرق والأساليب

المتنوعة لفرض قيمه الثقافية والفكرية، ولم يجد المسلمون بُدّاً من التأثُّر بالواقع المفروض، فانخرطوا مع تلك القيم، وقبلوا الثقافة طوعاً أو كرهاً كأمر واقع، ولم يحسنوا التعامل معها فانعكست النتائج عليهم سلباً، وأثرت في سلوك كثير منهم من حيث الوعي، وما عادوا يحملون من الفكر الإسلامي الصحيح إلا قليلاً، وأصبح حالهم كحال غيرهم من مجتمعات دول العالم الإسلامي؛ وهذا الواقع يستلزم اتخاذ خطوات جادة ومدروسة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015