المسلمون والعالم
(?) فدائيون أم.. عملاء؟
عبد المنعم شفيق
في الوقت الذي كانت إحدى مجلات اليسار الثوري المتطرف تتوب فيه من
اليسار، والثورة، والتطرف، أوردت مقالاً بعنوان: (حزب الله.. فدائيون أم
عملاء؟) ووصلت كاتبة المقال في نهايته إلى الافتراض السلبي أي: إنهم عملاء،
وذلك في وقتٍ لم تمنع أُخُوة المذهب أحد الكتّاب أن يطلق على (حزب الله) ...
لقب: (خدم الأسياد) ، وتلطف كاتب بريطاني وأطلق عليه: (الوكلاء) ، بل ... ... إن أمينه العام اعتبر الحزب.. (ورقة وأداة) .
في جميع الأوصاف السابقة إشارات واضحة باتهامات وإدانات لحزب الله،
وهنا لن نتبنى وصفاً معيناً مما سبق، وإن صدَّرنا واحداً منه ولكن سنعرض
تفاصيل الاتهامات وما يتعلق بها، ثم نترك القارئ يجيب عن السؤال الذي تقدَّم في
صدر المقال.
هل كان الإحسان خالصاً؟
(إننا يمكن أن نأتي بالتغيير في لبنان بتعليم الشعب وتنويره داخل المؤسسات
الاجتماعية) .
(إن قوتنا تكمن في قدرتنا على صنع الناس والجماهير، وعلى أن نضع
أوامرنا موضع التنفيذ، إنهم ينفذون أوامرنا لأنهم يعرفون أننا أقرب الناس في
تحقيق مطالبهم) [1] .
بهذه الكلمات الموجزة يُبين محمد حسين فضل الله الزعيم الروحي لحزب الله
إحدى الوسائل الهامة التي يسعون من خلالها إلى تحويل لبنان إلى دولة شيعية، أو
على الأقل مجتمع شيعي؛ فلم تقتصر وسائل التغيير لدى (حزب الله) على نمط
واحد، بل تعددت وتشعبت في أركان لبنان، وكل وسيلة تغرس غرساً وتجني ثمراً.
وكان للخدمات الاجتماعية التي يقدمها (حزب الله) دور كبير في ترسيخ
القناعة بأحقيته بأن يكون صوت العشيرة وراعيها الساهر على راحتها، الساعي
إلى قضاء حوائجها في وقت تقطعت فيه أوصال المجتمع اللبناني، وانهارت
مؤسساته بعدما حل بالبلد ما حل.
وفي الوقت الذي سعى فيه (حزب الله) لأن يكون رأس الحربة في الساحة
اللبنانية، وفي مقدمة الطائفة الشيعية كان لا بد من النظر إلى عامة الشيعة نظرة
تشعرهم بالاهتمام بهم، والسعي لرفع الفقر والحاجة التي طالما عانوا منها، فكان
للحزب سعيان: سعي بالسلاح، وسعي بالإحسان؛ فالمبادئ والمثل والحقائق تبقى
عند كثير من الناس بلا تأثير إن لم يروا لها واقعاً حياً يتحرك بها بينهم.
ولم يكن هذا الإحسان خالصاً كله؛ فقد كان يرمي فيما يرمي إلى خلق جبهة
خلفية تتبنى الدفاع الأدبي والمعنوي عن الحزب، كما أنها تمثل المدد البشري الذي
يدين بالولاء والطاعة؛ فليس جزاء الإحسان إلا الإحسان! !
هدف الخدمات الاجتماعية ودورها:
تنهض هذه المنظمات الاجتماعية بالصلة بعامة الشيعة، والمقصد منها:
إنشاء دوائر أوسع من التأييد، وكلها تفترض علاقة وثيقة ومتينة لسياسة الحركة
وعملها. إن الهيئات المختلفة تعمل على الإحاطة بكل وجوه الحياة الاجتماعية
لإنشاء مجتمع نقيض للمجتمع العام والظاهر؛ فينبغي لجمهور الحركة الشيعية
وأنصارها أن يظلوا من المهد إلى اللحد، هم وأهلهم والصغار منهم والكبار من غير
الخروج عن مرافق (ذلك المجتمع) مهما كانت الذريعة [2] .
مؤسسة (الشهيد) :
وكان من أبرز المؤسسات الشيعية التي قامت بأدوار اجتماعية بارزة: ... (مؤسسة الشهيد) .
وهي تضطلع برعاية (عوائل الشهداء) التي لا تقتصر على المواساة
والعاطفة الصادقة؛ بل تتعداها إلى القيام بعبء مالي كبير، بعضه عيني يتمثل في
تعويض ثابت ودوري، وبعضه الآخر خدمات مدرسية وصحية وتربوية
ودينية [3] .
والمؤسسة مسؤولة عن عوائل من يسقطون في المعارك والأسرى خدمةً
ورعايةً، بما في ذلك القتلى المدنيون من غير المقاومين، والمؤسسة منتشرة في
معظم المناطق اللبنانية وتتولى فيما تتولى: الاهتمام بتعليم أبناء الذين قضوا نحبهم. وتصل الكلفة الإجمالية للفرد حوالي 2500 دولار شهرياً [4] .
المؤسسات الصحية:
افتتحت (الهيئة الصحية) في مطلع 1987م وبتمويل من (مؤسسة الشهيد)
صيدلية في حي السُّلَّم أسمتها: (صيدلية الشهيد الشيخ راغب حرب) تضطلع بمد
يد العون إلى المستضعفين كافة، وتبيع الدواء بأسعار معتدلة ومدروسة، ولا شك
أن الإقدام على مثل هذه الخطوة يخرج الجناح الشيعي الخميني من إطار جمهوره
السياسي والحزبي إلى دائرة أصحاب الحاجات اليومية والعامة، وهم عامة الناس
في الأحياء والشوارع التي يقطنها الشيعة بشكل كثيف [5] .
ومن المهمات التي تقوم بها الهيئة الصحية: الرعاية الصحية الأولية، مثل:
الإرشاد، والوقاية، وإقامة دورات في المناطق النائية، وتنظيم محاضرات، كما
تقوم بإجراء حملات التلقيح ضد الشلل، وقد استفاد منها عام 1998م حوالي50
ألف شخص، وتملك الهيئة: 21 مستوصفاً و 9 مراكز صحية كبيرة و 13 عيادة
تجول في 45 قرية في البقاع و 25 قرية في الجنوب، وقد خرجت 360 متطوعة
عام 1998م و 119 مسعفاً انضموا إلى جهاز واسع لـ (الدفاع المدني) يبلغ عدد
أعضائه الآلاف، كما يوجد مستشفى الجنوب في النبطية التابع للهيئة، وكذلك
مستشفى دارة الحكمة في البقاع، وقد استقبلا ما يزيد عن مئتي ألف مريض خلال
عام 1998م.
وتقدم الهيئة تسهيلات صحية للمواطنين. وقد استفاد 222 ألف لبناني من
ذلك بمبالغ فاقت المليون دولار: ما بين دواء مجاني، أو دخول للمستشفى لعمليات
جراحية، وغيرها من الخدمات الصحية.
مؤسسة الجرحى:
تقدم المؤسسة العناية الكاملة لجرحى المقاومة، والجرحى المدنيين بشكل
(شبه كامل) أما بالنسبة لجرحى المقاومة فالعناية شاملة من لحظة دخول المستشفى
حتى لحظة الخروج، والمسؤولية عن المعاقين تشتمل على: مخصص شهري،
سكن، صحة، تربية، تكاليف العائلة.. إلخ.
كما تعمل المؤسسة على إيواء الجرحى، ورعايتهم ضمن العائلة والمجتمع.
مؤسسة جهاد البناء:
جمعية (مؤسسة جهاد البناء الإنمائية) تأسست في لبنان سنة 1988،
شعارها: (إسرائيل تقصف يومياً ونحن نرمم يومياً) وقد اقتصر عملها بعد
التأسيس في ظل غياب الدور الخدمي للدولة على رفع النفايات وتأمين المياه
والكهرباء، وما شابه ذلك من قضايا تهم اللبنانيين في حياتهم اليومية وتفاصيلها. ... (جهاد البناء) وجدت نفسها مدعوة إلى (ردم الهوة التي تريد إسرائيل إيجادها بين
المقاومة والناس) . و (ردم الهوة) بات يعني تحديداً: القيام بأعمال الترميم بعد
الاعتداءات. ويُقَدر عدد المنازل والوحدات السكنية المتضررة في كل من عدواني
يوليو 1993م وإبريل 1996م بخمسة آلاف منزل، وأمكن في المرتين إتمام
الترميم خلال 3 إلى 4 أشهر، ثم إعادة البناء تماماً لكل ما تهدم، كما أن المؤسسة
عاملة على بناء مدارس ومستشفيات ومستوصفات وملاجئ، وعلى القيام بتمديدات
كهربائية بعد القصف وعلى حفر آبار ارتوازية، ويزداد يوماً بعد يوم، وللمؤسسة
دورها في التنمية الزراعية؛ فهي تقوم بإرشاد زراعي وبتسليفات وتضع صيدلياتها
وتعاونياتها في الجنوب والبقاع في خدمة المزارعين [6] .
وقد قامت المؤسسة حتى أوائل تموز عام 1994م، بإنشاء تسع وعشرين
مدرسة أو تأهيلها، وترميم نحو خمسة آلاف وثلاثمائة منزل، كما تم رفع خمسة
عشر مسجداً وأُهِّل ثلاثة وخمسون، وشُيد سبعة عشر نادياً حسينياً (حسينية) [7] .
وكان الشيخ نبيل قاووق، رئيس شورى الجنوب، نوه في أواخر أيلول عام
1993م، أي بعد عملية (تقديم الحساب) بنحو شهرين، بترميم (جهاد البناء)
1750 منزلاً في إحدى وثلاثين قرية جنوبية، وأسهم في إنجاز ذلك خمسة آلاف
ومئة إداري ومهندس وعامل [8] .
المدرسة:
يقول نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله إن لدى الحزب 50 مدرسة
موزعة على مناطق لبنان [9] .
ونأخذ من هذه المدارس نموذجاً لنرى ما الذي يُقدَّم من خلالها، وهي مدرسة
(شاهد) :
المدرسة من حيث المبدأ هي لأبناء القتلى والأسرى، والمبدأ المتبع فيها كما
في مؤسسة الشهيد هو عدم عزل هؤلاء عن الآخرين؛ فعددهم في (شاهد) هو
180 من أصل 675 طفل موزعين على الصفوف حتى الرابع الابتدائي [10] .
وهكذا نرى أن الخدمات الاجتماعية كانت شاملة لجميع الاحتياجات الاجتماعية ... ... وهي خدمات لا تستطيع جماعة بمفردها القيام بها؛ إذ إنها مساعدات لا تقدر
عليها إلا دول أو جماعات تمدها دول، وقد كان الهدف من تلك الخدمات هو ... (حصار) الناس ضمن إطار مذهبي شيعي لا يشذ عنه أحد، وكما قيل: من المهد
إلى اللحد.
من أين لك هذا؟
سؤال يرد بلا شك على ذهن أي مطَّلع على حجم هذه الخدمات التي تُقدم،
وسنورد حجم المبالغ التي تُنفق على (حزب الله) لينفقها بدوره على مشاريعه
وأهدافه، وسنرى كيف أن المورد الذي اعتمد عليه (حزب الله) كان سخياً؛ فهل
كان وراء هذا الكرم سر؟
بالنظر إلى جانب المدارس الدينية وحجم الإنفاق على الطلبة والمدرسين فيها، سنجد أن راتب الطالب العازب المقيم في المدرسة نفسها ألف وخمسمائة ليرة
لبنانية (في صيف 1986م) [11] ، أما راتب المتزوج فيبلغ ألفين وخمسمائة ليرة،
ارتفع الراتب الأول إلى نحو مئتي دولار (في العام 1995م) ، والثاني إلى نحو
ثلاثمائة. أما المدرس فيُجرى عليه بقدر حاجته وأعبائه، ويرجح أن ما يتقاضاه
المدرس لا يقل عن خمسة آلاف ليرة نقداً (1986م) ، وصار متوسط راتب
المدرس نحو خمسمائة إلى ستمائة دولار [12] . وليس لدينا إحصاء لعدد المدرسين
أو الطلبة.
فإذا نظرنا إلى جانب آخر من المصروفات كتكلفة الجهاز العسكري المحترف، والرواتب العديدة، وتكلفة الجهازين السياسي والأمني، وجهاز الإعلام، فسوف
يترجح تقدير الميزانية. بين العشرين مليون دولار والمئة والستين مليون
دولار [13] .
ويقدر زين حمود دخل (حزب الله) المالي النقدي من إيران بثلاثة ملايين
دولار ونصف المليون في الشهر الواحد، وذلك منذ 1990م، أما علي نوري زاده
فذهب إلى أن دخل الحزب الخميني بلغ عشرين مليون دولار في عام 1992م،
وخمسين مليون عام 1991م، وقُدِّر بمئة وعشرين مليوناً في 1992م، ومئة
وستين في 1993م [14] .
وتشير بعض المصادر إلى ارتفاع ميزانية (حزب الله) في عهد رفسنجاني
إلى 280 مليون دولار [15] .
وقد تواتر الخبر واستفاض العلم للقاصي والداني عن هذا الدعم الإيراني غير
المحدود لحزب الله [16] .
ولم تكن إيران وحدها على خط الدعم العام لحزب الله؛ فقد كانت سوريا
شريكاً وحليفاً قوياً لإيران، وكان لهذا التحالف أثره على (حزب الله) دعماً ومساندة ...
سياسية، واستخداماً بما يتوافق مع أهداف الحليفين. لقد كان لهذا التحالف دور هام
في تحديد مسار (حزب الله) ، ولذلك فمن الضروري إلقاء نظرة عليه وقراءة
لأوراقه.
الحلفاء وقصة التحالف:
كانت نظرة الأسد إلى الشيعة أكثر إيجابية وتأييداً، وكان كفاح الشيعة من
أجل حصة أكبر في الدولة اللبنانية نسخة من كفاحه هو في سوريا، وفي إحدى
المناسبات في أوائل الثمانينيات طلب وفد من زعماء المسلمين السنة في بيروت
مساعدة الأسد ضد جموع الفلاحين الشيعة التي تزحف على مدينتهم وتهدد بتغيير
طابعها، فلم يظهر الأسد تعاطفاً مع هذا الطلب، وذكَّر زائريه بأنه هو نفسه كان
فلاحاً أطاح بسلطة وجهاء المدن [17] .
وكان حزب البعث مدركاً منذ وصوله إلى السلطة عام 1963م للقاعدة الضيقة
للنظام؛ فإن علويي سورية (النصيرية) سعوا للوصول إلى توازن قلق بين
الحصول على الاعتراف بوضعهم المعلن ذاتياً فرعاً من المذهب الشيعي الإثني
عشري وبين الحفاظ على هويتهم. لذا فإن الدور السياسي للعلويين بصفتهم قاعدة
للسلطة الحزبية قد ساعد في إبراز مشكلة (إضفاء الشرعية) العلوية، وأضاف بعدا
إلى السياسة السورية، ومن هنا كانت أهمية العلاقات مع شيعة لبنان وإيران على
التوالي.
بالنسبة للشيعة اللبنانيين فإن البحث العلوي عن الشرعية كان يسير في توازٍ
مع حاجة الشيعة إلى حليف خارجي يُعتمد عليه، ولقد تعززت هذه العلاقة من وقت
لآخر بفعل الروابط الشخصية الحميمة بين قادة الطرفين، كما تمثلت العلاقة بين
الرئيس السوري وموسى الصدر في أوائل السبعينيات، ويمكن النظر إلى فتوى
الصدر باعتبار العلويين اللبنانيين المحليين شيعة في أيلول 1973م على أنها إيماءة
شخصية وسياسية على درجة عالية في الوقت ذاته باتجاه القيادة السورية، هذه
الإيماءة تناغمت بشكل بارع مع هدف الصدر في الحفاظ على روابط قوية مع
سورية بصفتها ثقلاً موازناً قوياً للأطراف الأخرى في المرجل اللبناني، وكانت
هامة أيضاً في سياق اهتمام سورية الخاص بالطائفة الشيعية اللبنانية البادئة النمو
والتجذر.
إن الفحوى السياسية لقضية الشرعية قد لعبت دوراً هاماً في تطور العلاقات
السورية الإيرانية، ويمكن في الواقع النظر إليه على أنه المحرك الرئيس لنشوء
التحالف بين البلدين. لقد ساعدت هذه الصلة في تأسيس لبنان باعتبارها نقطة
تقاطع هامة بين العنصر الاجتماعي الديني للعلاقات الشيعية العلوية والمصالح
الإقليمية والاستراتيجية لكل من سورية وإيران [18] .
وقد قدم موسى الصدر خدمة جليلة للنظام السوري أثناء حربه مع القوات
الوطنية المتحالفة عام 1976م؛ حيث طالب الشيعة بعدم الانضمام إلى هذه الجبهة، أما حركته حركة أمل فكفت يدها عن النصارى والنصيريين! ! وبذلك فقدت
الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينيون أحد الدعائم التي كان من الممكن أن تغير
الوضع في لبنان [19] .
وعلى نهج الصدر سار نبيه بري من بعده في التحالف مع سورية؛ فها هو
يقول: إننا اتخذنا خيارنا مع سورية: نعيش معاً أو نموت معاً [20] . إن حركة
أمل لم تتسلم شيئاً على الإطلاق من أي إنسان خارج سورية التي حصلنا منها على
السلاح، أخذنا أسلحة ودبابات من سورية، وإمداداتي العسكرية كلها من سورية،
أنا لا أنكر ذلك [21] .
وهذا الارتباط السوري مع شيعة لبنان جزء من ارتباط أكبر مع إيران صاحبة
اليد العليا التي تنفق وتخطط، ومن المهم استعراض هذا التحالف وأسبابه وأهدافه.
بين طهران ودمشق:
منذ اللحظة التي تسلم فيها الخميني السلطة في أوائل عام 1979م اعتبر الأسد
مصادقته شيئاً تقتضيه مصالحه العليا.
وبوقوفه إلى جانب دولة خارج الأسرة العربية، ومع حركة إسلامية ثورية
تتحدى المؤسسات السنية أظهر الأسد تحرراً غير معهود من التقاليد، وأعاد رسم
قواعد نظام القوى في الشرق الأوسط. وكانت هناك أسباب استراتيجية هامه
لتحركه.
رحب الأسد باستيلاء الخميني على السلطة في طهران ببرقية تهنئة حارة،
وبعد ذلك بأسابيع قليلة أرسل له نسخة من القرآن مزخرفة بالذهب والأحرف
الساطعة، هدية حملها إلى (قم) وزير إعلامه في ذلك الوقت أحمد إسكندر أحمد،
وبعد تقبيل المصحف شكر آية الله سورية على عرضها له بالنزول في ضيافتها في
أكتوبر سنة 1978م، وقام وزير خارجية الأسد في ذلك الوقت عبد الحليم خدام
بزيارة طهران في أغسطس سنة 1979م، وأعلن بشيء من المبالغة والغلوّ أن
الثورة الإيرانية هي (أعظم حدث في تاريخنا المعاصر) ، وافتخر بأن سورية قد
دعمتها (قبل قيامها وأثناء اندلاعها وبعد انتصارها) [22] .
بالإضافة إلى ما ذكر من الترابط العقدي بين سورية العلمانية بعدما سيطر
حزب البعث على النظام فيها، وبين إيران الثورية الخمينية؛ فإن هناك عوامل
أخرى كانت دافعاً لكل طرف لكي يوثق التحالف مع الآخر، وقد تشعبت هذه
العوامل وكثرت.
بالنسبة للسوريين فقد كان توقيت الثورة الإيرانية أكثر ملاءمة لهم؛ حيث
تفاقم إحساس سورية بالعزلة وكونها عرضة للخطر الاستراتيجي بشكل متزايد نتيجة
لتخلي مصر عن الصراع ضد (إسرائيل) وتوقيعها على اتفاقية كامب ديفيد في عام
1979م، وقد كانت سورية قلقة أيضاً لكون مصر وقد أصبحت في المعسكر
(المؤيد للغرب) بثبات سوف تجر في أعقابها أطرافاً عربية أساسية أخرى بما في
ذلك الأردن مما يؤدي إلى زيادة عزلتها وإضعاف موقعها إزاء (إسرائيل) .
إن الموقف السوري من إيران قد تحول إلى موقف منطقي محسوب يقوم على
اعتبارات القوة والتوازن مع النظام المنافس في العراق من ناحية، وبالمفهوم
الإقليمي الأوسع من ناحية أخرى. إن دور إيران في تقييد حرية الحركة العراقية
كونها ثقلاً موازناً ضد أطراف عربية أخرى، بما في ذلك مصر هذا الدور يمكن أن
يكون قد أضاف بعداً إلى الحوافز السورية لإعادة نظرها في موقفها نحو إيران.
وتأتي اهتمامات إيران من ناحيتها لتعكس عدداً من العوامل المستقلة
والمتداخلة؛ فكانت إيران في حاجة إلى حليف يعتمد عليه أكثر إلحاحاً بشكل كبير
بسبب رغبتها في الحفاظ على موطئ قدم هام في المعسكر العربي، وحاجتها لإبقاء
الضغط على العراق.
إن الحفاظ على علاقات جيدة مع سورية قد منح إيران فائدة أخرى هي تحديداً: الوساطة السورية الممكنة مع عدد من الدول الهامة الأخرى في المنطقة العربية.
وعلى الصعيد الدولي كانت روابط سورية الوثيقة مع الاتحاد السوفييتي قد
منحت إيران قناة لا تقدر بثمن إلى القوة العظمى الأخطر على حدود إيران المباشرة؛ فإن إيران كانت مدركة لحاجتها إلى الحفاظ على علاقات الدولة بالدولة مع الاتحاد
السوفييتي بشكل نِدِّي لعدد من الأسباب السياسية والاقتصادية والطائفية
والاستراتيجية.
أدت مساعي سورية الحميدة في بعض الأحيان إلى تسريع الاستجابة
السوفييتية للمطالب الإيرانية، كما كان الحال ظاهرياً بالنسبة للشحنات العسكرية
السوفييتية العابرة إلى إيران عن طريق سورية.
لقد عكس هذا التحالف عدداً من الاعتبتارات، منها: تراخي الضغط على
صدام حسين؛ فالدعم السوري لإيران كان يعتمد على الخلاف مع العراق، وزاد
من احتمال الانتقام العراقي ضد سورية إذا ما سنحت الفرصة لذلك؛ إذ إن انهيار
التحالف مع إيران سيكون له تأثير ضئيل في تهدئة صدام حسين في هذه المرحلة،
وقد تكون سورية رأت أن من الأفضل الإبقاء على إيران ثقلاً موازناً للعراق بدلاً
من التعويل على الاعتراف العراقي بالجميل مقابل تغير متأخر في العلاقة مع
طهران.
لقد ساعد الغزو العراقي لإيران في أيلول 1980م في تحضير الأساس
لتحالف رسمي بين سورية وإيران أثناء المرحلة الأولى من الحرب ما بين 1980،
1982م.
بالنسبة للإيرانيين: قدم السوريون وسيلة غير مباشرة للضغط العسكري على
العراق ومصدراً مباشراً للسلاح للقوات المسلحة الإيرانية المنغمسة في الحرب.
بعد أحداث مدينة حماة ولاحظ المناسبة سارعت الدولتان باتجاه تحالف رسمي؛ فقد تم توقيع بروتوكول تجاري واقتصادي بعيد المدى بين البلدين من قبل نائب
الرئيس السوري عبد الحليم خدام في طهران في مارس 1982م.
الغزو الإسرائيلي للبنان.. والتحالف:
كان لغزو 1982م تأثير عميق على وجود إيران في لبنان عن طريق توسيع
دورها في الصراع العربي الإسرائيلي؛ فإن الغزو قد وفر الفرصة للمساهمة
الإيرانية المباشرة الأولى في المجهود الحربي الداعم للحركة الشيعية في لبنان على
شكل وحدة عسكرية صغيرة نسبياً مكونة من 1500 عنصر من الباسداران (الحرس
الثوري الإيراني) الذي سُمح لهم بالدخول عن طريق سورية إلى البيئة الصديقة في
وادي البقاع. وقبل ذلك الوقت كانت الجهود الإيرانية لإقامة وجود عسكري مستقل
في لبنان قد صُدَّت من قِبَلِ الأسد نفسه، لكن الموقف السوري بعد الغزو الإسرائيلي
ربما أضحى أقل مقاومة لعروض المساعدة الإيرانية من ذي قبل.
من وجهة نظر إيران فإن وجودها الجديد في لبنان أنتج نقطة التَّماسِّ المباشر
الأول بين النظام الثوري وطائفة شيعية كبرى في العالم العربي، ومنذ ذلك الحين
غدت إيران لاعباً قيادياً في شؤون هذه الطائفة التي تمثِّل قاعدة ممكنة لمدّ نفوذها
إلى قلب الصراع العربي الإسرائيلي.
في ذلك الوقت بدأ تقاطع المصالح والتوجهات بين سورية وإيران بالاتساع؛
ففي حملتها لإخراج الإسرائيليين من لبنان كانت الدوافع المباشرة لسورية دوافع
استراتيجية؛ فالوجود العسكري الإسرائيلي في النصف الجنوبي من لبنان وعلى
الأخص في وادي البقاع قد وضع العمق السوري تحت تهديد مزدوج؛ فلأول مرة
كانت دمشق معرضة لخطر مزدوج محتمل من الجولان والمواقع الإسرائيلية
الأمامية في لبنان، إضافة إلى ذلك؛ فقد كان هناك التهديد الجيوسياسي النابع من
وجود نظام موالٍ لـ (إسرائيل) وموال للغرب في لبنان. إن القلق السوري حول
إمكانية العزلة الإقليمية ومخاطر الصفقات الثنائية العربية الإسرائيلية المستقلة كان
آنذاك المحدد الأساس لسياستها الخارجية؛ فوجود لبنان في الفلك الإسرائيلي
الأمريكي سوف يزيد من ترجيح كفة التوازن الإقليمي المائل أصلاً بشكل غير
مرغوب فيه عن طريق إكمال التهديدات العراقية والإسرائيلية بتطويق محتمل من
الغرب.
كما أن ارتداد لبنان سوف يضيف ثقله إلى خسارة مصر، ومع الأخذ بعين
الاعتبار الموقف المشكوك فيه للأردن، وفي ظل هذه الظروف فإن رغبة سورية
في تقوية روابطها مع إيران ليست مفاجئة. استطاعت سورية الاعتماد على إيران
لتأمين المساعدة المادية على شكل معونة اقتصادية، وقوة بشرية على شكل جماهير
محلية مهيأة، وتحريض يمثل وجهة نظر راديكالية معادية لـ (إسرائيل) وللغرب، ومصدر جديد للضغط والتهديد المحتمل لإلهاء كل خصوم سورية الإقليميين
والدوليين تقريباً، مع الحفاظ في الوقت ذاته على مسافة مادية وتاريخية كافية
لتفادي أن تصبح قوية أكثر مما يجب أو مستقلة أكثر مما يجب على الحلبة الداخلية
لسورية.
وبين أغسطس 1988، وأغسطس 1990م كان هناك عدد من التطورات
التي أثرت على العلاقة السورية الإيرانية؛ فمع انتهاء الحرب الإيرانية العراقية
بدت قوة العراق بشكل ملحوظ في وجه كل من سورية وإيران؛ فالعراق لم ينجح
فقط في فرض نهاية مذلة للحرب، بل كان في موقع جيد جداً لجني أفضل فائدة من
التأييد الدولي والعربي الواسع للقيام بدور القوة العربية الكبرى المتربعة على الخليج
والمشرق، لذلك فقد قويت دوافع إيران للتمسك بالتحالف مع سورية بفعل تضافر
عدة عوامل، والتي منها: ضعفها مقابل القوة العراقية والانتشار العسكري
الأمريكي في الخليج والعزلة الإقليمية والدولية.
وبالمثل فقد كانت سورية مدفوعة بمصلحتها التقليدية في احتواء العراق
والحفاظ على دورها الفريد في لبنان؛ بيد أن عوامل أخرى كانت تفعل فعلها،
أولها وأهمها: التغيرات في علاقات الشرق بالغرب، وإبعاد التنافس الأمريكي
السوفييتي من المنطقة؛ فقد بدأت علاقات سورية السياسية والاستراتيجية الطويلة
الأمد مع الاتحاد السوفييتي بالتآكل مع مجيء الرئيس غورباتشوف في منتصف
الثمانينيات والامتناع السوفييتي المتزايد عن إمداد المجهود الحربي لسورية أو تدعيم
اقتصادها المتوعك [23] .
هذا الحلف الإيراني السوري كان له مركز هام لإظهار نتائجه، فكان لبنان
هو مطبخ هذا الحلف الذي تشتم منه رائحة الصفقات والاتفاقيات، وبهذا فقد تم ربط
لبنان بهذا الحلف شاء أم أبى.
فهذا وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي في محادثات مع نظيره السوري
فاروق الشرع يقول: إن مصير إيران وسوريا ولبنان في مجال السياسات التي
يتخذها البلدان الثلاثة مترابط بعضهم مع بعض [24] .
كما كان من الطبيعي أن يكون (حزب الله) ورقة بين أطراف هذا الحلف،
أو الطرفين القويين: إيران، وسوريا، وكان عليه أن ينسجم مع أهدافهما؛ فوجوده
ونشاطه مرتهن بتوجهاتهما السياسية، ولكن هل ينجح حزب الله في الاستمرار في
دوره على هذه الحال من الانجذاب بين طرفين؟
مُجبر.. لا بطل:
رسم الظهور العلني لحزب الله خطاً فاصلاً جديداً من وجهة نظر سورية،
وكان هذا التطور إشكالياً؛ فمن ناحية شكلت العناصر الراديكالية الموالية لإيران
ذراعاً فعالاً للنشاط بالوكالة ضد (إسرائيل) والولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى
فإن المناداة بجمهورية إسلامية في لبنان وإخضاع إرادة (حزب الله) لأوامر طهران
الروحية والسياسية، كل ذلك كان يشكل تناقضاً مباشراً بشكل محتمل مع المصالح
السورية الوطيدة.
كان نجاح إيران حزب الله في منع سورية من تنفيذ سياستها في لبنان بمثابة
رسالة خطيرة بخصوص السلطة النسبية لكل عنصر فاعل على الساحة اللبنانية؛
فقد كان الدافع السوري قوياً أيضاً لرسم حدود ثابتة ومفهومة بشكل متبادل لهذه
السلطة في أعقاب الحملة المشتركة لعامي 1983م 1984م؛ إذ لم يُبد تحمُّل سورية
لنشاط حزب الله المعادي لـ (إسرائيل) في جنوب لبنان أي تغير في هذه الفترة،
وظل بدون انتقاص حتى اليوم، إن تحدي حزب الله للهيمنة السورية بين الشيعة في
لبنان يتجاوز الخلافات العملياتية حول الفلسطينيين والحرب في الجنوب، ومن
الممكن أن يضرب في عمق النفوذ والهيبة للسوريين بالذات.
فسورية لم تكن مستعدة للوقوف مكتوفة الأيدي في حين كانت قوة (حزب
الله) ونفوذه يتوسعان في لبنان، وهذا أدى في شباط 1987م إلى أن اصطدمت القوات السورية مباشرة مع (حزب الله) في ضاحية بيروت الجنوبية.
إن السيطرة السورية في لبنان، ومقدرتها على منع أية تحركات إيرانية ذات
شأن في هذه الساحة من المكانة التي تجعل أي تحدٍ مباشر لمصالح سورية الحيوية
من قِبَلِ (حزب الله) أو إيران لن يؤدي إلى أي مكسب إيجابي لإيران.
في الواقع: إن الفقدان المحتمل لحرية الوصول إلى الشيعة اللبنانيين يمكن أن
يكون رادعاً لأي دور تخريبي إيراني، إضافة إلى كونه حافزاً كبيراً بالنسبة لإيران
على تشجيع (حزب الله) على التقيد بقوانين التحالف.
وعلى هذا فقد تحاشى (حزب الله) مهما كلفه الأمر وغلا الثمن تحاشى
الخلاف المعلن مع السياسة السورية، بل سعى إلى مزاوجة ولاءيه: الخميني
الإيراني من وجه أول والسوري من وجه ثان من غير انفصال. فالولاء الخميني
هو مصدر التحزب والداعي إليه ومنشئ هذه الجماعة على الصورة التي هي عليها؛ وعلى هذا الولاء مرجع تماسك الحزب، وتَدِينُ المنظمة الخمينية إلى ولائها هذا
بنهجها وطريقتها التي ميزتها عن غيرها، وتدين للدولة الخمينية بالإعداد والتجهيز
والعتاد والموارد والملجأ والحماية و (الذراع الطويلة) .
أما الولاء السوري فهو شرط بقاء الجهاز الخميني المادي (بقاءاً مادياً) بلبنان
واستمراره على خطته ونهجه، وهو بهذا الاستمرار مسوَّغٌ دوره. وفي ظلال
الولاءين: الخميني والسوري ووفاقهما وتنسيقهما وعقدهما لم يكن على (حزب
الله) إلا المضي في مقاتلة الدولة العبرية، والتمتع بامتيازات سياسية تحول دون استقرار الدولة اللبنانية؛ وعلى هذا فاليد العليا: معنيً ومورداً هي لإيران، واليد العليا: سياسة وشرطاً مادياً هي لسورية، ويسعُ (حزب الله) البقاء وهو يخدم سيدين لا سيداً واحداً! ! [25] .
المتغيرات وأثرها على الحزب:
من الصعوبة بمكان، بل من الاستحالة أن تستمر الأمور على نسق واحد من
بداياتها إلى منتهاها، بل إن المتغيرات التي تطرأ على الأحداث تجعل من الحكمة
إعادة النظر في السياسات الاستراتيجية والأهداف بعيدة المدى وإعادة صياغتها بما
يتناسب مع الوقائع الجديدة، وكان هذا المنطق واضحاً بشكل كبير لدى إيران التي
أنشأت حزب الله ورعته حتى أصبح كياناً له وزنه المعتبر في لبنان، وكانت
التحولات التي طرأت على إيران تفرض لا محالة تغيرات جذرية على سياسة
(حزب الله) ومنهجه وعمله.
فعقب تولي رفسنجاني رئاسة الجمهورية عبَّر عن رفضه فرض الثورة على
المسلمين خارج إيران، بينما طالب الحركات الإسلامية خارج إيران باتخاذ الثورة
الإيرانية قدوة ومثالاً لها، وبالسعي لإيصال صوت الثورة إلى الناس؛ وأضاف أن
إيران ستصدر أفكارها في القوانين الدولية.
والواقع أن التحول نحو السياسة البراجماتية داخلياً وخارجياً قد ارتبط في
جزء من دوافعه بانتهاء الحرب مع العراق والإحساس بالاختناق الاقتصادي
وبالحاجة للانفتاح على العالم، خاصة اجتذاب استثمارات الغرب وتكنولوجيته
لإعادة تعمير إيران مما تطلَّب اعتدالاً في السياسة الخارجية.
ومنذ عام 1986م كانت إيران قد بدأت تمارس ضغوطاً على التنظيمات
المسلحة الموالية لها في لبنان للإفراج عن الرهائن الغربيين مقابل تحقيق مصالح
وأهداف (للثورة الأم) في إيران.
وشهدت فترة رئاسة رفسنجاني لإيران تقليص المساعدات العسكرية والمالية
لحزب الله.
كما أن إيران مارست ضغوطاً على حزب الله لضبط النفس عقب اختطاف ... (إسرائيل) في 29-7-1989م للشيخ عبد الكريم عبيد، أحد قياديي حزب الله في
الجنوب اللبناني، وعدم الإصرار على استبداله برهائن غربيين خلال صفقات
لاحقة بين إيران والدول الغربية، وكذلك الشيء نفسه بعد اغتيال (إسرائيل) للشيخ
عباس الموسوي زعيم حزب الله في هجوم بالهليكوبتر في فبراير 1992م فأين
الانتقام للشهداء؟ ! كما ساهمت إيران في إقناع حزب الله بالانضمام للهجوم
الشامل بالتعاون مع سورية ضد العماد ميشيل عون في بيروت الشرقية
في 14-8-1989م [26] .
ولا شك أن حزب الله اللبناني ساهم بدور الرافعة للدور الإيراني في المشرق
العربي، مما أعطى لإيران وزناً استراتيجياً أكبر من حجمها، وتم استغلاله منذ
تدهور قوتها التقليدية.
ويمكن لحزب الله أن يظل أحد مصادر التأثير السياسي لإيران، وهذا هو أحد
الأسباب التي جعلت طهران تشجعه على التفكير في أدائه المستقبلي. وبغض النظر
عن الجانب الأيديولوجي والترابط العضوي؛ فإن حزب الله اللبناني يمثل حالياً
رافعة هامة لسوريا التي تعد أحد أهم اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط، والتي تعد إيران بحكم التعريف الجغرافي ليست جزءاً منها [27] .
ولهذا فقد كان التحول إلى وجه آخر وتبديل السياسات أمر لا مفر منه لحزب
الله [28] .
إن الاتجاه الأكبر داخل حزب الله مدرك للحاجة إلى التكيف مع وقائع التسوية
الممكنة بين (إسرائيل) وكل من سورية ولبنان، ولقيود السعي لبسط الحكم ذي
النمط الذي يدعو إليه في البلد الأكثر تنوعاً من حيث الطوائف والأديان في المنطقة
. وقد انعكس هذا في استعداد حزب الله للمشاركة في النظام السياسي اللبناني،
بالإضافة إلى إظهار رغبة الحزب بالالتزام بقوانين النظام السياسي اللبناني المنبعث
مجدداً ونقل نشاطاته السرية إلى مجال غير موجه ضد الدولة بحد ذاتها.
إن نقلة من هذا النوع في سياسة (حزب الله) وموقفه تعتمد كثيراً على توازن
الآراء ضمن الحركة والموقف النهائي الذي تتخذه إيران، إضافة إلى موقف حزب
الله مع سورية.
وتتمتع القيادة الرسمية لحزب الله، بما فيها الأمين العام الحالي الشيخ حسن
نصر الله بعلاقات جيدة مع كل من سورية وإيران، ومن المرجح أن تستجيب
لمتطلبات وحساسيات الأولى بقدر استجابتها لمتطلبات وحساسيات الأخيرة [29] .
ومن خلال هذا المنطلق، فقد صرح السفير السوري في واشنطن وليد المعلم
أن حزب الله حركة مقاومة وطنية ولن تكون عقبة في طريق السلام إذا كان يلبي
المصالح السورية واللبنانية، إن قيادة الحزب تدرك بأن أي اتفاق مقبول من سورية
ولبنان يكون ملزماً لها على السواء [30] .
بل لقد استبق حسن نصر الله الجميع باعترافه بأنهم أداة في يد المفاوضين في
عملية السلام، فقال: إن المقاومة ورقة ضغط بيد المفاوض العربي. والغريب أن
باراك يريد أن يفاوض ومعه طائرات حربية أمريكية جديدة، ومئات الملايين من
الدولارات من أمريكا، وهذا مسموح به، بينما المطلوب أن تذهب الوفود العربية
مجردة من عناصر قوتها، وعنصر المقاومة هو الأهم [31] .
وإمعاناً في التحول تلبية للإرادة الجديدة، فقد قام (حزب الله) بتوسيع قاعدة
المشاركة في عملياته العسكرية انطلاقاً من ذوبانه في الحالة اللبنانية، فقام بإنشاء
(سرايا المقاومة) التي فتح فيها الباب لجميع شرائح المجتمع اللبناني بما فيهم
النصارى لكي تنضم إلى صفوفه، فقد أصبح الهدف الآن: تحرير التراب
اللبناني! ! [32] .
حقيقة النجاح العسكري:
على الجانب العسكري الذي برز من خلاله نشاط حزب الله، فمن الواضح
اليوم لكل ذي عقل أو على الأقل يجب أن يكون واضحاً أنه في حرب العصابات
التي تدور اليوم في جنوب لبنان لا توجد فرصة للانتصار بالنسبة للإسرائيليين؛
وذلك لعدة اعتبارات:
أولاً: أنه لم يتغلب مطلقاً بأي شكل من الأشكال في العالم جيش نظامي على
مقاتلي حرب عصابات.
ثانياً: أن (حزب الله) يعرف الميدان والمنطقة أفضل من جنود (إسرائيل)
وأفضل من جيش نظامي بعتاده وإعداده.
ثالثاً: أن أتباع (حزب الله) يعملون في أوساط سكان متعاطفين معهم
ويمنحونهم مزايا كثيرة كما سبق الإشارة إليها ابتداءاً.
رابعاً: أن جيش جنوب لبنان تحول من جيش أجير الذي كان من المفروض
أن يقوم بالعمل الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي إلى أداة مكسورة هشة، والتي بدون
حماية (إسرائيل) وحضورها فإنه يصبح بدون فائدة.
خامساً: أن الوجود الجسدي على أرض لبنان يحول (حزب الله) من تنظيم
إرهابي إلى مقاتلين من أجل الحرية وشرعيين في أعين العالم، وبذلك تُخلى
مسؤولية لبنان وسورية من الدم المسفوك [33] .
كذلك فإن جزءاً كبيراً من الذين يخدمون في جهاز أمن جيش جنوب لبنان
الذي تستخدمه (إسرائيل) هم من الدروز والشيعة سكان الحزام الأمني، ولقد
مارس حزب الله معهم أساليب مختلفة ليجندهم، وفي الوقت ذاته هناك افتراض بأن
الدروز في جهاز الأمن لا يرون أن هناك أي مشكلة في إطلاع أعضاء الحزب
التقدمي الاشتراكي التابع لوليد جنبلاط على المعلومات التي لديهم، وهؤلاء
يتعاونون مع حزب الله [34] .
إن القليل فقط ينتبه إلى أنه في العام الأخير طرأ انخفاض في عدد قتلى جيش
الدفاع الإسرائيلي في جنوب لبنان. وبصفة عامة فإن من الممكن القول بأنه في
أربعة مجالات أساسية لم ينجح حزب الله حتى اليوم في تحقيق أهدافه: فهو لم
يحتل حتى اليوم موقعاً لجيش الدفاع الإسرائيلي، ولم ينهر بسببه جيشُ جنوب لبنان
على الرغم من أن ذلك يمثل هدفاً أساساً لحزب الله، وعلى الرغم من جهود (حزب
الله) فلم ينجح التنظيم في اختطاف جنود لجيش الدفاع الإسرائيلي ورغم كل
محاولات (حزب الله) فإنه لم تسقط حتى اليوم طائرة هليوكوبتر واحدة أو طائرة
للسلاح الجوي الإسرائيلي [35] .
ولقد أعلن زعماء (حزب الله) في الماضي أنهم سيواصلون محاربة ... (إسرائيل) حتى (تحرير القدس) ، ولكنهم قالوا مرات كثيرة ما هو عكس ذلك، أي
أن هدفهم هو تحرير الأرض اللبنانية، وليس من شأنهم مواصلة العمل ضد ... (إسرائيل) بعد تحقيق هذا الهدف.
من الناحية العملية، وعلى النقيض من المنظمات الفسلطينية التي حاربت ...
(إسرائيل) نفسها، تجد أن حزب الله لم يبادر أبداً بعمل ضد أراضي (إسرائيل)
المحتلة قبل 5 يونيو (حزيران) عام 1967م، وقصر هذا النشاط على الأراضي
اللبنانية التي احتلت بعد ذلك التاريخ. ورغم أن مقاتلي حزب الله قد وصلوا عدة
مرات إلى خط الحدود، إلا أنهم لم يتسللوا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. وكان
يمكنهم أن يفعلوا ذلك بدون شك [36] .
وهكذا نرى أن النجاحات التي يدندن حولها حزب الله لم تكن على مستوى
لائق بهذا الزخم الضخم من الضجيج الإعلامي.
وأخيراً:
لا بد أن السؤال المطروح في صدر المقال قد أجيب عنه، وبغض النظر عن
النتيجة التي سيصل إليها قارئ هذه الحلقة، تبقى تجربة (حزب الله) تستحق
الاهتمام؛ حيث إن كثيراً من الناس، بل من المتابعين لشؤون الحركة السياسية
الإسلامية لم يكونوا على اطلاع على هذه التجربة.
فعلى الحركة الإسلامية (السنية) أن تنظر إلى هذه التجربة بشكل عملي
للاستفادة من الإيجابيات والسلبيات؛ فقد كان من أجلَى إيجابيات (حزب الله) أو
التجربة الشيعية في لبنان هو ذلك النفس الطويل في العمل والحركة، مما أدى في
نهاية التجربة إلى الوصول إلى نتيجة مُرْضية جداً؛ مقارنة بالأهداف المرسومة
أولاً، كما أن من الإيجابيات التي ينبغي النظر إليها باهتمام شديد: الإعداد العلمي
الهادئ الذي استمر مدة زمنية طويلة؛ حيث كان أساس الحركة ومنطلقها. أيضاً؛
فقد تميزت التجربة بالاهتمام بعامة الناس بشكل كبير، واصطفافها وراء الحزب
عاطفة وتأييداً ودعماً ومساندة؛ بيد أن الملحظ هنا أن الحزب خُلِّيَ بينه وبين الناس، وهو ما لم يتوفر للحركات السنية، وهذه الأخيرة لا يسعها ما وسع (حزب الله)
من انحرافات وتقلبات في المنهج العلمي والحركي، ولا يسعها تبدل الولاءات، ولا
أن تكون (أداة أو ورقة) في يد من له يد طولى في الواقع الذي تحياه، فلا يسعها
إلا أن تكون راية تحت لواء الشريعة الحاكمة من قبل أهل الولاية الشرعية.
ونشير هنا إلى أن كثيراً من مباحث هذه الدراسة تم عرضه بشكل مختصر،
ليناسب مساحة النشر، كما أن هناك مباحث أخرى لم يُتطرق إليها في هذا العرض.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.