مجله البيان (صفحة 3310)

خير الهدي

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

عبد اللطيف بن محمد الحسن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه

أجمعين، وبعد:

فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنوار هادية إلى الصراط المستقيم،

وأضواء كاشفة عن سبل العوج والانحراف والنقص والزلل.

وفي كلمة من مشكاة النبوة يرسم النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلماً من معالم

النجاة، بل يحدد أمارة للفلاح والسداد يقيس بها المرء نفسه، ويعرف بها مقدار

قربه أو بعده عن الجادة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء

تركه ما لا يعنيه) [1] .

وهذه وقفات مع معنى هذا الحديث وفقهه وآفاق تطبيقه تصلح لأن تكون معالم

في طريق تزكية النفس وتربيتها.

حديث جامع:

هذا حديث جامع لمعانٍ عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها وامتثالها، وهو من

روائع جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وقد تعددت عبارات الأئمة في بيان

منزلته من الدين، فقال ابن أبي زيد: (جماع آداب الخير تتفرع من أربعة

أحاديث ... ) وذكره منها [2] . وعدّه حمزة الكناني ثلث الإسلام [3] ، وذكر ابن القيم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث [4] ، وقال ابن رجب عنه: (أصل عظيم من أصول الأدب) [5] ، وذكر أبو داود أنه يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث، وذكره منها [6] .

والحديث قاعدة عظيمة فيما يأتي الإنسان وما يذر، وفيه تنبيه على الركن

الأول في تزكية النفس، وهو جانب التخلية بترك ما لا يعني، ويلزم منه الركن

الثاني وهو التحلية بالانشغال بما يعني.

وتزداد الحاجة لفهم مثل هذا الحديث والعمل بمقتضاه في زمن تزاحمت فيه

الواجبات، وتنازعت فيه الأولويات، وصعبت الموازنة.. فكانت الخطوة الأولى

هي تركيز الاهتمام فيما ينفع، وترك كل ما لا يعني، وهي أولوية تربوية ملحّة في

تربية النفس، وفي تربية الآخرين.

دعوة لتحسين الإسلام:

في الحديث بيان أن ترك ما لا يعني من أسباب حسن الإسلام.

(والإسلام عند الإطلاق يدخل فيه الإيمان والإحسان، وهو شرائع الدين

الظاهرة والباطنة.

والمسلمون منقسمون في الإسلام إلى قسمين كما دل عليه فحوى هذا الحديث:

فمنهم المحسن في إسلامه، ومنهم المسيء؛ فمن قام بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو

المحسن [ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا

واتخذ الله إبراهيم خليلا] {النساء: 125} فينشغل هذا المحسن بما يعنيه ...

ومفهوم الحديث: أن من لم يترك ما لا يعنيه فإنه مسيء في إسلامه) [7] .

يرتبط مفهوم حسن الإسلام بمفهوم زيادة الإيمان بالعمل الصالح، ومفهوم

مرتبة الإحسان الذي هو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فيتولد ترك ما لا يعني من مراقبة الله عز وجل [8] .

(وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا

ترك ما لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه) [9] .

ففي الحديث معيار وعلامة يُعرف بها حسن الإسلام من ضده، وأسباب كل

منهما.

فضل حسن الإسلام:

جاءت الأحاديث بفضل منزلة حسن الإسلام، وما يكرم الله تعالى به من

أحسن في إسلامه، ومن ذلك:

1- مضاعفة الحسنات: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله

عليه وسلم قال: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها،

إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها، حتى يلقى الله) [10] .

2- الإثابة على الحسنات التي فعلها قبل الإسلام: كما في أحاديث، منها:

حديث حكيم بن حزام حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلمت على ما

أسلفتَ من خير) [11] .

3- التجاوز عن سيئات ما قبل إسلام المرء: يدل عليه حديث ابن مسعود

رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله! أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: (أما

من أحسن منكم بعد الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية

والإسلام) [12] . وما ثبت من أن الإسلام يجبُّ ما كان قبله من الذنوب

ويهدمها [13] فهو محمول على الإسلام الكامل الحسن؛ جمعاً بين الحديثين [14] .

4- تبديل سيئاته التي عملها وقت كان مشركاً إلى حسنات: يشهد لذلك قول

الله تعالى: [إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم

حسنات وكان الله غفورا رحيما] [الفرقان: 68 - 70] . وظاهر الآية شامل

لتبديل المعاصي بطاعات مكانها يوفقهم الله لها، وشامل أيضاً لتبديل السيئات التي

عملوها نفسها بحسنات يُجزون بها [15] . وكذا حديث الرجل الذي تعرض عليه

صغار ذنوبه يوم القيامة، ثم تبدل حسنات، فيتمنى أن تبدل كبائره كلها حسنات

قائلاً: (يا رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا) [16] . وذلك والله أعلم؛ لأن

صادق التوبة والندم (يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق

من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ذنب من ذنوبه سبباً لأعمال صالحة ماحية

له) [17] . وهذا هو حال الموفقين المهتدين الصادقين في توبتهم، فانظر إلى عمر الفاروق رضي الله عنه لما راجع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، ورأى أنه قد أساء، قال: (فعملت لذلك أعمالاً) [18] ، أي: أعمالاً صالحة أكفِّرُ بها ما فعلت. ومن كانت هذه حاله فإنه كلما كان أكثر إساءة في الجاهلية وكان صادق التوبة كان أكثر إحساناً في الإسلام.

الإعراض عن اللغو صفة الجادين:

وصف الله المؤمنين بالإعراض عن اللغو في غير ما آية، فقال: [والذين

هم عن اللغو معرضون] [المؤمنون: 3] . واللغو: الباطل، وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وكل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال [19] ، والاهتمامات

والشعور [20] . ومن اللغو: الاشتغال بما لا يعني من أمور الناس [21] .

(والإعراض عن جنس اللغو من خلق الجد. ومن تخلق بالجد في شؤونه

كملت نفسه، ولم يصدر منه إلا الأعمال النافعة؛ فالجد في الأمور من خلق

الإسلام) [22] .

أي شيء هو الذي لا يعنيك؟

قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ما لا يعنيه) أي: ما لا

يهمه [23] ، ولا يفيده في دينه ولا دنياه. والشيء الذي يعني المرء هو ما تتعلق

عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال:

(عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه) [24] .

والفعل أصله من (عنى) الدال على (القصد للشيء بانكماش فيه، وحرص

عليه ( [25] .

(وعناه الأمر يعنيه عناية وعُنِياً: أهمَّه. وقوله: [لكل امرئ منهم يومئذ

شأن يغنيه] [عبس: 37] . وقرئ: يَعنيه، فمن قرأ يعنيه بالعين المهملة،

فمعناه: له شأن لا يهمه معه غيره، وكذلك: شأن يغنيه، أي لا يقدر مع الاهتمام

به على الاهتمام بغيره) [26] .

والمرء إنما ينبغي له أن يهتم أصلاً بما به نجاته وخلاصه وسعادته، وذلك

منحصر فيما يجلب له مصالح آخرته، ويدفع عنه مفاسدها، وأيضاً فيما يجلب له

مصالح دنياه، ويدفع عنه مضارها؛ لأن له في صلاح دنياه وسيلة لصلاح آخرته.

وهذا ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرص عليه بقوله: (احرص على ما

ينفعك) [27] .

وما سوى ذلك فإنه لا يعنيه ولا يهمه، وذلك شامل لجميع أنشطة الإنسان

وأعماله، من الأقوال والأفعال، كما هو شامل للمحرمات والمشتبهات والمكروهات

وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها [28] ، وكلها مما يحاول الشيطان إيقاع العبد

فيه متدرجاً من الأشد إلى الأخف.

وما لا يعني قد يكون في أمور الآخرة، كالتفكير فيما يكون عليه حال الأرض

بعد انقضاء الأمر، وهل يخلق الله خلقاً آخرين يكلفون ويبتلون ويُرسَل إليهم رسل؟ فإن هذا مما لا يعني الإنسان [29] .

وما لا يعني أيضاً جزءان [30] : جزء في أمور لا تعني الإنسان ولا تهمه

في أصلها، كشؤون الآخرين وخصوصياتهم في كيفيات معايشهم وجهات تحركاتهم

ومقدار تحصيلهم من الدنيا، وكذا الانشغال بالقصص والوقائع والمشاهدات التي لا

تتعلق بقصد صحيح. وجزء في حاجات تهم الإنسان في أصلها كشؤون المعايش

من الطعام والشراب والمنام والكلام والخلطة والنظر والحركة، وما لا يعني فيها

هو الزيادة فيها على قدر الحاجة، وهو ما يعرف بـ (فضول المباحات) . ...

قال ابن القيم: (قد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة

واحدة، فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، فهذا يعم الترك لما لا يعني من: الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع) [31] .

لذا فإن الذي ينبغي ألا يكون المقياس لمريد الكمال والرفعة في فعله وتركه هو

حصول الإثم أو عدمه؛ فذلك حال يشعر بضعف الإيمان، بل الأنجح له أن يكون

الدافع حصول الأجر وبلوغ مرضاة الله، والدافع إلى تركه عدم ذلك؛ ليكون دائراً

في فلك الإحسان، أو حائماً حوله، ومن كانت هذه حاله فهو من أبعد الناس عن

دائرة الظلم.

الضابط في معرفة ما يعني وما لا يعني:

الضابط في معرفة ما يعني الإنسان مما لا يعنيه هو الشرع المطهر؛ فلا

يجوز أن يكون للهوى دخل فيه [32] .

واليوم يفهم كثير من الناس أن المراد بما لا يعني: شئون الغير على الإطلاق. وهو خلط في المفاهيم، ولبس في فهم المراد؛ فإن من شئون الغير ما يعني

الإنسان مباشرة، ومن ذلك ما كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ

من الخطأ المبين التذرع بمثل هذا الحديث للتوصل إلى ترك هذه الشعيرة العظيمة.

كما أن مما يعني الإنسان بدرجة كبيرة شؤون المسلمين وقضاياهم في أي

صقع كانوا.

نعم إن للآخرين خصوصياتهم وشؤونهم التي لا تعني الإنسان، كأحوالهم في

بيوتهم، ومراكبهم، ومكاتبهم، وأوراقهم، ومتاجرهم، وطرائقهم في العمل

والمعيشة، ومقدار مكاسبهم وأرباحهم، و (رواتبهم) ومدخراتهم، مع مراعاة حقوق

القرابة كالأب مع ابنه، علماً بأن استرسال الأبوين في التدخل في شؤون أبنائهما

المتزوجين خاصة ينجم عنه مفاسد لا تخفى، وهي بالنسبة للتدخل في شؤون البنت

المتزوجة أظهر وأكثر.

حفظ الأبواب الأربعة:

قال ابن القيم: (من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات،

واللفظات، والخطوات. فينبغي أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة،

يلازم الرباط على ثغورها؛ فمنها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار، ويتبر ما

علا تتبيراً ... وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة) [33] .

وكذا انشغاله بما لا يعنيه؛ فإنه يلج من هذه الأبواب، ولذا فلا بدَّ من الوقوف

معها:

أولاً: النظر:

لا غنى للإنسان عن بصر ينظر به طريقه، ويعرف به مكانه، ويدرك به

حاجته، ويتأمل به في خلق ربه.. لكن المتأمل في واقعنا يرى مدى التجاوز بهذه

النعمة العظيمة إلى ما لا يعني، من التوسع في النظر المركز إلى المباحات من

بيوت ومراكب ومتاجر ولوحات.. مما يعيق الناظر عن التقدم [لمن شاء منكم أن

يتقدم أو يتأخر] [المدثر: 37] ويتطلب من الجادين مجاهدة للنفس في تركه

واجتنابه. هذا فضلاً عن المكروهات من النظر للقراءة في غثِّ الكتب والمجلات،

كالقصص الخيالية والبوليسية التي ليس فيها إلا مجرد الاستمتاع النفسي بتصور

الأحداث، وكالزوايا المفرغة من المحتوى المفيد كأخبار الرياضة والفنّ، وأخبار

الكلاب ونحو ذلك. والأشد: النظر في المحرمات والعورات.

ثانياً: الخواطر والأفكار:

باب الخواطر والأفكار من الأمور التي تستحق العناية؛ لما لها من أثر ظاهر

في أقوال المرء وتصرفاته وأفعاله.

وأنفع الخواطر ما كان لله والدار الآخرة، كالتفكير في معاني آيات القرآن

الكريم وفهم مراد الله منه، والتفكير في آيات الكون المشهودة والاستدلال بها على

أسماء الله وصفاته وحكمته، والتفكير في آلائه وإحسانه وإنعامه، والتفكير في

عيوب النفس وآفاتها وعيوب العمل ونقصه، والتفكير في واجب الوقت

ووظيفته [34] .

وما عدا ذلك فإن الواجب ضبط الذهن، وعدم ترك المجال له يسترسل في

الخواطر والشطحات والخيالات الواسعة التي تقلب صاحبها في أودية الدنيا وشعابها، وتنقله من شيء إلى آخر غير أنها لا توقفه على ما يهمه، وهذا شأن التفكير

الفوضوي غير المنظم. أما التفكير المنظم المدروس فهو حاجة ماسة للعبد،

ومطلب ملح للأمة تنتقل به نقلات في طريق الريادة.

ثالثاً: اللسان:

وكما أن الأمور التي لا تعني الإنسان تكون في أفعاله، فإنها تكون في أقواله

أيضاً، فإنها من عمل الإنسان، وهذا ما يغفل عنه أكثر الناس، فلا يعتبرون

أقوالهم جزءاً من عملهم. قال عمر بن عبد العزيز: (من عدّ كلامه من عمله قلَّ

كلامه إلا فيما يعنيه) [35] . بل إن (أكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان

من لغو الكلام) [36] ، يشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من حسن

إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) [37] .

يكفي دافعاً لحفظ ألفاظ المرء قول الله تعالى: [ما يلفظ من قول إلا لديه

رقيب عتيد] [ق: 18] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس

في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلاَّ حصائد ألسنتهم) [38] .

و (حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة؛ بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح

والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم نظر: هل فيها ربح وفائدة أم لا؟ فإن لم يكن

فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل تفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه. وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة

اللسان؛ فإنه يُطْلِعُ على ما في القلب، شاء صاحبه أم أبى ... ) [39] .

وحدّ الكلام فيما لا يعني: أن يتكلم بكلام لو سكت عنه لم يأثم، ولم يتضرر

به في حال ولا مآل، كذكر أخبار الأسفار والوقائع اليومية والأطعمة والألبسة،

وسؤال الغير عن عبادته، وعن مكانه الذي كان فيه، وعن كلامه الذي قاله لفلان.

مما يوقع المسؤول في الحرج أو الكذب [40] .

والواقع أن الإنسان يحتاج قدراً من الكلام بشكل غير مباشر، وذلك ما كان

من باب المباسطة على سبيل التودد لبلوغ مصلحة، أو دفع مفسدة.. لكن لا شك

أنه باب يشق ضبطه إلا على الجادّين الموفقين، وقليل ما هم.

ومن الكلام الذي لا يعني: الزيادة فيما يعني على قدر الحاجة [41] ، وهو

أمر نسبي.

وكلام الأئمة في التحذير مما لا يعني من فضول الكلام كثير جداً.

وسئل لقمان عما بلغ به مكانته، فقال: (صدق الحديث، وطول السكوت

عما لا يعنيني) [42] .

رابعاً: الحركات والخطوات:

إذا نظرت في اهتمامات الناس وأعمالهم تعرف مدى انشغالهم بما لا يعنيهم من

أنواع اللهو والألعاب المسلية، وهوايات جمع الطوابع، والتحف، والنوادر،

والعملات، والمسابقات التافهة، وكتب الطبخ والأزياء، وأسفار السياحة، وتتبع

الأخبار العالمية الدقيقة التي لا تعني إلا أصحابها، وقراءة الصحف والمجلات ...

الهابطة، وجلسات السمر، والدراسات المفرغة من النفع عديمة الجدوى.. ... وغيرها كثير مما قد ينهى عنه لكونه يلهي أو يطغي، ناهيك عن المحرمات الواضحة كمسابقات عارضات الأزياء، وملكات الجمال، وسماع المحرمات والنظر إليها من خلال الشاشات المتنوعة.

حقيقة مرّة.. وتزداد مرارة؛ حيث تنظر في كثير من اهتمامات بعض من

أنعم الله عليه بالهداية، فتراه ما بين اهتمام بدنيا، أو انشغال بما لا يعني! ولهؤلاء

يتوجه الخطاب أولاً بأن يراجعوا أنفسهم قبل نفاد العمر.

قال ابن القيم: (وأما الخطوات: فحفظها بأن لا ينقل قدمه إلا فيما يرجو

ثوابه، فإن لم يكن في خطاه مزيد ثواب فالقعود عنها خير له، ويمكنه أن يستخرج

من كل مباح يخطو إليه قربة ينويها لله، فتقع خطاه قربة) [43] ، وهكذا سائر

حركات الجوارح وأعمال البدن.

قال قتادة: (كان يقال: لا يُرى المسلم إلا في ثلاث: في مسجد يعمره، أو

بيت يُكنُّه، أو ابتغاء رزق الله من فضل ربه) [44] .

وفي أبواب العلم أيضاً أمور لا تعني:

ضمن أبواب العلم ومباحثه ومسائله أمور لا تعني ولا تفيد دارسها في شيء،

ولا تعدو أن تكون ضرباً من إضاعة الوقت والاشتغال عن المهم؛ وذلك ما نبه عليه

بعض أهل العلم محتجين بهذا الحديث.

فالاشتغال بعلم الكلام والفلسفة [45] لم يَجْنِ منه أصحابه إلا كدّ العقول

وإهدار الأوقات وتبديد الجهود وإحلال الفرقة والتناحر، كما صرح كبار ... أساتذتهم بعد عمر طويل، كالرازي والشهرستاني، والغزالي والجويني [46] .

ومن المسائل التي لا تنفع بل لا يجوز الكلام، ولا التفكير فيها: كيفيات ... صفات الله تعالى؛ فإن هذا مما لا يعني في شيء، ولا يمكن أن يدرك بالعقل؛ فإن الله [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] [ {الشورى: 11] .

كذلك من المسائل التي لا تنفع: الانشغال بالبحث عن أسماء وأعداد وأوصاف

أشياء ذكرت في القرآن على عمومها دون تقييد، مثل: تحديد الطيور الأربعة التي

ذبحها إبراهيم عليه السلام، وعدد أصحاب الكهف، وصفة كلبهم، وجزء البقرة

المضروب بقتيل بني إسرائيل ...

ومن المسائل التي ينبغي إيجاز بحثها: مسألة التفضيل بين الملائكة

والأنبياء [47] ، ومسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه [48] ، ومبحث

الروح [49] ، وكل ما كان من قبيل التكلف كالسؤال عن صفة كفتيِّ الميزان [50] ، وكذا المسائل الافتراضية المستحيلة أو النادرة جداً [51] .

وفي هذه المسائل ونحوها من مُلَحِ العلم يقول الإمام الشاطبي رحمه الله

تعالى: (كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي. وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعاً. والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع ُيعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به؛ ففي القرآن الكريم: [يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج] [البقرة: 189] ، فوقع الجواب بما يتعلق به العمل؛ إعراضاً عما قصده السائل ...

وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة: أيان مرساها: [فيم أنت من ذكراها]

[النازعات: 43] ، أي: إن السؤال عن هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من

علمها أنه لا بد منها، ولذلك سئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة فقال للسائل:

(ما أعددت لها؟) [52] ؛ إعراضاً عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة، ولم يجبه عما سأل. وقال تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن

تبد لكم تسؤكم] [المائدة: 101] .. ومن هنا نهى عليه الصلاة والسلام: (عن

قيل وقال، وكثرة السؤال) [53] ؛ لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد..... وقرأ عمر بن

الخطاب: [وفاكهة وأبا] [عبس: 31] ، وقال: (هذه الفاكهة، فما الأبّ؟ ،

ثم قال: نهينا عن التكلف) .

وفي القرآن الكريم: [ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي]

[الإسراء: 85] ، وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يجابوا، وأن هذا مما لا يحتاج

إليه في التكليف) .

ثم ذكر أوجهاً في كون الخوض في هذا النوع من العلم غير مستحسن، ومنها:

أولاً: أنه شغل عما يعني من أمر التكليف بما لا يعني؛ فهو غير مفيد في

أجر أخروي، ولا رزق دنيوي.

ثانياً: أن الشرع بيَّن ما تصلح به حياة العباد؛ فما لم يبينه فلا مصلحة فيه،

بل قد يجر إلى المفسدة، وهذا واقع مشاهد في حال المفترقين الذين أُتِيَ كثير منهم

من قبيل انشغاله بما لا يعنيه.

ثالثاً: أن الاهتمام بالنظر في كل شيء وتطلب عمله من شأن الفلاسفة

المنحرفين.

ثم ناقش الاعتراضات الواردة على هذا الأمر [54] .

ولعل النهي عن الإكثار من السؤال في صدر الإسلام كان ضرباً من التوجيه

إلى ترك ما لا يعني، وسداً للذرائع الموصلة إليه؛ إذ التوجيه إلى الانشغال بما

يعني وبيانه هو مهمة الرسول في البلاغ، وحسْب الإنسان أن يفعل ما يوعظ به.

وهذا باب تربوي ينبغي للمربين العناية به؛ اهتماماً بما اهتم به الشرع.

لماذا الانشغال بما لا يعني؟

إنه يعني بالدرجة الأولى التفرغ من الانشغال بما يعني ويفيد؛ فهذا إنسان

فارغ بطَّال لا هو في أمر دنياه ولا في أمر آخرته، وكفى بهذه رادعاً للعاقل اللبيب

عن الغي والعبث. قال عمر رضي الله عنه: (إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً

{أي: فارغاً} لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة) [55] .

إن اشتغال الإنسان بما لا يعنيه ولا ينفعه إنما يدل في واقع الأمر على جهل

الإنسان بمصالحه، وجهله بحقيقة نفسه وحقيقة الخلق والكون والحياة، أو يدل على

غفلته عن السنن ونواميس الكون، أو يدل على محاولته التهرب من المسؤوليات،

وذلك دليل عجزه وأمارة ضعفه في علاقته مع الله تعالى؛ فإن المؤمن القوي يكتسب

قوته من حرصه على ما ينفعه مع استعانته بالله عز وجل، كما قال النبي صلى الله

عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل

خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز ... ) الحديث [56] .

أما الكلام فيما لا يعني فيبعث عليه أمور [57] :

- الرغبة في معرفة ما لا حاجة له فيه، وهو ما يعرف بـ (حب الفضول) ،

وربما سُوِّغ ذلك فسمي (حب استطلاع) ، وحب الاستطلاع بهذا المعنى مذموم.

- المباسطة في الكلام على سبيل التودد. وهذا إذا كان له قصد صحيح؛

كتأليف القلب وإحلال المحبة ودوام المودة، توصلاً إلى نصيحة أو توجيه أو

تربية.. وإلا كان ضرباً من إضاعة الأوقات. وقد يقع هذا حتى بين الإخوان المجتمعين من غير هدف، كما سماه ابن القيم رحمه الله (اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت) [58] .

- تزجية الأوقات، وقضاء الفراغ الناتج عن ضعف فهم حقيقة العبودية

وغاية الخلق.

للمسلم شغل عما لا يعنيه:

إن فيما كلف به الإنسان شغل شاغل عما لا يعنيه، وعساه أن يقوم به. قال

ابن العربي: (هذا الحديث إشارة إلى أن الإنسان لا يقدر أن يشتغل باللازم؛ فكيف

أن يتعداه إلى الفاضل) [59] ، وقال قتادة في قوله تعالى: [والذين هم عن

اللغو معرضون] [المؤمنون: 3] : (أتاهم والله من أمر الله ما وقذهم عن

ذلك) [60] .

(إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو الهذر.. له ما يشغله من ذكر

الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق.

وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر ويحرك الوجدان..

وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب وتزكية النفس وتنقية

الضمير، وتكاليفها في السلوك ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه

الإيمان، وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصيانة حياة الجماعة من

الفساد والانحراف، وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها والسهر عليها

من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه

منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق

الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة، وهي إما أن تنفق في

هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها، وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو.

والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح.

ولا ينفي هذا أن يروِّح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا

شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ) [61] .

الإنسان مع اهتماماته بين الربح والخسارة:

قرن النبي صلى الله عليه وسلم توجيهه إلى ترك ما لا يعني الإنسان ببيان

علة ذلك وفائدته فهو طريق إلى تحسين الإسلام، وزيادة الإيمان، والترقي في سلم

درجات الكمال ومراتبه التي يُحرَمها من انشغل بما لا يعنيه.

قال الإمام ابن تيمية: (فإذا خاض فيما لا يعنيه نقص من حسن إسلامه،

فكان هذا عليه؛ إذ ليس من شرط ما هو عليه أن يكون مستحقاً لعذاب جهنم

وغضب الله، بل نقص قدره ودرجته عليه) [62] .

كيف لا وقد انشغل بغير ما خلق له، وأضاع وقته فيما لا يقربه من مرضاة

ربه؟ فإن إضاعة الوقت في غير فائدة انشغال بغير العبودية [63] . قال ذو

النون: (من تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه) [64] .

وقال سهل التُستَري: (من تكلم فيما لا يعنيه حُرِم الصدق، ومن اشتغل

بالفضول حرم الورع، ومن ظن السوء حُرم اليقين، ومن حُرم هذه الثلاثة

هلك) [65] .

في حين أن انشغاله بما يعنيه دون ما لا يعنيه يرقيه في درجات الكمال،

ويقربه من مولاه. قال ابن خلدون: (الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في

ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا، أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا ... وإن لم يكن

مهماً علينا ولا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربةً إلى الله، فإن (من حسن إسلام

المرء تركه ما لا يعنيه)) [66] .

وترك ما لا يعني حصن للعبد من المكروهات، فضلاً عن المحرمات؛ فمن

ترك ما لا يعنيه ترك المحرمات من باب أوْلى [67] .

إن تربية النفس على ترك ما لا يعني معين على تركيز الذهن والفكر

والشعور والنظر والقول والعمل في الاهتمامات الواجبة والمستحبة، بدلاً من تشتيته

في أودية وشعاب لا حصر لها؛ فإن السمع والبصر رسولان للقلب ينفذ من خلالهما

الكلام والصور، فتنطبع في القلب وتشغله بتحليلها حتى يمتلئ بالفضول؛ فلا يبقى

فيه مكان لهمّ فاعل مفيد.

بالانشغال بالمفيد ينال الإنسان الحكمة، (قيل للقمان: ما حكمتك؟ قال: لا

أسأل عما قد كُفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني) [68] . وبه يُدرَك الحِلْم. قال

معاوية لرجل: (ما بقي من حلمك؟ قال: لا يعنيني ما لا يعنيني) [69] . وتلك

هي السيادة حقاً، (قيل للأحنف: بِمَ سُدْت قومك، وأنت لست بأنقبهم ولا أشرفهم؟

قال: أني لا أتناول أو قال: لا أتكلف ما كُفيت، ولا أضيع ما وليت) [70] .

إذا كانت هذه سعادة المحيا فإن هذا الأمر مجلبة لسعادة الممات. قال زيد بن

أسلم: دُخل على ابن أبي دجانة وهو مريض، ووجهه يتهلل، فقال: (ما من

عملي شيء أوثق في نفسي من اثنتين: لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي

للمسلمين سليماً) [71] .

أول الطريق:

وختاماً: فإن الأمر ليس باليسير، ومما يُعين عليه:

- استفراغ الوسع في معرفة ما يجب على المرء، والاجتهاد في أدائه: ففي

ذلك شغل شاغل عما سواه. قال شميط العنسي: (من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك

ما لا يعنيه) [72] .

- دوام مجاهدة النفس: قال مورِّق العجلي: (أمرٌ أنا في طلبه منذ عشر

سنين، لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه ... قالوا: ما هو يا أبا المعتمر؟ قال:

الصمت عما لا يعنيني) [73] .

ولا بد من محاسبتها، وربما اقتضى الأمر الزيادة عليها مما يفيدها لتألفه،

ومن السلف من عاقب نفسه في ذلك: (مرَّ حسان بن أبي سنان بغرفة، فقال: متى

بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عما لا يعنيك، لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها) [74] .

- الاستعانة بالله تعالى ودعائه والتضرع إليه ولا بد من ذلك للسالكين؛ فها

هي مالك يوم الدين {الفاتحة: 4} تتلى في كل ركعة، وها هو نبي الهدى صلى الله

عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) [75] .

- دوام مراقبة الله عز وجل: وعظ عطاء بن أبي رباح أصحابه فقال: (إن

من قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمراً بمعروف، أو نهياً

عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد لك منها، أتذكرون أن عليكم

حافظين كراماً كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه

رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس

فيها شيء من أمر آخرته؟) [76] .

ومن استحضر موقف الحساب [يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه.

وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه] [عبس: 34 - 37] وتخيل

حقيقة الإفلاس إلا من عمل الصالحات أخذ الأمر بمأخذ الجد، وتأهب بما يجب.

والله المستعان، وإليه المرجع والمآب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015