متابعات
مروان كجك
تتعاظم آثار الإعلام التلفزيوني يوماً بعد يوم؛ تبعاً لتعاظم الشبكة الفضائية
التي غدت من أكبر مشاغل الناس، ومن أعظم همومهم. وإذا كانت جموع
المؤمنين ترفع أكفها إلى السماء ليسقيها ربها ماءاً غدقاً فإن أكثر مَنْ في الأرض
يُرهفون أسماعهم، ويوسِّعون حدقات عيونهم، ويُبيحون حِماهم لاستقبال رسائل
مستعمري الفضاء التي لا يحمل أكثرها إليهم إلا ما يؤدي إلى عبودية الإنسان
للإنسان، واستغلال الأقوياء للضعفاء، والأغنياء للفقراء، وسيادة الكذب، وتواري
الصدق، والدعوة للإسراف في كل شيء إلا الخير.
وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في هذا الجهاز المتربع على عرش الإعلام
بكل أبعاده ومقاييسه وأخطاره، تحذيراً للغافل وتعليماً للجاهل، وبياناً للحق في هذه
المسألة التي تشغل أذهان الآباء والمربين وقلوبهم وهم يرون ما لهذا الجهاز من
السيطرة على عقول الناشئة، وما له من الآثار على الشخصية السوية والمسلمة
منها خاصة وهي الشخصية التي نرجو لها أن تسود العالم بما تحمله من الأهداف
النبيلة التي يشمل خيرها الصديق والعدو، والإنسان والحيوان، والنبات والجماد.
وإن التطور المذهل في وسائط الاتصال وآلياته وأساليبه يستدعينا - نحن
المسلمين - أن نسارع إلى استدراك ما فاتنا من هذا التطور الذي ارتضينا أن نكون
من زبائن تُجَّاره ورعايا فُجَّاره، وكأن هزيمتنا وخضوعنا لأعدائنا على وجه
الأرض لم يكفنا حتى غدونا عبيد الفضاء وأذلاء الأثير، حتى إننا أجَّرنا قمرنا
(عرب ساتنا) لـ (ألدِّ أعدائنا) ولم يعد لنا من حول ولا طَوْل إلا أن نقول بألستنا ما
لا نعقده في قلوبنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وكأننا نرائي الله بأقوالنا كما يرائي
بعضنا بعضاً؛ واللهُ يعلم أن قولتنا هذه لا تجاوز حناجرنا، ولو علم الله منا صدقاً
في الإيمان بمدلول هذه الكلمة كما يقتضيه لسان العرب لانتصر لنا من أعدائنا.
إن استخدامات التلفزيون، في صورته الراهنة، ومن خلال المؤسسات
العالمية التي تمارس التوجيه المشبوه من خلاله، تشكل عقبة تؤثر في العملية
التربوية المنوطة بالأسرة والمدرسة والمجتمع، وتنحرف بالعملية التربوية عن
مسارها الطبيعي وتقود المجتمع نحو الهاوية.
ولعلّ الدراسات المستفيضة التي قامت في السنوات الأخيرة حول الآثار
السلبية للتلفزيون تدعونا - نحن المسلمين - أن نكون أول من يتنبه وينتصب
ليدافع عن حضارته وهويته، ويسد المنافذ على المفسدين الذين لا يرون في جموع
البشر - ومنهم المسلمون - غير مجموعات استهلاكية لبضاعتهم الفكرية والتجارية، أو فئران تجارب تخضع لاختبارات التأثير المباشر لغاياتهم وأهدافهم.
إن الأضرار الناجمة عن كثير من برامج التلفزيون مؤكدة تحمل البراهين
الدالة على أنه - بما وراءه من أهداف - يُستخدم ليكون مِعْوَل هَدْمٍ وأداة تراجع في
المفاهيم الإنسانية النبيلة. ولو لم يكن لهذا الجهاز من الآثار الضارة - فيما يقدمه -
إلاّ ما يقع منها على أطفالنا لكان ذلك كافياً لكل أب عاقل وأم رؤوم أن يختطفا
أبناءهما من بين أيدي المحطات الداعرة حرصاً على إنقاذ فلذات الأكباد من مجونٍ
إعلامي عاهر يضع المثل الأعلى لأطفالنا في ممثلين وممثلات أجَّروا أنفسهم
لوكالات العهر والتخريب، أو في شخصيات خيالية غير مقبولة شرعاً ولا عقلاً
تبني شخصيات أبنائنا على تقبُّل صُوَرِ الزيف والباطل، وتقودهم إلى مسارب الذل
والهوان، فلا يرون في الصَّغار إلاَّ عظمةً، ولا في الذل إلا عزاً، ولا في التخلُّف
إلاّ تقدماً.
إن أباطرة الإعلام وهم يتربعون على عرش التوجيه الثقافي والروحي لعصرٍ
سمِّي في إصداره الأحدث: (النظام العالمي الجديد) هؤلاء الأباطرة لا يتورعون
عن اتباع شتى الأساليب التي تضمن لهم عالَماً يُساق إلى الذل في موكب خادع ماكر
يأخذ بتلابيب الجميع من غير رحمة أو شفقة أو تأثر بأي معنى من معاني الإنسانية
الفطرية.
إن ساعة زمنية من ساعات البث التلفزيوني تحتاج إلى تكاليف باهظة يعجز
عن تسديدها كثيرٌ من حكومات العالم الفقيرة؛ ومع ذلك فإن أفراداً بأعيانهم - وكثير
منهم من اليهود - يمتلكون محطات عالمية ومحلية للإرسال التلفزيوني يبذلون في
سبيلها كثيراً من الأموال قد تبلغ الملايين من الدولارات؛ مما يتيح لهم تسخير
مختلف أنواع الأقمار الصناعية واستخدامها للَّعب بأهواء الشعوب واجتذابها بشتى
صنوف البرامج الجادة منها والهازلة، ولكنها في النهاية تتوجه إلى ترقيص الجميع
على إيقاعها الإلكتروني ومشاهدها الساحرة، محرِّكةً للغرائز الشهوانية لتكتب ولو
سطراً واحداً على قلوب مشاهديها الذين لا يدرون أن هذا السطر قد داخلهم فعلاً
دون أن يحسوا له دبيباً!
نعم! إن قطاعات عريضة من شعوبنا الإسلامية قد أدركت اللعبة قبل غيرها؛ وإن كنا نعلم أن بُؤَراً اجتماعية في الغرب نفسه قد أفزعتها هذه المحطات التي لا
تفرق في استعبادها للبشرية بين غربي أو شرقي أو مسلم أو نصراني؛ فالكل في
نظرها قطعان تستهلك الطعام والجنس تقايضه بحريتها وكرامتها دون أن تتاح لها
الفرصة للتفكر أو إعادة النظر في مجريات حياتها؛ فالزخم الإعلامي غامر،
والجدران الحصينة تنشق وتتفجر ليطل من خلالها على العالم مواليد إعلامية جديدة
تتيح للُّصوص والمنحرفين والشواذ السطو على البيوت والمنتديات؛ ولا أدل على
ذلك من شبكة الإنترنيت التي لن تكون آخر صيحة ولا نهاية مطاف لما يتفتق عنه
العلم، وما إن يظهر جيل من أجيال الكمبيوتر أو المستحدثات الأخرى حتى يظهر
جيل آخر أكثر تقدماً وأعظم خطراً؛ بل إن شركات الكمبيوتر تُعِدُّ دفعة واحدة
أنواعاً من هذه الأجهزة المختلفة في قدراتها والتي يلغي بعضها بعضاً فتسربها إلى
السوق الواحد تلو الآخر بحسب قدراتها ومواصفاتها؛ بحيث يندفع الباحثون عن
الجديد والأحدث إلى اقتنائها والفوز بقصب السبق في عالم متغير مع كل نقلة
لعقرب الثواني في عصر العولمة الجديد.
وأضع أمام ناظِرَيِ القارئ الكريم خبرين طازَجين يدعوان إلى إعادة النظر
في معالجة مسألة الإعلام المرئي المسموع واستنفار أصحاب الغيرة في الأمة من
علماء الدين، والعلماء الاختصاصيين، والمربين الغيورين، وأهل الأموال
الخيرين، وأصحاب الخبرة التربوية والإعلامية والدعاة المرهفين إلى المبادرة
الجادة مجتمعين ومنفردين للعمل الجاد لملاقاة هذه المداهمات والتصدي لمخاطرها،
والإفادة من إمكاناتها في التوجيه الصحيح والبناء الصالح للفرد والجماعة، وألا
نضع أنفسنا في مواقع التوجس منتظرين كشف الكاشفين؛ فإذا العالم كله يتقدم
ويقوى ونحن على حالنا منتظرين حالمين مستهترين.
الخبر الأول نقلته كثير من الصحف قبل أيام من كتابة هذه السطور، وأُورِدُ
رواية صحيفة الرياض السعودية في عددها الصادر يوم 8-8-1999م تحت
عنوان: (شاشة عالية الوضوح على إبهامك) :
(توصلت شركة أمريكية مقرها في ولاية كاليفورنيا إلى إنتاج شاشة صغيرة
وعالية الوضوح ارتفاعها حوالي سنتيمتر واحد من السهل أن يضعها الشخص على
إبهامه. ومن غير المتوقع أن تستخدم هذه الشاشة بالطريقة التقليدية؛ فلن يجلس
الشخص أمامها في غرفة المعيشة ليشاهد التلفزيون أو يستعمل الكمبيوتر، وإنما
توضع هذه الشاشة داخل أجهزة رؤية توضع أمام العين مباشرة مثل النظارات
الطبية. وتؤكد الشركة أن درجة الوضوح التي توفرها الميكرو شاشة تتفوق على
درجة الوضوح التي توفرها شاشة مساحتها 19 بوصة) اهـ.
فما الذي يعنيه هذا الخبر؟ وما الذي سينتج عنه؟ وهل يثير مثل هذا
الاختراع في المسلمين شيئاً أو يحرك ساكناً؟
هذا الخبر يعني - دون ريب - تضيُّق مساحة الرقابة التربوية على الآباء
والمربين ورجال الأمن؛ وفي كثير من الأحوال انتفاء هذه الرقابة واستحالتها؛ فقد
أصبح بمقدور أي شخص صغير أو مراهق أو كبير إخفاء هذه الأداة عن الأعين
الشفيقة الحانية؛ فقد يواريها الفتى طية من طيات ثيابه، أو كتاباً من كتبه، أو
تحت فراشه أو مخدته، وهذا ما يشير إلى تعطُّل جزء كبير ومهم من وسائل الرقابة
التربوية التي كانت فعالة إلى حد كبير.
الخبر الثاني نقلته مجلة الشباب في عددها السادس الصادر في جمادى الأولى
1420هـ تحت عنوان: (الإنترنيت تطلِّق الكمبيوتر) . قالت المجلة:
(بعد شهور قريبة سيرثي الكمبيوتر فراق الإنترنيت؛ حيث أعلنت شركة
الهواتف (vsest) عن خططها لإطلاق أجهزة هاتفية تسمح للمستخدمين بإرسال
البريد الإلكتروني وتصفح الإنترنيت بدون الحاجة إلى استخدام الكمبيوتر؛ وبذلك
تنتهي مشكلة أولئك الذين يعانون من صعوبة التعامل مع الحاسوب ويرونه عقبة
تقف أمام دخولهم على الشبكة العالمية (الإنترنيت) . وهذه الفئة من الناس ليست
بالقليلة؛ حيث قدَّرتهم الشركة بـ 50 %. ويتضمن ذلك الهاتف الجديد شاشة
ملونة تسمح للمستخدم بتصفح الإنترنيت عن طريق التأشير ولمس أيقونات معينة.
كما يمكن إرسال البريد الإلكتروني عن طريق طباعة الرسالة على لوحة المفاتيح
الخاصة بهذا الهاتف. والجميل فعلاً أن من أهداف هذا الاختراع الجديد أن يقدَّم
بسعر مناسب لا يتجاوز 1000 - 1500 ريال سعودي؛ وذلك يوفر عليك أضعاف
هذا المبلغ لشراء جهاز الكمبيوتر) . ا. هـ.
وهذا الخبر ماذا يعني لنا أيضاً؟ وما الذي يعنيه للمربين؟ بل ما الذي يعنيه
بالنسبة لإمبراطورية الكمبيوتر التي كان يتراءى لها وللعالم أنها وضعت شبكة
الإنترنيت تحت إبطها؟
إن هذا الخبر يعني الكثير بالنسبة لنا خاصة وللعالم عامة. إنه يعني أن هذه
الإنجازات المذهلة سوف تكون مطارق تسحق قِيَمنا ومعاول تهدم ما بقي من
صروحنا إن لم نأخذ أهبتنا لها لا بإغماض أعيننا واستهجان استخدامها ومستخدميها
واستبعاد الزمن الذي تدخل فيه بلادنا أو تطأ ترابنا.
أما ما يعنيه هذا المخترَع بالنسبة للمربين فهو الحيرة والذهول، ثم البحث
عن وسائل تضطلع بمهمة شاقة لم تكن منتظرة.
أما إمبراطورية الكمبيوتر فسوف يساورها الشك في استحوازها على أكبر قدر
من وسائط الاتصال بعد اليوم.
إنه عالم متغير حقاً مع كل قفزة من قفزات عقارب الساعة. فما العمل اليوم؟
في عام 1986م تساءلتُ في كتاب: (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون)
بالسؤال نفسه، وكان جوابي قبل أربعة عشر عاماً الذي تبع العنوان: (المخرج
حاضراً) : (إننا نرى أن على الأسرة المسلمة اليوم أن تتخلى عن التلفزيون نهائياً،
وألا تدع له مكاناً بين أفرادها مادام موجهاً نحو أغراض تناقض ما أحبه الله لخلقه
... والتلفزيون على ما هو عليه الآن من هيمنة جهات معينة لا تقيم للدين وزناً،
فتوجهه الوجهة المعاكسة للتربية القويمة المتوازنة فإنه بالتمحيص والدراسة المتأنية
نجد وبشكل يثير القلق أن مضاره تدفعنا إلى اختيار الدعوة إلى الإحجام عن
استعماله أو الركون إليه ولو مؤقتاً إلى أن تنحاز برامجه إلى جانب الحق، ويغلب
خيرُه شرًَّه) {ص 256، 257} .
ومما قلته تحت عنوان: (المخرج مستقبلاً) : (ليست دعوتنا الأسرة المسلمة
إلى التوقف عن تشغيل التلفزيون تعني طلب الإعدام لهذا الجهاز أو إلقائه في مقلب
الزبالة كما اقترح الكاتب الأمريكي جيري ماندر ... ولكن تقديرنا أن المؤسسة
التلفزيونية في بلدان العالم الثالث - والشعوب الإسلامية جزء من هذا التصنيف -
هذه المؤسسة تبدو صورة من صور السلطة وجانباً هاماً من مرتكزاتها التي لا
تنفصل عن حقيقتها، هذا التقدير جعلنا نتوجه باقتراحنا هذا مباشرة إلى الأسرة
لإدراكنا بأن شعوب العالم الثالث قد هُذِّبت على ألاَّ تطلب في واقعها شيئاً بل عليها
انتظار الإنعام ... فما هي الوسيلة التي تجعلنا نفيد من هذا المختَرَع الرهيب
العجيب ونسخِّره للخير بعد أن ظل زمناً طويلاً منذ اختراعه مستخدَماً في ضروب
شتى من التخريب وإضاعة العمر في متابعة ترهاته وخزعبلاته؟ هذه الوسيلة تكمن
في التلفزيون السلكي أو التلفزيون الجماعي، وهو ما يسمَّى بالتلفزيون الكابلي ...
وقد أصبح وسيلة اتصال قائمة بذاتها ولمحطاته القدرة على البث في نحو مائة قناة
مرة واحدة، وما تزال الأبحاث جارية لزيادة عدد القنوات هذه) . {ص 257.258}
وما يزال للتلفزيون الكابلي دوره المتميز على الرغم من مزاحمة الفضائيات
له؛ فقد أشارت الدكتورة عواطف عبد الرحمن أستاذة الصحافة في جامعة القاهرة
إلى هذه الحقيقة في مقالة لها في صحيفة الحياة تحت عنوان: (وظائف الإعلام
العولمي بين شمال وجنوب) قالت فيها: (تشير خريطة الفضائيات التي تسيطر
عليها كل من الولايات المتحدة واليابان والدول الأوربية إلى أنه يوجد في العالم -
أي حتى كتابة المقالة تلك - 26، 1 بليون جهاز تلفزيون منها 200 مليون جهاز
بالكابل..) {الحياة 15-7-1998م} وقد يبدو العدد قليلاً؛ إذ إن نسبته إلى
المجموع الكلي هي السدس؛ إلا أننا إذا عدنا إلى التفكُّر بالطبقة العلمية والاجتماعية
التي تأخذ عادة بهذه الأساليب الراقية فإننا نستطيع أن نتخيل أن الطبقة الفاعلة
المؤثرة في مجريات العصر الذي نحياه هي الأعلى نسبة بين مستخدمي هذا الصنف
من شبكات التلفزيون.
أما اليوم وفي أيامنا الراهنة هذه فقد تبدلت الصورة عما كانت عليه قبل ما
يقرب من سدس قرن تبدلاً يكاد يكون جذرياً، واتسع الخرق على الراقع، ولم يعد
المجال مناسباً للاقتصار على الدعوة إلى الابتعاد عن الجهاز أو الإقلال من قربانه،
أو محاولة ترويض النفس على المشاهدة الانتقائية التي لا يستطيع تحملها إلاَّ القلة
النادرة أمام الإغراءات الطاغية التي تأخذ بتلابيب المرء ولا تدعه حتى يصبح
مدمن تلفزيون من فئة خمسة نجوم؛ مما يستدعي إعادة التفكير في حل مناسب
للمسلمين خاصة، وللبشر عامة؛ فما هي الدواعي للبحث عن حل؟ وما هو الحل؟
دواعي البحث عن حل:
إن دواعي البحث عن حل كثيرة، ولو جئنا ننقب عنها لوجدناها تحوم حولنا
وتحف بنا وتحيا معنا، تمر بنا ونمر بها، تغيب عن أذهاننا لتغوص في أعماقنا؛
فإن أطلت ثانية جاءتنا بثوب جديد، وفلسفة مستحدثة، ولون مبهر، وطلاء أخاذ؛
ومعظمُ الغيورين ينشدون حلولاً تناسب العصر ولا تخرج بنا عن عقيدتنا وأعرافنا
القيمة التي انبنت على هذه العقيدة ونبتت بين ظهرانيها؛ ولذلك فإننا نذكر أهم
دواعي البحث عن حل يتناسب وواقع الأمة بمجملها:
1 - سيادة البث الفضائي القسري، وتسلحه بأرقى ما توصل إليه فن الإعلام
وتقنية الاتصال، واستناده إلى رأسمال ضخم يبتلع الأخضر واليابس.
2 - خروج البث التلفزيوني من قبضة الحكومات إلى قبضايات الرأسمالية
التي لا تفرق بين الحلال من المال أو الحرام منه؛ فبإمكان المال شراء ما يشاء من
قنوات البث التلفزيوني والذمم المعروضة للبيع أو التأجير بدون شروط مسبقة إلا
توفر الفلوس.
3 - توجُّه أصحاب الأيديولوجيات المنحرفة عن الحق والمعادية له من
يهودية ونصرانية وإلحادية إلى امتلاك الأقنية التلفزيونية والإذاعية في شتى بقاع
العالم، وتوجيه العديد منها إلى العالم الإسلامي بقصد زعزعة عقيدته تمهيداً لرد
المسلمين عن دينهم، أو فصل حياتهم عن دينهم بعد أن تمكنوا في معظم بلاد
المسلمين من فصل الدين عن الدولة.
4 - تصدُّر البث التلفزيوني بصورة عامة والفضائي منه خاصة المنابر
التربوية، وهيمنته على الأطر التربوية التقليدية من خلال: الأسرة والمدرسة،
وأمكنة العبادة؛ بل يكاد التلفزيون يلغي التأثير التربوي لتلك الأمكنة ويزيح القائمين
عليها من الآباء والمدرسين والخطباء والوعاظ، ويمهد لتشكيل شخصية عالمية لا
يجمع بينها سوى شدة النهم لكل دواعي الغرائز والشهوات، شخصية استهلاكية
أنانية فردية لا يعنيها غير تحقيق رغباتها والاستجابة إلى نزواتها.
5 - استحالة التصدي الفعلي لمحطات البث الفضائي، أو إيقافها أو التحكم
فيها من قِبَلِ الدول المستقبلة لها، مما يعني استفحال المشكلة، وخروجها عن نطاق
التحكم فيها، أو تصفيتها وترشيحها وتنقيتها (الفلترة) ، أو حجب بعض برامجها؛
فلها سلطانها الذي يحميها، وهي في منأى عن قوانين وأنظمة البلاد التي تستقبل
الإرسال، ولا تخضع إلا لسلطة البلد الذي تعمل فيه أو القمر الصناعي الذي تعيد
البث من خلاله نحو أصقاع شتى.
6 - بداية عصر الاستقبال الفضائي دون الحاجة إلى الأطباق والدشوش؛ مما
يعني إمكان إخفاء مظاهر التعامل مع هذا الاستقبال مما يقطع الصلة بالناس
المحتاجين للإرشاد والتوجيه والنصيحة؛ ليصبحوا فريسة طيعة للشيطان والإرسال
الشاذ.
هذه بعض أسباب ودواعي البحث عن حل؛ وذلك بمقتضى المستجدات
والمتغيرات التي طرأت على آليات البث التلفزيوني وزادت من آثاره وأخطاره؛
وهذا ما يدعونا دون إبطاء أو تمهل إلى المبادرة إلى الأخذ بمنهج الإقلال من
مخاطر البث التلفزيوني عامة، والفضائي منه على وجه الخصوص؛ دون إغفال
الاهتمام بالإنترنيت؛ متصدين للمخاطر محاولين الإقلال من المفاسد إلى أقصى حد
ممكن؛ مع العمل على زيادة الإفادة من الجوانب الإيجابية إلى أقصى حد ممكن
أيضاً وتوظيفها لخدمة الإنسانية لتتمكن من السير في دروب العبودية ولا للشهوات
والطواغيت ودعاة الباطل.
وحيال هذا السيل الطامي من التدفق الإعلامي من خلال البث المباشر المتَّسم
بالأهداف غير الإنسانية فإن من الحكمة الأخذ بالمعطيات الخيِّرة للتلفزيون، ولن
يتأتى ذلك إلاَّ بتصدي نخبة العلماء والعقلاء والفضلاء لهذا الأمر والوقوف له
متعاونين متعاضدين باذلين ما وسعهم الجهد للتلاقي بين أجهزة الإعلام الوطنية وبين
العلماء والمربين والتنسيق فيما بينهم للتخفيف - إلى أي حد مستطاع - من آثار
هذه الهجمة الإعلامية الشرسة.
الحل المقترح:
لعل من المفيد الإشارة إلى بعض الأساليب التي يمكن أن تساهم في الحد من
الآثار السلبية لسوء استخدام هذه المخترعات الفائقة التأثير على مسيرة البشرية
جمعاء وهي:
1 - إنشاء محطة بث إسلامية عربية تشترك فيها كافة البلدان الإسلامية،
ويمكن التقاطها في أية بقعة من الأرض، وتعمل على مدى أربع وعشرين ساعة
يومياً.
2 - إنشاء شركات إعلامية إسلامية أهلية خاصة مساهمة تتبنى المنهج
التربوي الإسلامي في الإعلام بأصنافه المختلفة وعلى رأسها الإعلام التلفزيوني
الفضائي والإنترنيت.
ويمكن لهذه الشركات والمحطات التعويل على الإعلانات التجارية التي لا
تتعارض مع التربية الإسلامية في سد جانب كبير من متطلباتها المالية، والعمل
علي تنميتها بحيث تتمكن من تمويل نفسها بنفسها ثم الانتقال إلى تطويرها بما
يتناسب وكل مرحلة جديدة لتؤدي رسالتها بثقة وقوة، وللوقوف في وجه ما يمكن أن
تتعرض له من أساليب المحاربة والتخريب المحتمل؛ على أن تحمل الإعلانات
التي تُبث من خلالها الروح الإسلامية التي تروِّج للحلال وتبتعد عن الحرام.
3 - العمل على إيجاد منهج تربوي إسلامي جديد يتناسب والعصر الإعلامي
الذي نحياه؛ مع الأخذ في الحسبان التطور المتوقع على مدى مستقبلي للأجيال
الحاضرة والمستقبَلة؛ فمما يروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه
قال:) رَبُّوا أبناءكم غير تربيتكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم (فإن الدفاع
الذاتي خير وأجدى من كل أنواع الدفاع؛ فمن امتلك العقيدة وعرف أسسها
وخطوطها العريضة حتى أصبحت له عقيدة وقضية كان أقوى على الصمود في
وجه الشبهات ودحضها والانتصار عليها، ثم التحول إلى الانتصار للحق قولاً
وعملاً.
4 - الإكثار من المنتديات التي تهتم بعرض الأفلام التسجيلية الصالحة
مساهمةً في البناء التربوي للشخصية دينياً وعلمياً وحضارياً.
5 - قيام صناعة وطنية في البلاد الإسلامية لأجهزة التلفزيون مبرمجة بشكل
متوافق مع محطات الإرسال الوطنية والإسلامية لا غير.
6 - التنسيق بين أجهزة البث التلفزيوني الإسلامي والعربي لتحقيق الأهداف
والغايات المتفق عليها فيما بينها.
7- إنشاء قنوات بث إسلامية بمختلف لغات الشعوب الإسلامية على أن يكون
من أهم برامجها تعليم اللغة العربية لتلك الشعوب بأساليب تربوية ميسرة.
8 - إنشاء محطات بث إسلامية موجهة لغير المسلمين يمكن التقاطها في أية
بقعة من الأرض، وناطقة بلغات الشعوب الموجهة إليهم.
9 - إنشاء صناديق تبرعات دائمة في كافة أنحاء العالم الإسلامي لتقوية
الرسالة الإعلامية، وإصدار طوابع مالية وبريدية بقِيَمٍ رمزية تُوَجَّهُ حصيلتها
لتحقيق أغراض الإعلام الإسلامي.
10 - حث رجال المال والأعمال المسلمين وأهل الخير على البذل الخيري
في الجانب الإعلامي، وتخصيص وقف إسلامي للعلم والإعلام.
11 - مسارعة المؤسسات الإسلامية وسَبْقُها إلى تعرُّفِ أيِّ مخترع جديد مفيد، والتدرُّب عليه وتهيئة الأشخاص والظروف المواتية للإفادة منه بشكل جدي
وسريع؛ وهذا يستدعي قيام مؤسسة إسلامية لمتابعة ورصد المخترعات والمبتكرات
والمكتشفات وبرامج الكمبيوتر والإنترنيت الجديدة التي تخدم الشعوب الإسلامية.
12 - القيام بوضع أفلام تسجيلية تبرز الدور العلمي للعرب والمسلمين حين
كان الغرب يغط في الظلام، وإبراز دور الأندلس والمشرق العربي أثناء الحروب
الصليبية في بعث الروح العلمية لدى الغربيين؛ وذلك لإعادة الثقة إلى نفوس أبنائنا
وتعريفهم بفضل أمتهم على العالم.
13 - إنشاء مكتبة مركزية عامة (سمعية - بصرية) حكومية ومؤسسية في
جميع المدن والأحياء الإسلامية تساهم في إعارة ونسخ الأفلام والبرامج الجادة
المتفقة مع شريعتنا وتقاليدنا؛ مع عناية هذه المكتبة بإنشاء ملفات إحصائية لما
يُتداول من البرامج الخاصة بكلٍّ من الفيديو والكمبيوتر على المستوى الوطني لكل
بلد من بلدان المسلمين، وإنشاء لجان تربوية مختصة لدراسة هذه البرامج وتقييمها
وتبادل هذه الدراسات بينها.
14 - إنشاء مؤسسة إسلامية عالمية تقوم بإنتاج برامج تلفزيونية تخدم
المسلمين، وتساعدهم على الوصول إلى ما يتطلعون إليه في دينهم ودنياهم،
وترجمة هذه الأفلام (الدبلجة) إلى جميع لغات المسلمين.
15 - إنشاء مؤسسة إسلامية عالمية لإنتاج برامج الكمبيوتر مما يخدم
أغراض المسلمين، ويحقق أهدافهم الدينية والدنيوية.
16 - إنشاء مجلس إعلامي يضم عضواً واحداً على الأقل من كل كلية من
كليات الإعلام في جميع البلدان الإسلامية؛ للتنسيق بينها في مجال المناهج
والمستجدات العلمية في أساليب الاتصال والأخذ بالمفيد منها، ورصد المناهج
المضادة للنهج الإسلامي والعمل على التصدي له.
وبعد إيراد هذه البنود التي أجد أن من الأمانة إبلاغها لمن يدخلون تحت قوله
صلى الله عليه وسلم:) كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته) [1] ؛ فالخطاب بتلك
المقترحات وإن خص أناساً لمواقعهم ودرجة مسؤوليتهم فإنه يعم كل بني الإسلام؛
فحاجة الجميع إلى تربية إسلامية صحيحة أعظم من أن يتلهى عنها أحد في عصر
فَغَرَ فاه ليبتلع كل شيء ويحوله إلى ركام وسماد يُستزرَع عليه طغيان لا ينجو منه
ابن البيضاء ولا السوداء ولا الحمراء ولا الصفراء في عصر عولمة الشر والضنك
والافتئات على خلق الله.
وأخيراً
فإنه لا بد من التذكير بأن تضافر الجهود الخيِّرة، وتآزر الهمم
المتطلعة لسيادة الحق وهزيمة الباطل كفيلة - بعد توفيق الله وتسديده - بأن تصل
بخير أمة أخرجت للناس إلى بر الأمان، وامتلاك ناصية الأمر، وتخليص
الإنسانية من كابوس طغيان المادة، وتحكُّم الذين يسيئون وهم يحسبون أنهم
يحسنون صُنعاً.