مجله البيان (صفحة 3358)

وقفات

هكذا ندعوهم إلى التعصب..!

أحمد بن عبد الرحمن الصويان

نعتب كثيراً على بعض إخواننا، ونتهمهم أحياناً بالتعصب والحزبية والجرأة

في ردّ الحق، والتكلف في التماس المعاذير والمسوغات لأنفسهم.

وقد يكون بعض ذلك العتب حقاً، وقد يكون المرء مبالغاً في توصيفه وبيانه

أحياناً، ولكن ألم نسأل أنفسنا يوماً: ما أسباب ذلك..؟ ! وهل لنا دور في ترسيخه

وإثارته..؟ !

إنَّ الحق ولله الحمد واضح بيِّن، ولكن قد تخفى بعض معالمه على بعض

الناس، وقد تلتبس بعض فصوله على آخرين، وهذه سُنَّة قديمة لا يسلم منها كثير

من الناس، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بيِّن، والحرام

بيِّن، وبينهما أمور مُشبَّهات لا يعلمها كثير من الناس) [1] .

وقد يسعى أحدنا إلى بيان الحق وإبراز دلائله وبراهينه، ويرد على مخالفيه

ويفنِّد حججهم ومآخذهم في تبنِّيه، ولكنه يستعلي عليهم، ويُسفِّه آراءهم، ويزدري

اجتهادهم، وقد يتعرض لأشياخهم وأئمتهم بالهمز واللمز، ويخلط كلامه بشيء من

السخرية والاستخفاف والتعيير. وربما ظنَّ المرء أنه نصر الحق بذلك، وأقام

الحجة على المخالفين، ولم يصبح أمامهم إلا قبول رأيه والتراجع عن آرائهم،

ولكنه يفاجأ بأنَّهم لم يحفلوا برأيه، ولم يتراجعوا عن مواقفهم، فيعمد إلى اتهامهم

بالتعصب والحزبية، وقد يتشنج في نقدهم وبيان أخطائهم، ونسي أن: (الحق

يُصرع إذا عُمِد إلى إظهاره بالسباب والشتائم) [2] .

إن أسلوب الاستخفاف بالمخالف والقسوة المفرطة في تعنيفه وتخطئته قد

يستفزه، ويستثيره للمعاندة، ويجره للمكابرة والتعصب، وقد تأخذه العزة بالإثم؛

فيزداد إصراره وتمسكه برأيه واعتداده بطريقته ومنهجه، وقديماً قال الغزالي:

(أكثر الجهالات إنَّما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من أهل الحق أظهروا

الحق في معرض التحدي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير

والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم

الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها) [3] .

وقال الإمام الشاطبي: (الطعنُ في مساق الترجيح يبين العناد أي يثيره من

أهل المذهب المطعون عليه، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه؛ لأن الذي غُضَّ من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه

ويظهر محاسنه، فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء

بالتزام المذهب وإن كان مرجوحاً؛ فإن الترجيح لم يحصل) [4] .

إننا بهذا الأسلوب نضع سياجاً متيناً، ونحفر خندقاً عميقاً يحول بيننا وبين

إخواننا ممَّن نرجو استقامتهم وصلاحهم على الطريق؛ وبيان الحق من أوجب

الواجبات، ولا يجوز السكوت عنه على حساب أحدٍ كائناً من كان، ولكن الهدف

من بيانه هو نصح الأمة، والرغبة الصادقة في صلاحها ونجاتها، والواجب أن

يتلمس المرء أسلم السبل التي توصل إلى المقصود؛ ولهذا لمَّا أمر الله تعالى نبيه

محمداً صلى الله عليه وسلم بالبلاغ أمره بأن يكون بلاغاً مبيناً، فقال عز وجل:

[فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ] [النحل: 82] . ولهذا كان من شمائل

النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنه رؤوف رحيم، قال الله تعالى: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] ...

[آل عمران: 159] . وانظر إلى ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد فتناوله الناس وفي رواية للبخاري: فثار إليه الناس ليقعوا به فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، وهَريقوا على بوله سَجْلاً من ماء؛ فإنَّما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين) [5] ، ونظائر هذا الأدب النبوي الرفيع كثيرة جداً، وها هي ذي عائشة رضي الله عنها تصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً جامعاً فتقول: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحِّشاً، ولا سَخَّاباً في

الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) [6] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015