المسلمون والعالم
وعودة العلاقات الإرتيرية السودانية
جلال الدين محمد صالح
تعقدت الأوضاع في القرن الإفريقي، وازدادت سوءاً إلى الحد الذي سلبه
استقراره السياسي، وَحَوَّلَهُ إلى بؤرة صراع عسكري وتوتر أمني لا يسوقه إلا إلى
نكبة من وراء أخرى، وليس فيما يظهر ما يبشر بقرب الانفراج، أو يوحي
بتخفيف الأزمات فضلاً عن الذهاب بها إلى حيث لا رجعة؛ فالصومال الحزين ما
زال ينزف دماً من جراء الاقتتال القبلي، ويُدفَع به من هاوية إلى أخرى من دون
أن تجدي في إطفاء حريق الحرب كلُّ محاولات المساعي الحميدة وغير الحميدة من
وسطاء عرب وغير عرب، وبلغ به الانهيار والتردي إلى الدرجة التي جعلت منه
أفضل ميدان تصطفيه القوى الإقليمية المتصارعة لتصفية حساباتها وخدمة
استراتيجياتها تماماً كما يفعل النظامان الإرتيري والإثيوبي باللعب في تناقضاته
القبلية، وإغراقه بكميات من مختلف الأسلحة دعماً لمن تتطابق معه مصالحهما من
الفصائل المتحاربة سواءاً من المعارضة الإثيوبية التي تتلقى دعماً عسكرياً من
النظام الإرتيري، أو أطراف النزاع الصومالي؛ حيث تنحاز إرتيريا نحو عيديد،
وإثيوبيا نحو عثمان علي عاتو الذي ندد مؤخراً بالتصرف الإرتيري وذلك بعد
وصول سفينة محملة بالسلاح من إرتيريا لدعم المعارضة الأرمية الكامنة في
الصومال تحت مظلة (عيديد) للانطلاق من هناك في ضرب الأهداف الإثيوبية،
وتذكر مصادر صحفية أن قتالاً نشب بسبب النزاع على تقاسم هذه الأسلحة التي تم
تفريقها بحضور (عيديد) وإشرافه.
وكتب مدير مركز القرن الإفريقي للدراسات الإنسانية في مقديشو نقلاً عن
الصحف المحلية (أن وفداً عسكرياً إرتيرياً قام بزيارة معسكرات التدريب للثوار
الصوماليين والأرميين في وقت سابق من الشهر الماضي للوقوف على مستوى
التدريب ومدى القدرات القتالية لدى الثوار) [1] .
ويتوقع المدير المذكور أن إثيوبيا سوف تتخذ هذا ذريعة لاجتياح الصومال كما
اجتاحته من قبل لضرب ما أسمته بأوكار الأصولية القابعة هناك، وأورد أنها عقب
هذا النشاط الإرتيري دعت حلفاءها الصوماليين إلى اجتماع طارئ للاتفاق على
استراتيجية تحبط المخطط الإرتيري.
وهذا التفكك الصومالي بالرغم من أنه أنهى دور الصومال باعتبارها دولة
مؤثرة، وأتاح لإثيوبيا فرصة العبث به إلا أنه من زاوية أخرى عاد عليها نتيجة
غياب الحكومة المسؤولة بكثير من المساوئ مما أوجب عليها القيام بمبادرات
إصلاحية تمثلت في تنظيم اجتماع (سودري) لتسوية الوضع المأساوي في هذا
البلد؛ ولكن على النحو الذي يجعل منه كياناً مطواعاً تمسك به من خطامه وتجره من أنفه إلاَّ أنها عجزت عن كسب ثقة كل الفصائل، وبخاصة (عيديد) الذي وقف معارضاً لكل ما انبثق عن اجتماع (سودري) من لجان وقرارات معتبراً ذلك نمطاً من أنماط التدخل الإثيوبي في الشؤون الصومالية، وهكذا انحصر هذا الاجتماع في ستة وعشرين فصيلاً خرجوا بتكوين مجلس أطلق عليه: (مجلس الإنقاذ الوطني الصومالي) ومن أبرز رجاله (عثمان عاتو) .
ومهما كان حظ (عيديد) من الصدق في تشخيص النوايا الإثيوبية من وراء
تنظيم هذا اللقاء فإن التأثير القبلي والمصلحي في القيادات الصومالية بات عقبة
صعبة التجاوز، فلم تعد مثل هذه المواقف الرافضة خاصةً بإثيوبيا ومبادراتها؛
وإنما أيضاً مصير كل مبادرة لا يجد فيها طرف من الأطراف ما يُخَصُّ منها
بنصيب الأسد، حتى ولو كانت من المحيط العربي والإسلامي، كما كان الأمر مع
لقاء القاهرة الذي تم في 22-12-1997م بعد اجتماع (سودري) وحضره ... (عيديد) لكنه جُوبِهَ بمعارضة قيادات أخرى كالكولونيل عبد الله يوسف، واللواء آدم عبد الله اللذين أعلنا فور وصولهما إلى أديس أبابا من القاهرة معارضتهما لكل ما ينجم عنه من قرارات. والكولونيل المذكور حسب إفادة مصادر مطلعة حليف قوي لإثيوبيا، ويقود منظمة تدعى (الجبهة الصومالية للإنقاذ) وقام بتشكيل حكومة محلية في مناطق الشمال الشرقي من البلاد، ولا ريب أن اتساع رقعة التنافر والتدابر بين هذه القيادات يعد مؤشراً جلياً على أن الصومال سيبقى بعيداً عن بر الأمان ملتهباً ومتقرحاً يندب حظه، وتتساقط عليه جراثيم الصراع الإقليمي لتعمق من جراحاته إلى أجل غير مسمى، وهو بالقدر الذي يمثله بوضعه الحالي من وصمة عار على جبين بنيه يعكس من جانب آخر ضعف المنظمات الإقليمية عربية وإفريقية في حل معضلات الشعوب لافتقارها إلى آليات فرض ما تراه مناسباً.
الصراع الإثيوبي الإرتيري:
من ناحية أخرى أدى تطور الخلاف الحدودي بين إرتيريا وإثيوبيا إلى اندلاع
حرب شاملة بينهما، وتلبية لمتطلبات هذه الحرب شرع كل منهما في العمل على
تصعيد الموقف بالشكل الذي يقيه شر الهزيمة، ويفل قدرات خصمه؛ الأمر الذي
حفز أحزاب المعارضة المسلحة في كلا البلدين إلى استثماره وتوظيفه لصالح
أهدافها ومراميها؛ فأقبلت تعمل في ترتيب صفوفها وتجميع قواها؛ فعلى الصعيد
الإثيوبي أعلن مقاتلو (كدوجابين) عن توحدهم، وأعربوا عن استعدادهم لقبول
مختلف الدعم العسكري والسياسي من مختلف الجهات في سبيل إحراز استقلال
الإقليم وفصله عن إثيوبيا، ومن المؤكد أن هذا مما يصب في مصلحة السياسة
الإرتيرية التي أخذت على نفسها دعم اتجاهات كهذه ما دامت تشغب على إثيوبيا
وتصرف مجهودها الحربي إلى قضايا جانبية تحول دون تركيزها على جبهة القتال
الناشب بينها وبين إرتيريا، كما أن إثيوبيا لم تهمل من طرفها هذا الجانب فقد
رحبت بالمعارضة الإرتيرية في أديس أبابا، وأجازت لها ممارسة نشاطها السياسي، ومن آثار هذا النزاع واستقطاباته أن جيبوتي وجدت ذاتها في معمعة بحكم
المجاورة وتداخل المصالح مما فرض عليها في نهاية الأمر قطع علاقاتها
الدبلوماسية مع إرتيريا. وفي الحقيقة أن هذه النهاية جاءت نوعاً من أنواع التعبير
الصريح عن عدم رضى الطرفين بسياسة كل منهما نحو الآخر، وقد أصابها الوهن
منذ إنهاء إثيوبيا ارتباطها بميناء عصب الإرتيري، ولجوئها عوضاً عنه إلى ميناء
جيبوتي، ثم تنامت إلى أن وصلت إلى حد القطيعة الكاملة باتهام الرئيس الإرتيري
(إسياسي أفورقي) جيبوتي بالانحياز المكشوف نحو إثيوبيا في حربها مع إرتيريا، ...
وطالب بإبعاد رئيسها السابق (حسن جوليد) عن لجنة الوساطة الإفريقية التي
شكلتها منظمة الوحدة الإفريقية. ومن جانبه وصف (جوليد) الرئيس الإرتيري
بالخروج على أسس الدبلوماسية الراشدة، ومجانبة العقلانية ومنطق الاتزان في
معالجة مشكلاته مع جيرانه بشكل عام ومع جيبوتي بشكل خاص.
ورغبة في الضغط على جيبوتي اختارت القيادة الإرتيرية مد حبال التواصل
مع المعارضة الجيبوتية والقيام بتزويد أجنحتها المسلحة بالمؤن العسكرية، وتفيد
تقارير صحفية مطلعة نقلاً عن مصادر جيبوتية أن مجموعة الزعيم أحمد ديدني
قامت (بضرب إحدى المجموعات العسكرية الحكومية الصغيرة في مناطق العفر
بجنوب وشمال جيبوتي) [2] ويبدو أن إرتيريا لا تجيد أي مهارة أخرى غير هذا
الخيار الذي يصنفها في خانة المشاغبين ليس إلا، وهو خيار ينم عن قصور في
التجربة السياسية، وجفاف في ينابيع التفكير السياسي لدى القيادة الإرتيرية،
وتطرف في استعمال العنف العسكري ليس له من تفسير سوى أن هذه القيادة ما
زالت تعاني من تشابه وتشابك في الخطوط الفاصلة ما بين العهد الثوري بخصائصه
ومتطلباته والعهد الدولي الذي لا يمكن أن يستجيب لتطبيقات العهد الثوري، وقد
أظهر هذا الخلط بين الخطوط النظام الإرتيري بمظهر عدواني ارتد إليه في نهاية
المطاف بالعزلة الإقليمية إلى الحد الذي صار يتخوف فيه من نشوء تحالفات جديدة
بين مَنْ يعاديهم ويعادونه من دول المنطقة تعمل للإطاحة به، والتخلص منه،
ويمكن أن نسبر عمق التضجر الإقليمي من سياساته بالتصريح الذي أدلى به وزير
خارجية إثيوبيا (سيوم مسفن) الذي حمله (مسؤولية خلق الأزمات مع جيرانه) [3] ، وأكد عدم استعداد بلاده للتعايش معه ما دام يريد أن يفرض ذاته (سوبرمان
في المنطقة عن طريق الضغط على جيرانه بالقوة) [4] وكذلك تصريح وزير
الخارجية السوداني مصطفى عثمان إسماعيل الذي نعت فيه أفورقي في أديس أبابا
أمام الصحافة المحلية والدولية (بهتلر إفريقيا الجديد) [5] وليس بمستبعد أن تكون
تلك القمة الثلاثية بين الرئيس السوداني عمر البشير، ورئيس الوزراء الإثيوبي ... (ملس زيناوي) ، والرئيس الجيبوتي (إسماعيل عمر جيله) التي عقدت بمناسبة
تنصيب الأخير رئيساً على جيبوتي خلفاً (لجوليد) خطوة أولى إلى تأسيس تحالف
يقلم أظافر (أفورقي) باعتبار أن ذلك بات ضرورة من ضروريات مواجهته، وفي
هذه القمة أطلع الرئيس السوداني نظيره الإثيوبي والجيبوتي على المساعي القطرية
في تحسين العلاقات السودانية الإرتيرية وطمأنهما بأن (التقارب بين الخرطوم
وأسمرا لن يكون على حساب العلاقات السودانية الإثيوبية) [6] ، وناقش الرؤساء
الثلاثة قضايا تهم المنطقة وخرجوا بنتائج قالت عنها الصحافة: (أحيطت بتكتم
شديد) [7] ولا ريب أن ذلك مما يقلق النظام الإرتيري الذي وجد نفسه بعد سلسلة
من الأخطاء الكبيرة محجوراً عليه في زاوية ضيقة. وفيما يبدو لي أن خروجه من
نطاق هذه العزلة بعد أن فقد مصداقيته سيكلفه الكثير، ولا أظن أن أحداً من دول
الجوار سيمنح ثقته (لأفورقي) ، وقد أسفر الرئيس الجيبوتي السابق عن هذه
القناعة عند تعليقه على المساعي المبذولة لتطبيع العلاقات السودانية الإرتيرية
بقوله: (الذي أعرفه أن إقامة علاقة مع أفورقي مكلفة الثمن، وأي جهة تقدم على إقامة العلاقات مع أفورقي يجب أن تضع في حسبانها الربح والخسارة) [8] .
القرن الإفريقي والدور العربي:
وأياً كان ما سيتمخض عن تلك التحالفات الجديدة في القرن الإفريقي فإن
العرب لا محالة معنيون بكل غاشية تغشى القرن الإفريقي وتقلب موازين تحالفاته
بحكم ارتباطهم به: أمنياً؛ واقتصادياً، ومن الطبيعي أن تكون لهم مشاركات في
ترتيب أمنه ورصد أحداثه صوناً لمصالحهم من القرصنة، وتأكيداً لوجودهم في
بقعة من الأرض لها تأثيرها المباشر على استراتيجياتهم الإقليمية والدولية، وتضم
دولاً تربطها معهم مواثيق الحماية، وعهود المناصرة، ومن ثم لا بد أن نرى دولاً
عربية كمصر والسعودية والإمارات تتقدم بمبادرات إصلاحية لإخماد فتنة الصومال
وإعادة بناء دولته، وبغض النظر عن حجم هذه المبادرات وأثرها الملموس فإنها
نوع من التعبير عن إدراك أهمية القرن الإفريقي بالنسبة للأمن العربي، ولكي
تكون فعالة ومثمرة لا بد أن تتسم بالتتابع والتناسق ودقة الرؤية التي تخدم فقط
مصالح الاستراتيجية العربية بشكل عام، وإلا فلن تقطف ثمار أي طارئ سياسي
يشهده القرن الإفريقي إن لم تجلب الضرر؛ والحرب الإرتيرية الإثيوبية مثلها مثل
أحداث الصومال تهم الأمن العربي وخطط التنمية العربية، ولهذا سارع الليبيون
ومعهم اليمنيون إلى إطفاء فتيلها، إلاَّ أن عناد الطرفين الإرتيري والإثيوبي حال من
أول وهلة دون نجاح المساعي اليمنية الليبية، بيد أنه بعد اضطرار الرئيس
الإرتيري إلى الإذعان للمبادرة الأمريكية الرواندية التي ظل يرفضها قبل تمكن
القوات الإثيوبية المهاجمة من إجلائه عن (بادمي) -المنطقة المتنازع عليها -
نشطت الدبلوماسية الإرتيرية بفعالية أكثر نحو العواصم العربية حاثَّةً العرب إلى
دفع إثيوبيا نحو تفهم الرغبة الإرتيرية في إنهاء النزاع معها سلمياً، ونجحت في أن
تدخل مصر للعمل في جمع الطرفين على مائدة التحاور ليس على أساس مبادرة
جديدة وإنما - كما أكد وزير الخارجية المصري عمرو موسى - (في إطار الجهود
الإفريقية وإقناع البلدين بها) [9] ولكن كما كان متوقعاً فإن المصريين لم ينجحوا
في إقناع الإثيوبيين بالجلوس مع الإرتيريين والتنازل عن شروطهم المطالبة
بانسحاب الإرتيريين الكامل أولاً من كل ما يحتلونه من الأراضي الإثيوبية، ثم
تعويض الخسائر الإثيوبية الناجمة من الاعتداء الإرتيري حسب تفسيرهم، وإزاء
هذا الموقف المتصلب لم يملك المصريون إلا أن يقولوا: (إن الخلافات حادة بين
إرتيريا وإثيوبيا، وإن مسار تسوية الأزمة الحدودية بين البلدين لم يتحدد
بعد) [10] ، وتعذر هذا بما صرح به الرئيس الإرتيري مؤخراً في احتفال يوم الاستقلال 24-5-1999م إذ قال: (إن كل الجهود السلمية التي بذلت لم تثمر حتى الآن) [11] ، ومما يظهر أن الإثيوبيين يعملون في تطويق مساعي الدبلوماسية الإرتيرية، ويحاولون مزاحمة (أفورقي) في كسب المحيط العربي، ومن المناسب أن أشير هنا إلى أن صحفاً إثيوبية كانت قد اتهمت مصر بالميل نحو إرتيريا مما حمل سفيرها في أديس أبابا على الإنكار، كما أن رئيس قطاع الموارد المائية بوزارة الري الإثيوبي (محمد أحمد هاجرسي) دعا مصر إلى عدم إهدار مياه النيل، وأثنى على الخبرة الإسرائيلية في إنشاء السدود، وطالب بالاستفادة منها في كلمته التي ألقاها في مؤتمر النيل [12] ، وإني لا أفهم من هذا إلا توجيه رسالة تحذيرية إلى مصر خشية أن تنحاز إلى إرتيريا، ولفت نظرها إلى أن مصالحها في إثيوبيا أهم من أي إغراء تلوِّح به إرتيريا، وأن بإمكان إثيوبيا أن تفعل في مياه النيل بالتنسيق مع (إسرائيل) ما ليس في مصلحة مصر، كذلك انتقدها الرئيس الإرتيري - من قبل - في خلافه مع اليمن حول أرخبيل حنيش تضايقاً مما لمسه فيها من مساندة اليمن على حساب الحق الإرتيري على حد قوله، ومرة في فجر الاستقلال الإرتيري؛ إذ صرح بأن مصر غير راضية بما تم إنجازه في الساحة الإرتيرية و (أن المصريين تورطوا مع الفرنسيين في التخطيط لفكرة إيجاد نزاع قبلي في كل المنطقة) [13] واستفزهم مرات باعتقال عددٍ من صياديهم في البحر الأحمر، ورماهم بخيانته والتخلي عنه بعد توريطه في مواجهة السودان.
الوساطة الليبية القطرية بين السودان وإرتيريا:
وعلى كلٍ ولكون النظام الإرتيري حديث عهد بالسياسة الدولية والتواءاتها فإنه
لم يحسن السير في ساحتها، وتاهت به السبل إلى أن أدرك أن لا بد من العودة إلى
طريق السودان لا سيما في هذه اللحظة الحرجة بالنسبة له، اتقاء مضاعفات حربه
مع إثيوبيا التي لا بد أن يكون ضررها عليه كبيراً إذا ما خاضها دون حليف مجاور، أو جار مسالم.
وتأتي هذه العودة بعد فترة من الهجران أعلنتها إرتيريا متذرعة بأن المد
الإسلامي القادم من السودان صار يهدد أمنها، وأن السودان بدعمه لحركة الجهاد
الإسلامي صار مصدر خطر عليتها، ورتبت على ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية،
وفي مخالفة صارخة للعرف الدبلوماسي سلمت مقر السفارة السودانية إلى المعارضة
واندفعت بحماس منقطع النظير إلى إعلان عزمها على إسقاط نظام البشير في
الخرطوم إلا أنها بوغتت بانكسار جدار العلاقة الإرتيرية الإثيوبية، وبه دارت
الدائرة على أفورقي نفسه فأمسى مقصوداً في بقائه كما تتناقل وسائل إعلامه، وأخذ
يعيب على الإثيوبيين هذه النزعة المناقضة للشرعية الدولية وعرفها المألوف؛ ففي
مقابلة له خص بها مجلة (النبض) الموالية لنظامه قال: (فالتحدث علناً بمسعاك
لإسقاط نظام سياسي ما منافٍ للأعراف السياسية، فيمكنك أن تكره نظاماً معيناً،
ولكن أن تفكر في إزالته ومحوه من الوجود فغير مقبول في هذا العصر) [14] .
وهذه الإدانة من (إسياس) للتفكير الإثيوبي إزاء نظامه بالتأكيد من غير جدال
تنسحب منطقياً على تفكيره هو إزاء السودان يوم كان يفصح عن عزمه من غير
تورية ولا تعمية أنه لن يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى في المضي إلى تغيير نظام الإنقاذ، وكأنه كان في عصر غير هذا العصر؛ ففي مقابلة له مع الحياة 22-1-1998م
قال: (مشكلة إسقاط هذا النظام السوداني لا مجاملة من جانبنا فيها، ونحن لا نعمل
في الخفاء إزاء هذا الأمر، فإذا كان التجمع يحتاج إلى أسلحة فسندعم المعارضة
السودانية من دون أي تردد بالأسلحة، ليس لدينا أي مشكلة في هذا الأمر) [15] .
وكلفته هذه الغاية الكثير من الخسائر البشرية والمادية؛ حيث غزا السودان
من بوابته الشرقية، والجنوبية أيضاً، والآن بعد تورطه في الحرب مع إثيوبيا
التفت إلى ثورة الإنقاذ متصالحاً لا مسقطاً، واستبدل مفرداته السابقة بمفردات
أخرى تتحدث - كما يقول - في: (البحث عن الحلول السلمية، وعدم التدخل في
شؤون الغير، ونبذ أسلوب تصدير الأيديولوجيات، واحترام التقاليد، والأعراف
الإقليمية والدولية) [16] .
وهذا الخطاب مهما تباينت فيه وجهات النظر فإنه ما كان معهوداً من إسياس،
وفيه من الدلالة ما يمكن أن يفهم منه أن بوادر الإفاقة بدأت تسري في عروق الرجل
بعد أن سقط خارج حلبة الصراع، وانفض عنه من حوله ليواجه إثيوبيا وحيداً
فريداً.
وكان السودان من باب مجازاة السيئة بمثلها قد خفض للمعارضة الإرتيرية
جناحه، وقد أكسبت هذه السياسة قوى المعارضة الإرتيرية منافع كثيرة، وبخاصة
حركة الجهاد الإسلامي بقيادة أبي سهيل التي استطاعت تنمية قدراتها وتوغلت في
عمق الموَاطِن الحصينة من الساحل الشمالي من إرتيريا، ومن هنالك استطاعت أن
تصد أكثر من مرة هجمات الجبهة الشعبية الحاكمة، كما تداعت كل فصائل
المعارضة إلى عقد مؤتمر في الخرطوم خرج بتحالف يحمل اسم (التجمع الوطني
الإرتيري) وأجمع على إسقاط نظام (أفورقي) . وشعوراً من (أفورقي) بخطورة
هذه المواقف عليه وهو مشغول بالجبهة الإثيوبية طار إلى ليبيا وقطر حتى يُنْهِيَا ما
بينه وبين السودان من جفوة وخصومة، وأثمر سعيه عن لقاء بالبشير تحت رعاية
القذافي، وبالرغم من أن (أفورقي) صرح بأن ذلك كان بمبادرة من القذافي؛ فإن
الرغبة الإرتيرية كانت من وراء تحريك هذه المبادرة التي توجت أخيراً بعد تنسيق
مع قطر بتوقيع اتفاقية الدوحة بين الرئيسين تحت رعاية الشيخ حمد بن خليفة آل
ثاني أمير دولة قطر، ونصت الاتفاقية على (إعادة العلاقات الدبلوماسية، واحترام
الأعراف والمواثيق الدولية، والاحتكام إلى سياسة حسن الجوار، وعدم التدخل في
الشؤون الداخلية، وعدم إقامة تدابير إقليمية ضد الآخر) [17] .
وهذه الاتفاقية وإن كانت في جانب منها كسباً للسياسة السودانية ودليلاً على
إخفاق (إسياس) في سياسته المعلنة ضد السودان إلا أنها من جانب آخر نجاح
يحسب له؛ لكونه ما أراد منها أكثر من تقييد السودان عن الدخول في تحالف إقليمي
يجمعه مع إثيوبيا وجيبوتي في مواجهته، وجاءت في وقت هو في أشد حاجة إلى
تحييد السودان، وساعده عليها (كارت) المعارضة السودانية الموجودة في أسمرا
فأجاد استغلاله، ومع أنه أكد أن هذا الاتفاق لا يمكن أن يكون على حساب
المعارضة إلا أنه في النهاية يبقى مجرد كلام لا يغير من الحقيقة شيئاً. وإذا ما
بحثنا عن المتضرر الأكبر من هذه الاتفاقية في المعارضة السودانية فإنه ليس إلا
الشوعيين وبعض التجمعات الناشئة حديثاً في شرق السودان التي ما كانت تقبل بأقل
من إسقاط نظام الخرطوم وتفكيك مؤسساته، ومن المتوقع أن ينعدم تأثيرها إذا ما
نجحت الحكومة السودانية في الوصول إلى صيغة مصالحة مُرْضية بينها وبين
الحزبين الكبيرين بقيادة المهدي، والمرغني، وهذا ما ترجحه معطيات الأحداث؛
إذ خرج المهدي بتفاؤل كبير بعد لقائه في جنيف مع صهره رئيس البرلمان
والمؤتمر الحاكم الدكتور حسن الترابي، كما عاد رئيس السودان السابق جعفر محمد
نميري من منفاه ليمارس نشاطه السياسي من الداخل.
المعارضة الإرتيرية وعودة العلاقات السودانية الإرتيرية:
وحتماً فإن السودان بموجب هذه الاتفاقية سوف يقلص من نشاط المعارضة
الإرتيرية ويحده في نطاق لا يوقعه في حرج مع الحكومة الإرتيرية، إن لم يلزمها
بما ألزمها به من قبل من لزوم الصمت والكف عما يثير (أفورقي) . وأياً فعل فلا
أعتقد أن تأثير ذلك على المعارضة يضاهي تأثير القرار الإرتيري على المعارضة
السودانية لأسباب من أهمها:
أولاً: أن إثيوبيا هي بديل السودان الجاهز، وستجد فيها المعارضة من
المتسع ما يعوضها عما تفقده في السودان.
ثانياً: أن الحدود الإرتيرية السودانية أكبر من أن تسيطر عليها أجهزة الأمن
السودانية أو الإرتيرية، وفيها من الفسحة ما يمكِّن كلا معارضي البلدين من التحرك
بعيداً عن عيون المراقبة، وحيث إن المعارضة السودانية الشرقية جزء من تحالف
كبير فستفقد تأثيرها على النظام السوداني إذا لم تنصع لما سيصل إليه الحزبان
الكبيران - الأمة، والاتحادي - من مصالحة مع الإنقاذ، فلن تبقى إلا المعارضة
الإرتيرية المسلحة تتحايل، وتماطل.
ثالثاً: لم يكن الجهاز العسكري في المعارضة السودانية - باستثناء جناح جون
قرنق - قوياً بذاته وإنما بمشاركة الجيش الإرتيري؛ في حين أن الجهة المقاتلة في
المعارضة الإرتيرية وهي حركة الجهاد الإسلامي الإرتيري بقيادة أبي سهيل شبَّت
عن الطوْق، وأعيت النظام وأعجزته عن القضاء عليها بالرغم من خوضه ضدها
عدة معارك ضارية وعنيفة.
ولا جدال أن السودان له كامل الحق في أن يرتب أموره الأمنية على النحو
الذي يحفظ به كيانه القائم من الانقسام، ويعيد إليه استقراره الأمني والسياسي؛
ولكن لا بد أن يعي أن هرولة (إسياسي) نحوه إنما جاءت لحاجة في نفسه أمْلتها
أزمته الحادة مع حلفاء البارحة، وأنه قد يعود إلى غيه، وغدره إذا ما سنحت له
سانحة، ولدى السودان تجربة ذاخرة وعامرة بكثير من العبر والفوائد في التعامل
معه أحسبها كافية في أن تجعل حكومة السودان تفكر بعمق وروية قبل الإقدام على
اتخاذ أي خطوة عملية بشأن المعارضة الإرتيرية، وإلا فستفقدها ساعة الحاجة إليها، ولا أظن أن يغيب عن السودان مهمته في حماية بوابته الشرقية.