في دائره الضوء
د. محمد أمحزون
إن الصراع الذي يميز التاريخ الإنساني وما يزال هو الصراع بين ضروب
العولمة، أو بين الصور النموذجية للإنسان في الحضارات المختلفة.
والمتأمل في الحِقَب أو الفترات المهمة في التاريخ الإنساني يلحظ أنها كانت
عالمية، وتعود إلى من بيدهم الأدوات التي تمكنهم من فرض خواصهم على
الآخرين.
وبهذا المعنى؛ فالعولمة فعل تاريخي متواصل، وهو حصيلة المعركة الجارية
بين العالميات أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة
تحدد المثال الإنساني الأعلى.
وفي هذا الإطار فإن (العولمة) صفة لفعل الإنسان الصانع للتاريخ.
عالمية الدعوة الإسلامية:
إن الإسلام منذ أيامه الأولى كان واضح المعالم بأنه دين عالمي غايته تقديم
رسالة الحضارة الإسلامية بوصفها ضرباً [1] روحياً خلقياً ومادياً لا يتنافى فيه
الدنيوي والأخروي تنافياً انقسامياً يجعل الإنسان ممزقاً بين عالمين: أحدهما تحكمه
القوانين الطبيعية الصماء، والثاني تحكمه القوانين الخلقية العزلاء.
ولقد كان واضحاً كل الوضوح في لغة القرآن المكي عالمية الدعوة الإسلامية
وإنسانية هذا الدين الذي يخاطب الإنسان جنس الإنسان بغضِّ الطرْف عن وطنه
وقومه كما في قوله - تعالى -: [إن هو إلا ذكر للعالمين] [التكوير: 27] ،
وقوله - جل ثناؤه -: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين] [الأنبياء: 107] ،
وقوله - جل ذكره -: [وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا] [سبأ: 28] .
وهذا الخطاب موجه للناس كافة في شتى بقاعهم ومختلف أزمانهم، وبكل
أجناسهم وقومياتهم وألوانهم.
وخلال الحوار الذي دار في بيت أبي طالب بين كبار قريش وبين النبي صلى
الله عليه وسلم قال لهم: (كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها
العجم) [2] أي: كلمة لا إله إلا الله.
وفي مطلع السنة السابعة للهجرة باشر النبي صلى الله عليه وسلم عمله في
المجال العالمي حينما أرسل رسله من (الحديبية) يحملون كتبه إلى ملوك وأمراء
عصره يدعوهم إلى الإسلام، وعلى رأسهم قيصر ملك الروم وكسرى ملك
الفرس [3] .
ثم بدأ بعد ذلك الاحتكاك بالروم البيزنطيين في غزوة مؤتة وتبوك على
مشارف بلاد الشام؛ إذ كانت هذه المنطقة ضمن الإطار الحيوي الاستراتيجي للأمة
الإسلامية.
ولم يلتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى كان العرب
جميعاً قد دانوا بالإسلام، ووضعت الدعوة الإسلامية خطوات ثابتة ومدروسة في
طريق التبليغ العالمي.
وقد ألقيت هذه المهمة الثقيلة على كاهل الخلفاء الراشدين الذين ابتدؤوا
الفتوحات الإسلامية لإنقاذ الشعوب من الاستبداد السياسي والاستغلال المالي والتفكك
الاجتماعي والفساد الأخلاقي.
خصائص العولمة الإسلامية:
لقد انطلقت العولمة الإسلامية من منطلقات فكرية وعملية قوية، مما جعلها
تلقى القبول لدى الأهالي في البلدان المفتوحة وتتجلى خصائصها في أنها:
- تحمل ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات حسب الشريعة الإسلامية.
- تحرص على بناء مجتمع العدل والقوة.
- تنطلق من مبدأ المساواة بين البشر دون اعتبار للثروة والجاه أو اللون أو
العرق.
- تتخذ الشورى أساساً للنظام السياسي.
- تُربّي الناس على الإبداع والإتقان من خلال دعوتها إلى العمران.
- تجعل العلم فريضة على الجميع لتفجير الطاقات الإنسانية لمواصلة التقدم
والرقي.
الملكية العقارية بين الفرس الساسانيين والخلفاء الراشدين:
لنقتصر على نموذج واحد في المجال الاقتصادي لرصد العلاقة بين أشكال
استثمار الأرض الزراعية في العهد الساساني والتحول النوعي في العهد الإسلامي.
لقد كان الفلاحون في سواد العراق أيام الدولة الساسانية يرتبطون بالأرض،
وجلهم في حالة رق واستعباد، خاصة في ضياع الدهاقين والنبلاء، وتروي
المصادر أن هؤلاء دأبوا على جباية الأموال واغتصابها من أصحابها لتدعيم
مدخراتهم وإثراء كنوزهم، حتى يُروى أن (كسرى خسرو) الثاني اعتلى كرسي
الملك وفي خزينته (2. 68) مليون مثقال ذهبي لترتفع بعد ثلاثة عشر عاماً من
الحكم إلى (800) مليون مثقال ذهبي مما دفع الفلاحين إلى هجر الأرض نتيجة
الإرهاق الضريبي، واللجوء إلى الأديرة طمعاً في الترهب وفراراً من الظلم [4] .
ولكن بعد الفتح الإسلامي اعتُبروا أحراراً، واقتصرت السياسة الإسلامية في
عهد الراشدين على إبقاء الأراضي في أيديهم بدافع تشكيل القوى المنتجة من جهة،
وتحديد مساحات تلك الأراضي بهدف ضبطها فنياً واقتصادياً، مما سهل أعمال
جباية الخراج، وأنصف أصحاب الأرض العاملين فيها من جهة أخرى [5] .
تأثير الحضارة الإسلامية في أوروبا المسيحية:
في ضوء الدور الحضاري المتجدد والمتطور للمسلمين خلال العصر الأموي
والعصر العباسي، أمكن للحضارة العربية الإسلامية أن تقدم مثالاً من الكونية
ونموذجاً من العولمة يتسم بالتأثير على أوروبا المسيحية عبر معابر الحضارة في
الأندلس وصقلية ودمشق وفاس وغيرها من الحواضر الإسلامية تأثيراً إيجابياً؛ إذ
لم يحتكر المسلمون المنهج التجريبي الذي اكتشفوه، بل تركوا المجال مفتوحاً أمام
البعثات الطلابية التي كانت تأتي من أوروبا إلى الحواضر الإسلامية لتستفيد من
الاكتشافات الإسلامية في مختلف فروع العلوم: في الكيمياء، والطب، والهندسة،
والطبيعة، والرياضيات، والزراعة، وعلم الاجتماع، والحسبة.. إلخ، كما
ساهمت أيضاً حركة الترجمة عن العربية - التي كانت لغة العصر - إلى اللغات
الأوروبية وخاصة اللاتينية في نقل مناهج المبحث الإسلامي والكثير من نتائجها
العلمية [6] .
التسامح في التعامل مع غير المسلم:
لقد مثَّل الإسلام فتحاً في تقاليد العولمة من حيث التعامل مع غير المسلم؛ إذ
كان المخالف (المُعارض) في أوروبا يُقتل أو يُطرد؛ بينما جاء الإسلام ليقبل الآخر
المختلف معه في العقيدة أو الدين، ورتب له أوضاعاً قانونية وحقوقية تحفظ له
وجوده، وتحفظ له ممارسة عقيدته، ويكفي أن نعرف أن غير المسلمين الذين
عاشوا في المجتمعات الإسلامية قد ازدهرت حياتهم ولم يعانوا أية مشكلة؛ وعلى
سبيل المثال فإن العثمانيين اتجهوا نحو التسامح مع الأقليات الدينية والعرقية،
وتناقل المسيحيون عبارة قالها (لوكاس ناتوراس) الزعيم الديني البيزنطي في
القسطنطينية حيث قال: (إنه خير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا القسطنطينية من
أن نرى فيها تاج البابوية) [7] .
كما كانت الدولة العثمانية ملاذاً للهاربين من الاضطهاد الديني في أسبانيا وفي
أوروبا؛ يقول المؤرخ البريطاني (توينبي) في هذا الشأن: (إنها لأول مرة في
التاريخ استطاعت أن تتوحد الكنيسة الأرثوذكسية في ظل هذه الدولة التي كانت
استراتيجيتها: (وحِّدْ واحْكُمْ) ، بينما كانت الاستراتيجية الاستعمارية تتبنى مبدأ:
(فَرِّق تَسُدْ) [8] .
الاستعمار ووسائل التغريب:
عندما بدأ التخلف يطرق أبواب العالم الإسلامي لجملة من الظروف لا مجال
لذكرها هنا، وأخذت موازين القوى تميل لمصلحة الأوروبيين مع إرهاصات
النهضة، وبدأت أوروبا تسعى إلى تطويق العالم الإسلامي وإضعافه بكل الوسائل،
فلم ينته القرن التاسع عشر الميلادي إلاّ وقد عظم شأن الاستعمار الغربي واستفحل،
وسقطت أكثر البلدان الإسلامية تحت سيطرته أو نفوذه مستغلاً ضعف السلطنة
العثمانية.
لكن الذي ينبغي ذكره هنا هو أن الاستعمار الغربي يدخل في نطاق العولمة
السلبية؛ لأن مهمته كانت تقتصر على استغلال الموارد الطبيعية، وتوفير المواد
الخام لصناعاته، والأيدي العاملة التكميلية، وتأمين سوقٍ مفتوحة لبضائعه. على
أنه كان ينتظر الوقت الذي يستطيع فيه أن يستغني عن القوة العسكرية والتدخل
المباشر ليعتمد في حراسة مصالحه على ما يسميه: (الصداقة) .
وكان منح الاستقلال للمحميات أو المستعمرات بعد المواجهات الدامية وسيلة
تخدم هدفاً مزدوجاً هو: إيجاد التواصل وإنشاء علاقة مستقرة ظاهرها الود والتفاهم
وأساسها حراسة مصالح المستعمر، وتطوير السبل الكفيلة بدعم برامج التغريب
(Westernigation) التي تطمح إلى طبع البلدان المختصة بطابع الحضارة
الغربية [9] .
وقد شمل التغريب كل الميادين، فتغلغل في السلوك الفردي، والفنون
والآداب، والمناهج والبرامج والدراسية والإعلام، والاقتصاد، والقوانين ... إلخ.
على أن العولمة الغربية تتكون من المراحل الآتية:
أ - عولمة التصفية الجسدية: ويدخل ذلك في نطاق ما تفعله القبيلة البدائية
الغالبة بالقبيلة المغلوبة. وهو ما فعله همج الغزاة الأوروبيين في أمريكا من تصفية
جسدية لأصحاب الأرض المحتلة (الهنود الحمر) .
ب - عولمة الاستعباد الرقيقيِّ: وقد كانت تتمثل في ضرورة البحث عن حل
لما يترتب على تلك التصفية باستيراد العبيد من القارة الإفريقية لمن يعتقدون في
أنفسهم تمثيل النوع الأرقى (الرجل الأبيض) .
ج - عولمة الاستعمار الاقتصادي: وكانت تتمثل في ضرورة التوسع دون
تصفية واستعباد، لإيجاد مصادر للمواد الخام، والأيدي العاملة التكميلية، وأسواق
مفتوحة للبضائع.
د - عولمة الاستتباع الحضاري: وتتمثل في جعل المستعمَرين توابع
يفضلون بأنفسهم مستعمراً على مستعمر آخر دون حسبان للمصالح، بل يسعون
لنوع من الاندماج الحضاري في قيم الغالب المفضَّل، وهو ما يمكن أن نسميه:
اقتسام العالم إلى مناطق نفوذ ثقافي.
هـ - والمرحلة الأخيرة هي عولمة التصفية الروحية: عندما يصبح التابعون
يجدون في سيدهم المثال الأعلى؛ بحيث يصبح همهم الوحيد أن يكونوا مثله مع
الاعتقاد بأنهم لن يصبحوا كذلك إلا بنفي كل ما يميزهم عنه، وهو ما يمكن أن
نطلق عليه: (الانتحار الروحي فيسخرون من لغتهم وأدبهم وتاريخهم وقيمهم؛ وهو
ما يعني إبادتهم الحضارية، وهذا الذي أصبح غالباً على جلّ النخب العربية،
وخاصة التابع منها للمافيات الحاكمة الفاسدة المفسدة) [10] .
خصائص العولمة المعاصرة:
جاءت العولمة (Glabolisation) لتكريس توجه الهيمنة ولتفرض أنماطاً
حضارية جديدة في إطار الليبرالية الجديدة، بهدف تقوية الرأسمالية العالمية وخدمة
مصالحها.
وقد جرى استخدام مصطلح: (عولمة) في هذا العِقْد على نطاق واسع،
وتنبع خطورة هذا المفهوم وأهميته من أنه تحوّل كلية إلى سياسات وإجراءات
عملية ملموسة في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية
والإعلامية، وأضحى عملية تطرح في جوهرها هيكلاً للقيم تتفاعل كثير من
الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضه وتثبيته، وقسر مختلف شعوب
المعمورة - وخاصة المسلمين - على تبنّي تلك القيم وهيكلها ونظرتها للإنسان
والكون والحياة.
فما هي العولمة إذن في صورتها المعاصرة؟ ...
إنها ظاهرة تتداخل فيها أمور السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك،
وتحدث فيها تحولات على مختلف الصور تؤثر في حياة الإنسان على كوكب
الأرض أينما كان.
ويسهم في صنع هذه التحولات ظهور فعاليات جديدة هي الشركات متعددة
الجنسيات التي تتسم بالضخامة وتنوع الأنشطة والانتشار الجغرافي والاعتماد على
المدخرات العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المنبثقة عنها
كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي [11] .
وهي وسيلة للهيمنة أو هي نمط من الاحتلال الجديد احتلالاً جدد آلياته
وأساليبه بفعل التقدم التقني، فلم يعد قائماً على احتلال الأرض؛ بل أصبح قائماً
على تحويل العالم كلّه إلى سوق استهلاكية للأفكار والمنتجات الغربية، أو بعبارة
أخرى: فهي تمثل عصا استعمارية جديدة بحكومة عالمية خفية لها مؤسساتها:
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولها أدواتها: الجات، والسبعة الكبار.
والولايات المتحدة - مهندسة هذا النظام العالمي الجديد - أخذت بمساندة
احتكارات الشركات متعددة الجنسيات ودعمها في اختراق مجتمعات عالم الجنوب أو
العالم الثالث، وإخضاع شعوبها لأنماط المعيشة الغربية وتحديداً: الأمريكية.
مجالات العولمة:
عولمة الاقتصاد:
قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها دعت الولايات المتحدة حلفاءها
لمؤتمر عقد في مدينة (بريتون وودز) عام 1944م، للتفكير في الأسس التي
سيدار على أساسها النظام الاقتصادي العالمي.
وقد سيطرت على سير أعمال المؤتمر توازنات القوى التي نجمت عن
الحرب، فكان من البدهي أن تصوغ أمريكا للعالم هذا النظام بما يحقق مصالحها.
وقد تمخص هذا المؤتمر عن ميلاد عدد من المؤسسات تشكل في مجملها
الركائز التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الدولي وهي:
- صندوق النقد الدولي، ويقوم بدور الحارس على النظام النقدي العالمي.
- البنك الدولي: ويعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى.
- الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة والتي تعرف اختصاراً باسم: (الجات) ، التي تمخضت عن إنشاء المنظمة العالمية للتجارة [12] ، وهي الشريك الثالث
لصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي في وضع السياسات العالمية، كما عبّر عن
ذلك مدير عام الاتفاقية (بيتر سذرلاند) [13] .
ويعتبر الهدف الرئيس من الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة تمكين الدولة
العضو من النفاذ إلى الأسواق لباقي الدول أعضاء الاتفاقية، وقيام كل دولة بتثبيت
بنود تعريفاتها الجمركية إلى حدود مقبولة من باقي الأطراف المتعاقدة بالاتفاقية،
بحيث لا يتم تغيير هذا الربط (التثبيت (إلا بعد الرجوع إلى بقية الأطراف
وتعويض المتضررين منها بهذا التغيير [14] .
لكن التفاوت الكبير في القوة السياسية والمنافسة الاقتصادية يجعل بنود
الاتفاقية تصبّ في مصلحة الدول الكبرى؛ فقد أعلنت الولايات المتحدة عزمها على
استغلال حق المطالبة بالتعويض أو فرض العقوبات التجارية في حالة الإخفاق في
الوصول إلى حلّ مع المخالفين.
بل والأخطر من ذلك: أنه لأول مرّة في التاريخ الاقتصادي للأمم تصبح
السياسة التجارية للدول المستقلة شأناً دولياً وليس عملاً من أعمال السيادة الوطنية؛
إذ أصبحت مقيدة بمجموعة من القواعد الملزمة وآليات التحكم الإجبارية؛ حيث إن
منظمة التجارة العالمية تحدّ من قدرة دول الجنوب على التصرف المطلق ضمن
حدودها الوطنية، وتملك حق تشريع قوانين دولية وسلطة قضائية تلاحق الحكومات
التي لا تنصاع لقراراتها، وقوة شرطية تمارس حق التفتيش داخل الدول [15] .
ومن جهة أخرى، فقد وضع الغرب آليات التحكم في الاقتصاد العالمي بناءً
على ثلاثة محاور:
أولها: النظام النقدي العالمي:
من خلال هيمنة الدولار الأمريكي على وسائل الدفع العالمية؛ حيث يمثل
وسيلة الدفع العالمية المقبولة التي حلّت محل الذهب لتغطية إصدارات معظم عملات
الدول، وبخاصة دول العالم الثالث. وتتحكم في هذا النظام المؤسسات المالية
الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بوضع السياسات النقدية التي تخدم
هيمنة رؤوس الأموال الغربية على اقتصاديات دول الجنوب والكتلة الشرقية بعد
انهيار المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا بزعامة الاتحاد السوفييتي [16] .
ثانيهما: التحكم في حركة رؤوس الأموال:
من خلال أسواق المال العالمية التي تتركز في الولايات المتحدة بالدرجة
الأولى، وأوروبا بالدرجة الثانية، واليابان بالدرجة الثالثة، وهذه الحركة لرؤوس
الأموال تتم السيطرة عليها من خلال السياسات التي تضعها المؤسسات المالية
الأمريكية التي تتحكم بدورها في المؤسسات المالية الأوروبية واليابانية من خلال
تملّكها لمعظم أسهم تلك المؤسسات.
ومن أجل ذلك نجد الدعوة التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية بتشجيع
التخصيص، وبالسماح لرؤوس الأموال الأجنبية بتملك أسهم الشركات والسندات
التي تصدرها الحكومات المحلية، ما هي إلا وسيلة لتحقيق الهيمنة الاقتصادية
الغربية على اقتصاديات تلك الدول [17] .
وقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من الولايات المتحدة بإجبار دول العالم الإسلامي
على إعادة هيكلة اقتصادياتها وفقاً لهذه السياسة الليبرالية، فاتجهت هذه الدول إلى
الخارج لجذب رأس المال الأجنبي، وتبني مفهوم القطاع الخاص من خلال استخدام
آليات السوق الحرة، وما يتطلبه ذلك من تحجيم واضح للملكية العامة وزيادة
الفوارق الاجتماعية، ورهن أجيال المستقبل بالديون الخارجية.
ثالثها: الشركات متعددة الجنسيات:
وهي تمثل أهم مظاهر عولمة الاقتصاد، والإحصاءات الآتية توضح مدى
خطورة تمركزها الرأسمالي:
- إن إيرادات أكبر خمسمائة شركة في العالم بلغ في عام 1994م نحو (?)
تريليون و (254) مليار دولار، أي ما يقارب نصف الناتج المحلي الإجمالي لدول
العالم في سنة 1993م.
- إن مبيعات أكبر 200 شركة تجاوزت مداخيل اقتصاديات (182) دولة ما
عدا أكبر [9] دول؛ فقد وصل دخل (182) دولة إلى مستوى (6. 9) تريليون
دولار، بينما وصلت مبيعات أكبر (200) شركة إلى (7. 1) تريليون دولار.
- إن حجم المبيعات لأكبر ثلاث شركات متعددة الجنسيات (إكسون، شل،
موبيل) عام 1980م فاق حجم الإنتاج الوطني الإجمالي لكل دول العالم الثالث عدا
سبع دول: (الصين، البرازيل، الهند، المكسيك، نيجيريا، الأرجنتين،
أندونيسيا) .
- في عام (1996م) تعدى حجم المبيعات السنوية لأكبر (?) شركة (67)
مليار دولار.
أما بالنسبة لكل شركة على حدة:
- فليب مورس التي احتلت المركز (69) ؛ فإن حجم مبيعاتها تجاوز حجم
اقتصاد نيوزيلندا، ولها فروع في (170 دولة) .
- متسوبيشي: المركز (?) : حجم نشاطاتها الاقتصادية أكبر من حجم
النشاط الاقتصادي لأندونيسيا التي تحتل المركز الرابع على المستوى العالمي من
حيث تعداد السكان.
- جنرال موتورز: المركز (?) : أكبر من الدانمارك في حجمها الاقتصادي.
- فورد: المركز (?) أكبر من جنوب إفريقيا اقتصادياً.
- تويوتا: المركز (36) : أكبر من النرويج في نشاطها الاقتصادي.
وجدير بالإشارة أن مجال عمل هذه الشركات تجاوز الميدان الاقتصادي إلى
العمل على التأثير في القرارات السياسية وثقافة الناس وطرائق عملهم، مما جعل
كثيراً من الاقتصاديين والمهتمين بظاهرة هذه الشركات يخلُص إلى أنها نوع من
الاستعمار بأسلوب يناسب وعي الشعوب وتطورها.
وكانت طموحاتها التجارية محفوفة بالنتائج الدبلوماسية العالمية في عقود
الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، ونذكر على سبيل المثال: الدور الذي قامت
به الشركة الأمريكية [14] في أحداث 1972م في الشيلي التي أدت إلى سقوط نظام
(سلفادور إلَّندي) ذي التوجه الماركسي، أو العمل الذي قامت به (رضي الله عنهritish
feroling) عام 1953م في إسقاط حكومة (مصدق) في إيران حين أمّم مصافي
النفط وآباره.
وفي عام 1997م شاركت (إلف الفرنسية) التي تسيطر على ثلثي إنتاج النفط
في الكونغو في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب (باسكال ليسوبا) ؛ لأنه أراد
كسر عملية الاحتكار التي تقوم بها (إلف) بالتفاوض مع شركات النفط الأمريكية.
بل في بعض البلدان كنيجيريا، فإن شركة النفط (شل) هي الحكومة الفعلية؛
ففي مقابلة مع (د. أوين سراويو) شقيق (كن سراويو) الذي أعدمته السلطات
النيجيرية بسبب انتقاده لشركة (شل) ، سألته مجلة (ملتنشيونال مونتر) في عددها
الصادر في يوليو 1996م السؤال الآتي: إذن (شل) هي التي تحكم وليست
الحكومة؟ فأجاب: نعم (شل) بطبيعة الحال هي التي تحكم فعلياً، هذا معروف جداً
(أي في نيجيريا) [18] .
ويقول (بيير أوجين) رئيس منظمة الشفافية العالمية، وهي منظمة تهتم
بمراقبة الفساد المالي والإداري على المستوى العالمي: (إن نسبة كبيرة من الفساد
المنتشر في دول العالم الثالث هي من صنع الشركات المتعددة الجنسيات التي تتركز
مقارها في الدول الصناعية، وتعمل على تقديم رشاوى كبيرة لمسؤولي الدول
المختلفة من أجل الفوز بالصفقات) [19] .
العولمة الإعلامية والثقافية:
لقد تطور الإعلام بدرجة أدت إلى غزو جميع ميادين الأنشطة البشرية؛ حيث
وُجدت بنيً أساسية عالمية تنتشر وكأنها نسيج عنكبوتي يمتد عبر العالم أجمع،
مستفيداً من التقدم الحاصل في تقنية الرقميات وثورة المعلومات، ومن التداخل
الحاصل بين قطاعات الاتصال والهاتف والتلفاز والحاسوب وشبكة المعلومات
الدولية (إنترنت) .
ونظراً للترابط القوي بين عولمة الثقافة ووسائل الإعلام، فإن الإحصاءات
تشير إلى أن الاتصالات اللاسلكية تمثل سوقاً تُدرّ (525) مليار دولار سنوياً، وأن
هذه السوق تزداد بنسبة 8 إلى 12% سنوياً.
ففي عام 1985م بلغ الوقت الذي استهلكه مستخدمو الاتصالات في العالم على
شكل إرسال معلومات أو حديث أو فاكس (?) مليار دقيقة. وفي عام 1995م بلغ
(60) مليار دقيقة [20] .
ولأهمية قطاعات الاتصال في نشر وترويج أنماط معينة من الثقافة، قامت
الولايات المتحدة بوضع ثقلها كله في معركة تحطيم الحواجز لتصبح الاتصالات
قادرة على الانتقال دون عوائق تُذكر عبر العالم كلّه، كالريح فوق صفحة
المحيطات.
ومن أجل ذلك انعقدت أربع مؤتمرات دولية (جنيف 1992م، بيونس أيرس
1994م، بروكسل 1995م، جوهانسبورج 1996) نجح خلالها الأمريكان من
تسويق فكرتهم حول: (مجتمع المعلومات العالمي) والضغط لفتح حدود أكبر عدد
ممكن من البلدان أمام التدفق الحرّ للمعلومات [21] .
ولعل هذا هو ما حدا بباحث من وزن (نعوم تشومسكي) الأكاديمي الأمريكي
المعروف أن يقول: (إن العولمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في تاريخ الإعلام
تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف أي على العالم كله) [22] .
ونلاحظ هذا من خلال قطاع الاتصالات الثقافية للنظام العالمي الذي أخذ
يتطور طبقاً لتدفق المعلومات من منطقة المركز - الولايات المتحدة؛ أول منتج
للتقنية الحديثة - إلى الأطراف - دول العالم الثالث خاصة - وهو ما يؤيده انتشار
لغة بمفردها هي اللغة الإنجليزية.
وفي هذا الإطار عبّرت دول متقدمة داخل المنظومة الحضارية الغربية نفسها
مثل: فرنسا، وكندا (مقاطعة كيبيك) عبرت عن التوجس الشديد من المخاطر
الناجمة عن الهيمنة الأمريكية على الإعلام والثقافة تحت ستار العولمة؛ إذ إن
وسائل الإعلام الأمريكية تسيطر في الواقع على 65% من مجمل المواد والمنتجات
الإعلامية والإعلانية والثقافية والترفيهية، بل إن فرنسا تقاوم سيطرة اللغة
الإنجليزية على شبكة الإنترنت؛ وذلك لأن 95% من حجم تداول المعلومات
والاتصالات على الإنترنت باللغة الإنجليزية، في حين أن 2% فقط باللغة الفرنسية.
وفي هذا الصدد يقول وزير العدل الفرنسي (Jack tobon) : (إن الإنترنت
بالوضع الحالي شكْل جديد من أشكال الاستعمار، وإذا لم نتحرك فأسلوب حياتنا في
خطر) [23] .
ولذلك رفعت فرنسا خلال مناقشات ثقافة (الجات) الأخيرة شعار: (الاستثناء
الثقافي) .
وفي المقاطعات الكندية بلغت الهيمنة الأمريكية في مجال تدفق البرامج
الإعلامية والتلفاز إلى حدّ دعا بعض الخبراء إلى التنبيه إلى أن الأطفال الكنديين
أصبحوا لا يدركون أنهم كنديون لكثرة ما يشاهدون من برامج أمريكية [24] .
ولعل تمكُّن الولايات المتحدة من تدعيم هيمنتها على العالم عبر قدرتها على
التحكم في المنظومات المعلوماتية وتقنيات الاتصال هو ما دفع الباحثين إلى التعبير
عن العولمة أنها: (أمركة) ؛ إذ تستهدف بشكل خاص إشاعة وتعميم وتسييد
أسلوب الحياة الأمريكية وقيمها من خلال:
1 - قرية المواصلات الأمريكية.
2 - وحدة السوق الأمريكية.
3 - حضارة الاستهلاك الأمريكي.
4 - وحدة النمط المعيشي.
5 - الديمقراطية الأمريكية [25] .
وهذا التصور يعبر عنه بوضوح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بقوله: (إن
أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً
مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا) [26] .
وتنبع خطورة عولمة الإعلام من كونها وسيلة للسيطرة على الإدراك وتسطيح
الوعي وتنميط الأذواق وقولبة السلوك، وهدف ذلك كلّه هو تكريس نوع من
الاستهلاك لنوع معين من المعارف والأفكار والسلع تشكل في مجموعها ما يطلق
عليه د. محمد عابد الجابري: ثقافة الاختراق.
ونختم هذا الحديث عن العولمة الإعلامية والثقافية بكلام أحد الباحثين الغربيين
في كتابه: (تغريب العالم) ينقل لنا فيه كيف تتم عملية الغزو الثقافي في بلدان
العالم، يقول: (ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية،
يتدفق على شكل صورة.. كلمات ... قيم أخلاقية، قواعد قانونية ... مصطلحات
سياسية ... معايير ... كفاءة ... ينطلق كل ذلك ليجتاح بلدان العالم الثالث من خلال
وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتلفزيونات، وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية، ينطلق عبر سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات
العالمية الأربع: أسوشيتدبريس ويونايتدبريس (الولايات المتحدة) ، رويتر
(بريطانيا) ، وفرانس بريس (فرنسا) ، وتسيطر الولايات المتحدة على (65%) من
تدفق هذه المعلومات.
هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين - أو بتعبير
اخر: الأسرى السلبيين - يشكل أنواع سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط
حياتهم، وبذلك تذوب الهويات الذاتية في هذا الخضمِّ من الغزو؛ لأن مواد الغزو
تُصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعينة) [27] . ومن المؤكد أن
المستهدَف خاصة بهذا الغزو الثقافي هم المسلمون: العرب منهم خاصةً،
والمسلمون عامة، وذلك لعاملين اثنين:
أولهما: ما تملكه بلادهم من مواد أولية هائلة يأتي على رأسها النفط والغاز
وثروات طبيعية أخرى.
ثانيهما: ما ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن هذه الأمة
مستعصية على الهزيمة إذا حافظت على هويتها الإسلامية، ومن ثم فالطريق الوحيد
هو القضاء على تفرد شخصيتها وإلغاء دينها الذي يبعث فيها الثورة والرفض لكل
أشكال الاحتلال والسيطرة.
العولمة الاجتماعية:
تتحدد معالم هذه العولمة ومظاهرها من خلال مؤتمرات دولية كان الغرض
منها تأطير الأنماط السلوكية الشاذة التي تتعارض مع الفطرة الإنسانية ونشرها،
والتسلُّل لاحتواء موارد الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية الغربية.
ففي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1994م عُقد في القاهرة المؤتمر العالمي
للسكان والتنمية، وفي شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1995م عقد في بكين مؤتمر
المرأة، وفي شهر يونيو (حزيران) 1996م انعقد في إستانبول مؤتمر الإيواء
البشري.
وهذه المؤتمرات أطَّرتها منظمة الأمم المتحدة، وهي الذراع التنفيذي
لمخططات الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا.
وإن كانت الشعارات التي دأبت الأمم المتحدة على رفعها وفق دعايتها هي
تحسين أوضاع العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والاجتماعية، لكن حقيقة
الأمر بخلاف ذلك؛ بل إن هذه المؤتمرات أداة ووسيلة تستخدمها الليبرالية الجديدة
للسيطرة على العالم فكرياً واقتصادياً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي، واستبعاد
الجوانب الأخلاقية في السلوك الاقتصادي وفق منظور خاص يخدم مصالحها
الأيديولوجية والاقتصادية.
على أن الإجراءات التنفيذية التي رسمتها هذه المؤتمرات تدل دلالة واضحة
على ذلك؛ ففي مؤتمر الإيواء البشري في إستانبول تم الاتفاق على مجموعة من
الالتزامات تتضمنها وثيقة المؤتمر منها:
أ - التأكيد في البنود رقم: 140، 147، 150 من الوثيقة على ربط
(السلطات المحلية) بالسوق المالي الدولي، ومؤسسات الإقراض الخاصة بالشؤون
البلدية، مع العمل على توفير البنية التي تسمح للاقتصاد الدولي بالنمو والمساهمة
في بناء البنية التحتية لمشاريع الإيواء وتكوين المراكز الحضارية [28] .
ب - تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية،
وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزالة جميع
العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري (البند رقم 56 من
الوثيقة) [29] .
ج - توسيع نظام الإقراض، وتمكين المؤسسات المالية العالمية من التغلغل
في دول العالم الثالث من خلال عمل شبكة من البنوك، وربط تمويل توفير المباني
والبنية التحية لمشاريع الإسكان بالإقراض الخارجي (البند رقم 30) [30] .
ويتضح من خلال هذه البنود أن ما يحصل من أساليب إجرائية متعددة
الأشكال لحل مشاكل اجتماعية واقتصادية هو تمكين لمراكز النظام الرأسمالي من
إعادة احتواء دول العالم المتخلفة وإعادة امتصاص قواها طبقاً لمنطق تراكم رأس
المال في تلك المراكز. والأخطر من ذلك أن هذه الإجراءات تؤدي حتماً إلى تآكل
السيادة الوطنية التي تعدّ عاملاً كبيراً من عوامل تميز الهوية القومية للشعوب والأمم.
والحقيقة التي يجب أن تُذكر هنا هي أن هذه الأوضاع الجديدة ستعمق الهوة
بين الفئات الاجتماعية وتزيد من معاناة الفقراء والمعوزين في مجتمعاتنا، ذلك أن
آليات السوق التي تقوم عليها الفكرة الأساس للرأسمالية أو الليبرالية هي: أن من لا
يستطيع كسب قوته يجب أن يموت؛ فهناك أصوات في الغرب تنادي بأن المليار
من فقراء العالم الثالث زائدون عن الحاجة؛ وعليه فلا مسوِّغ لوجودهم ولا حاجة
إليهم ضمن مفهوم فلسفة: البقاء للأقوى.
ولذا نجد الدعوة المستمرة لتغيير مفهوم الأسرة، والدعوة إلى الإجهاض،
وقتل العَجَزة، وغير ذلك من الدعوات غير الأخلاقية وغير الإنسانية التي ما هي
إلا نتيجة العبثية الرأسمالية العلمانية [31] .
أما في مجال الأسرة التي تعدّ النواة الرئيسة لبناء المجتمع فنجد أنفسنا في
مؤتمر بكين للمرأة أمام توصيات تدعو إلى نشر التعليم الجنسي، وإدماج كل أشكال
الانحراف من الزنا إلى الشذوذ لتصبح أوضاعاً طبيعية [32] .
وقد تم تعبيد الطريق لهذه التوصيات لتتحول إلى قرارات ملزمة في مؤتمر
الإيواء البشري الذي انعقد بعد ذلك بسنة في إستانبول؛ حيث ينص البند رقم (?)
من وثيقة المؤتمر على شمول الإيواء لمختلف أشكال الأُسَر؛ والمقصود من ذلك
منح الشاذين جنسياً الذين يكوِّنون فيما بينهم أُسَراً، وتلك الأشكال من العلاقات بين
الرجال والنساء الذين لا يرتبطون بعلاقات شرعية منحهم جميعاً مساكن
للإيواء [33] .
وفي الختام أقول: إن أخطر أنواع العولمة هي تلك (العولمة الطوعية) التي
يدخل فيها الفرد باختياره وبملء إرادته؛ إذ توجد عولمة لا شعورية تلقائية يصل
فيها المرء باختياره إلى الانهزامية والاستلاب في مواجهة النموذج الغازي، ولعل
ذلك هو ما يقرره ابن خلدون في (مقدمته) أن المغلوب مولَع بتقليد الغالب.
لذلك ينبغي أن نفرِّق بين هزيمة الجيوش في ساحة المعارك، وانكسار الأمم
والشعوب في مجال الأفكار والقيم؛ إذ إنّ الأولى في بُعدها العسكري هي تعبير عن
طبيعة الحروب؛ فالمعارك ما هي إلا كرّ وفرّ وفقاً للسنة الإلهية: [وتلك الأيام نداولها بين الناس] [آل عمران: 140] . أما انكسار الأمم وهزيمة الشعوب النفسية فهي قاصمة الظهر.
ولعلّ ذلك ما علمتنا إياه تجربة التاريخ في حروب الفرنجة: (الحروب
الصليبية) ؛ فعلى الرغم مما حققته تلك الحروب خلال غزواتها المتعددة ومكوثها
في بلادنا بين القرنين السابع والتاسع للهجرة الموافق للقرنين الثاني عشر والثالث
عشر للميلاد، فقد استطاعت تلك الحملات الهمجية أن تُعمِلَ السيف في رقاب مئات
الألوف، واستطاعت أن تمزق وتجزِّئ وتفسد في الأرض الإسلامية، ولكن الشيء
الذي لم تستطع أن تفعله هو تخريب النمط العقدي والفكري والاجتماعي والحضاري
ذي الطابع الإسلامي للبلاد؛ وهو الأمر الذي أبقى السلطة الفرنجية خارج المجتمع، على الرغم من أن حربها وسيوفها تغلغلت في داخل المجتمع الإسلامي.
لقتد أثبتت تلك التجربة أن الإسلام حين يبقى في قلوب الناس وفي شرايين
حياتهم يشكل حالة مقاومة مستمرة تجعل الاحتلال أمراً مرفوضاً ومؤقتاً مهما بلغت
سطوته ووصلت درجة قوته.
ولعل هذا ما يفسر موقف نابليون حين اجتاح مصر بجيوشه؛ فقد وجد نفسه
في وجه (صَدَفَة مغلقة) لم يستطع أن ينفذ إلى داخلها، ولهذا تظاهر بإعلان إسلامه
كذباً حتى يجد له مكاناً في الداخل ليجعل حكمه أمراً قابلاً للاستثمار.
وهكذا كل محتل في ظل العولمة لا بد له من تحطيم مقومات المجتمع الأصلي
(ثوابت، مبادئ، قيم) ثم استحداث مجتمع آخر مكانه يحمل الرؤى الحضارية
نفسها؛ وذلك لأن الهمينة الكاملة غير ممكنة ما لم تُحطَّم المقومات العقدية
والحضارية، وتحلّ محلها مقومات التبعية من خلال إقامة المجتمع الاستهلاكي
التابع، وبذلك تدخل الشعوب في مضمار العولمة الطوعية، وهي أخطر أنواع
العولمة [34] .
ومما لا ريب فيه أنّ المخرج من هذه التبعية التي تكرسها العولمة يوماً بعد
يوم ينحصر في أمرين:
الأول: هو استعادة الوعي بالهوية الإسلامية، وتحصين العقل المسلم من
الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ والأصول الثابتة التي
لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات وتدمير البنية التحتية العقائدية
والفكرية التي تحفظ للأمة تحصينها واستقلالها، علماً بأن الهوية تعتبر الآن عنصراً
هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول في إدارتها للصراع والتنافس مع الدول
الأخرى.
والمطَّلع على خطط الدول سواءاً الأمنية أو التنموية يلحظ أن مسألة الهوية
تحظى بعناية خاصة؛ لأنها خط الدفاع الأول عن ذاكرة الأمة ولغتها وتاريخها
وقيمها الحضارية.
والثاني: الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال نقل التقنية وعلوم
الوسائل حرصاً على امتلاك القوة في المجالات الاقتصادية والإعلامية والعسكرية
لدعم التنمية الشاملة في بلادنا، وذلك بالربط المباشر بين السياسات الفعلية
والتربوية وبين سياسات التنمية الشاملة في تلك القطاعات، لتفجير الطاقات الكامنة
في المجتمع.
فالتقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو
بعبارة أخرى بين الثابت والمتغير: ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن اللغة والتاريخ
وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر مع خلق
المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.
والنموذج الآسيوي (خاصة الياباني) خير مثال على ذلك؛ فاليابان بدأت
الطريق إلى التقدم ببناء الإنسان أولاً، ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاتها
وضروراتها، وليس بالنسبة لكمالياتها وشهواتها. فالفارق العظيم بين صلة اليابان
بالحضارة الغربية وبين صلتنا بها: أن اليابان وقفت من الحضارة موقف التلميذ،
ووقفنا منها نحن موقف الزبون! إنها استوردت منها الآليات والوسائل بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص.
والأمة العربية الإسلامية إذا أرادت التقدم ورغبت أن تدخل حلبة السباق
الحضاري فإنه لا سبيل لها إلا أن تقف هذا الموقف المتوازن، فتستفيد مما عند
الغرب من تقدم مادي وعلمي، وفي الوقت ذاته تحذر من الذوبان في شخصية
الغرب وهويته، وتتفاعل مع قيمها وهويتها الإسلامية.