مجله البيان (صفحة 3297)

المسلمون والعالم

حزب الله.. رؤية مغايرة! !

(?)

البناء بالحرب! !

عبد المنعم شفيق

في 18 فبراير من عام 1974م، وقبل بداية الحرب الأهلية اللبنانية بعام

تقريباً، وقبل اندلاع الثورة الإيرانية بسنوات قليلة، وقف موسى الصدر أمام حشد

كبير من شيعته ليقول: (إن اسمنا ليس المَتَاوِلة، إننا جماعة الانتقام، أي هؤلاء

الذين يتمردون على كل استبداد، حتى إذا كان ذلك سيكلفنا دمَنا وحياتنا، إننا لم نعد

نريد العواطف، ولكن نريد الأفعال، نحن تعبون من الكلمات والخطابات، لقد

خطبت أكثر من أي إنسان آخر، وأنا الذي دعا أكثر من الجميع إلى الهدوء، ولقد

دعوت إلى الهدوء بالمقدار الذي يكفي، ومنذ اليوم لن أسكت أبداً، وإذا بقيتم

خاملين، فأنا لست كذلك) [1] .

(لقد اخترنا اليوم فاطمة بنت النبي، يا أيها النبي، يا رب، لقد اجتزنا

مرحلة المراهقة، وبلغنا عمر الرشد، لم نعد نريد أوصياء، ولم نعد نخاف، ولقد

تحررنا، على الرغم من كل الوسائل التي استخدموها لمنع الناس من التعلم، ولقد

اجتمعنا لكي نؤكد نهاية الوصاية، ذلك أننا نحذو حذو فاطمة، وسننتهي

كشهداء) [2] .

وبهذا الإعلان (الثوري) كانت بداية جديدة للحركة السياسية الشيعية في لبنان، وكانت نقطة الانطلاق التي اتفق فيها الصدر مع فضل الله. (أمل) تبعث الأمل:

قصة البداية: بعد حرب العام 1948م لجأ إلى لبنان أكثر من 150 ألف

فلسطيني، وفي منتصف السبعينات الميلادية وصل هذا العدد إلى أكثر من 400

ألف، وفي أعقاب الصدام العنيف في (أيلول الأسود) من عامي 1970، 1971م

بين المنظمات الفلسطينية، والسلطات الأردنية، لجأ كثير من هذه المنظمات إلى

لبنان، وبطبيعة الحال فإن هذه المنظمات كانت أفضل تسليحاً وتنظيماً من أي قوة

أخرى في الجنوب، في ذلك الوقت كان المجتمع الشيعي في حالة صحوة كما مر،

واجتمع للشيعة عدة عوامل تزيد من عدم رغبتهم في هذا الوجود الفلسطيني، ومنها:

1 - عامل التاريخ: وهو ذلك العداء القديم لأهل السنة؛ فهاهم الآن في معقل من معاقلهم (جبل عامل) وبقوة مسلحة تستطيع تهديدهم بشكل مباشر ولهذا كان الشيعة أول من سارع لمساندة الجيش اللبناني (الموارنة) في الاشتباكات ... التي جرت مع المنظمات الفلسطينية، بل ومساعدة اليهود في ذلك أيضاً؛ ... فالموارنة لا يريدون تكثير (السنة) لأجل إنشاء دولتهم النصرانية، واليهود لا يريدون الفلسطينيين في لبنان لئلا يتهدد أمنهم من الشمال، والشيعة لا يريدونهم كذلك؛ لأنهم يمثلون عائقاً أمام تحقيق وجودهم وكيانهم الذي يسعون من أجله.

2 - عامل الجغرافيا: وهو الرغبة في عدم إثارة الدولة اليهودية (الجارة) ... وهذه الإثارة تنتج عن مهاجمة المنظمات الفلسطينية لأي أهداف إسرائيلية سواء من داخل لبنان أو خارجها، وذلك أن دولة اليهود دأبت على تأديب سكان الجنوب كلما حدث ذلك لتزيد من النقمة الشيعية على الفلسطينيين.

3 - عامل الأيديولوجيا الثورية: حيث إن الشيعة في حال جديدة رغبة في التطلع لوضع سياسي واجتماعي يدفعهم نحو الدولة الحلم في لبنان، والتمكين للطائفة في الواقع اللبناني، وحيث إن الجنوب هو معقلهم التاريخي، فلا مناص إذاً من التخلص من هذا العائق الكبير الذي يقف أمام هذا الحلم.

ولهذا فقد كان من الضروري التعامل مع هذه القضية الشائكة بحذر وجدية في

الوقت ذاته.

فالحذر: كان لاعتبار تلك النداءات التي أطلقها الصدر من أنهم يحملون هَمَّ

القضية الفلسطينية وأنها قلب دعوتهم كما جاء في ميثاق حركته:

(فلسطين، الأرض المقدسة التي تعرضت - ولما تزل - لكل أنواع الظلم،

هي في قلب حركتنا وعقلها، وإن السعي إلى تحريرها أول واجباتنا، وإن الوقوف

إلى جانب شعبها وصون مقاومته والتلاحم معها شرف الحركة وإيمانها) [3] .

كما كان من دواعي الحذر أن الصدام السريع مع المنظمات الفلسطينية سوف

يكون لصالحها لا محالة.

وأما الجدية: فكانت في إيجاد حركة مسلحة تستطيع تحقيق الأمن الذي

تحتاجه الطائفة الشيعية، والتخلص من هذا الهمِّ الجاثم على صدورهم، وكان أن

أُعلن عن إنشاء (اتحاد محرومي لبنان) [4] أو (أفواج المقاومة اللبنانية) والتي

عرفت فيما بعد باسم (أمل) . ومن العجيب أن هذا الاسم الأخير (أمل) كان من

اقتراح ياسر عرفات على موسى الصدر [5] ، وكانت هذه الحركة هي (الجناح

المسلح) لحركة المحرومين التي تم التدثر بها ابتداءاً.

(ومضى الصدر إلى أبعد من مجرَّد الدفاع الداخلي عن حقوق طائفته، فنراه

يقيم علاقات وثيقة مع المقاومة الفلسطينية، وهكذا نجده يخرج عن تحفظه في

موضوع العلاقات بين الدولة اللبنانية والمنظمات المسلحة التي كانت تعمل ضدّ

(إسرائيل) بدءاً من جنوب لبنان، وكان تحالفه معها يتيح لرجل الدين الإيراني أن

يستفيد من دعم عسكري لكي يقف بقوة أمام الرؤساء التقليديين لجبل عامل، وأن

يجد بعد عام 1975م دعماً شخصياً (كتقديم أسلحة، وتدريب) عندما أسست

الميليشيا العسكرية لحركة أمل) [6] .

وكما تدربت ميليشيا أمل على يد (فتح) فقد كانت المنظمة تقدم خدماتها بهذه

الصورة إلى ما هو أكبر وأوسع من دائرة أمل، فقد وسعت هذه الخدمة لتشمل

النشاط الشيعي على مختلف الأصعدة، وكأنهم يقولون لهم: هكذا تذبحوننا! ! [7] .

وعندما وجد الصدر من جماعته القوة التي تستطيع أن تواجه المنظمة التي

دربته قلب لها ظهر المجن، فبعد أن اشتعلت الحرب المدنية اللبنانية، بدأ الصدر

يغير موقفه بشكل واضح من المنظمات الفلسطينية، وقد نقل عنه كلمات قاسية جداً

ضدها، قالها - قبل أن يختفي - لأحد رجال السياسة الموارنة القريب من الطلائع

المارونية:

(إن المقاومة الفلسطينية ليست بثورة، إنها لا تقبل البرهان على قضيتها

بالشهادة. إن هذه مكنة عسكرية ترهب العالم العربي؛ فمع السلاح يحصل عرفات

على المال، وبواسطة المال يمكنه أن يغذي الصحافة، وبفضل الصحافة يستطيع

أن يجد آذاناً صاغية في الرأي العالمي، إن المنظمة (فتح) عامل اضطراب في

الجنوب، وقد نجح الشيعيون بالتغلب على عقدة نقصهم تجاه المنظمة

الفلسطينية [8] .

في الوقت ذاته كان الصدر لا يريد أن يفقد علاقته مع حلفائه من الموارنة في

السلطة الحاكمة فأعلن أن (أمل) عون ومدد للجيش اللبناني في الجنوب في

التصدي للهجمات الإسرائيلية! ! وبهذا الفعل حصل الصدر على عدة مكاسب:

1 - اكتساب شرعية لميليشياته من الدولة اللبنانية، وعدم خسارة العلاقة معها.

2 - إضعاف سلطة الفلسطينيين في الجنوب بوجود قوة أخرى (لبنانية) ...

مشتركة، وكان التعاون بينهم في هذا الجانب واضحاً [9] .

3 - كان هناك كذلك مكسب هام وإن كان إعلامياً وهو الادعاء بأنه مازال يدافع عن القضية الفلسطينية، وها هي قواته تقاتل في الجنوب ضد العدو الصهيوني، وهو ما اعتبره الصدر انتزاعاً لانفراد المنظمات الفلسطينية بالمواجهة، وعليه؛ فقد تم التفريق بين القضية الفلسطينية وبين مواجهة الفلسطينيين. ...

الخروج إلى بيروت:

بعد هذا الاستقواء الذي تم للحركة طالب الصدر أتباعه في خطاب جماهيري

باحتلال القصور في بيروت، واعتبر الشيعة ذلك نداءاً مقدساً، واحتلوا من بيروت

مناطق وقصور (أهل السنة) .

يقول عبد الله الغريب: ويغلب على ظني أن استيطان الشيعة في بيروت في

الستينات وقبلها كان عفوياً، أما بعد الستينات فكانت أهدافهم واضحة، وكان موسى

الصدر مهندس هذه الخطة ومن ورائه النهج النصراني، ومن الأدلة على ذلك أن

العمال والموظفين الءقادمين من الجنوب والبقاع والشمال كانوا يبنون منازلهم في

جنوب بيروت على أملاك الغير، وكان ذلك يحدث تحت سمع السلطة وبصرها،

بل وكان أصحاب الأراضي من أهل السنة يطالبون الأجهزة المسؤولة بوضع حدٍ

لهذا العبث، ورغم ذلك فالسلطة تترك قُطَّاع الطرق يفعلون ما يشاؤون. ولو كان

هذا الذي يحدث في بيروت الشرقية أو في أي منطقة من مناطق النصارى لما

صمت قادة الموارنة لحظة واحدة.

وعندما سأل الصحفيون نبيه بري عن الأسباب التي دفعته إلى احتلال بيروت

الغربية أجاب: بيروت الغربية عاصمة لبنان وملك لجميع المواطنين وليست حكراً

على أهل السنة [10] .

وشاع في وسط المهجرين الخروج عن القوانين العامة وعن الأعراف، مثال

ذلك: أن 88% من الـ 4400 مبنى التي أحصاها المجلس الإسلامي الشيعي

الأعلى بالرمل العالي والأوزاعي وشاتيلا والجناح، وهي من نواحي الحركة

الإسلامية (الخمينية) ، شيّدت في الأملاك العامّة أو في أملاك الغير (اغتصبت

عنوة) ، وهذه الحال استمرت على الوجه نفسه إلى العام 1996م، وسوف يستمر

هذا الاغتصاب حتى يتم إنجاز ما يسمّى مشروع (اليسار) وبناء هذا الجزء من

ضواحي بيروت بناءاً جديداً في نصف العقد الآتي، ومع استهلال الألف الثالثة،

فإن ما يقرب من 20% من المقيمين ببيروت الغربية كانوا منذ العام 1986م

واستمر معظهم على حاله إلى 1995 1996م يقيمون في منازل تسلّطوا عليها

واحتلّوها احتلالاً (14%) ، أو ينزلون مؤقتاً ببيوت يملكها أقارب أو

أصحاب (5. 8%) [11] .

غياب الصدر:

وصل الصدر إلى ليبيا مع اثنين من رفاقه هما الشيخ محمد شهادة يعقوب،

وشفيع عباس بدر الدين في 25 أغسطس عام 1978م في زيارة غير محددة المدة

والغرض. وقد صرح أحد رفاق الصدر القريبين منه بأن الزيارة كانت استجابة

لدعوة من الزعيم الليبي معمر القذافي، وقَبِل الصدر هذه الدعوة على أساس أنها

سعي نحو تحقيق السلام في لبنان.

وكثرت الروايات حول أسباب اختفاء الصدر، ولعل من أبرز الأسباب هو ما

تمحور حول مسألتين:

الأولى: طموح الصدر؛ فقد سُئل علي الجمال، وهو أحد المقربين لموسى

الصدر، ومن كبار ممولي حركته بالمال والسلاح، سُئل عن طموح الصدر فقال:

أما طموحه فكان الوصول إلى الأمانة العامة للطائفة الشيعية في العالم [12] .

الثانية: وهي نتيجة للأولى وسبب مباشر لها؛ حيث إن هذا الطموح لم يكن

خافياً على الخميني مما اعتبره منافساً قوياً وخطيراً له كما أشار بذلك الخبراء

والقريبون من مصادر المعلومات الجيدة [13] .

على الرغم من أن الغموض الذي يحيط باختفاء الصدر لا يزال قائماً، فإن

هذا الاختفاء شكل أهمية رمزية لحركة أمل؛ فقد ارتفع الصدر إلى مرتبة الشهيد

القومي عند العديد من الشيعة اللبنانيين، وتصدرت صوره افتتاحيات صحف أمل،

كما أعيد طبع خطبه وتعليقاته مصاحبة بصوره، وأطلق أعضاء الحركة على

أنفسهم من حين لآخر (الصدريين) .

لقد حقق اختفاء الصدر فوائد عدة لحركة أمل؛ فقد وجد العديد من الشيعة في

(الإمام المختفي) رمزاً ملزماً للتعبير عن عدم الرضا الذي يشعرون به، وقد أكمل

اختفاء الصدر هذا المزاج السياسي للشيعة وغذاه، وكان وسيلة ملائمة للتعبير عبر

الحركة التي خلفها وراءه.

كما أن هناك بعضاً من قادتهم من يسلم بأن اختفاءه كانت له قيمة كبيرة في

التعبئة السياسية لجماهير الشيعة، لم يكن يحققها وجوده ذاته، كما أدى أيضاً إلى

قلة حدة الانتقادات التي توجه للحركة بسبب تبجيلها لذكراه واعتباره رمزاً لها [14] .

وهكذا فقد حقق اختفاء الصدر هدفين في وقت واحد: التخلص من طموحه،

وإعطاء دفعة معنوية لحركة أمل إلى حين.

كمون (حزب الله) :

كان حسين فضل الله في ذلك الوقت يمارس دوره بهدوء بعيداً عن ضوضاء

الصدر وحركته، وكانت عناية فضل الله كما ذُكر قبل متوجهة إلى التربية المنهجية

لإعادة العِلم الإمامي الديني وتوطينه وتطويره، ولم تكن تلك المهمة لتمتد أكثر من

ذلك، فقد بدأ الزرع يُخرج بعض الثمار، فبدأ (أبناء فضل الله) بالانتشار في

نسيج المجتمع اللبناني، ومد أذرعهم في جنباته، وبالرغم من هذه الخطوة إلا أنهم

لم يستطيعوا الإعلان عن هويتهم؛ إذ ما زال فيهم من الضعف ما يمنعهم من ذلك،

فكان لا بد من الاحتماء بـ (أمل) .

(فكانت الحركة الصدرية واقي أنصار الدعوة والإسلاميين الخمينيين في

حال ضعفهم، وحتى إعلانهم الاستقلال السياسي والعسكري، إلا أنهم في هذه

الأثناء كانوا يعملون عملاً حثيثاً على بناء النواة التي في مستطاعهم إنشاء معقلهم

حولها) [15] .

وبالرغم من هذا الاحتماء بـ (أمل) إلا أنه لم يكن في حسبان الحركة

الشيعية في لبنان أن تكون (أمل) هي صورتها الدائمة والمستقبلية ولا قائدة

مسيرتها؛ إذ الصورة المطلوبة هي ذلك المثال (الإيراني) لا المثال (العلماني)

الذي تدين به أمل، ولسوف يأتي اليوم الذي يخرج فيه الطائر ويكسر (قشرة

البيضة) التي احتضنته لا محالة.

وفي ذلك الوقت لم تكن كذلك قد تبلورت الأفكار والمناهج والتصورات

السياسية لـ (حزب الله) بل لم تكن تسمت هذه المجموعة بهذا الاسم، إلا أنها

كانت تعيش أهم مستلزمات العمل الثوري، وهو ما أسمته الحركة بـ (الحالة

الجهادية) أو (الحالة الثورية) أو (الذهنية الثورية) وكان الوصول إلى هذه الحال

أساس التعليم الإمامي في الحوزات والحسينيات، فكان (لا بد للعلم من جهاد يكمله

ويتكامل معه) وكان من لوازم التخرج من الحوازات العلمية أن تنتقل به إلى ...

(ساحات الجهاد) وأصبحت هذه (الحالة الجهادية) هي الحال التي يتمنى كل فرد

منهم الوصول إليها؛ إذ هي تصل بصاحبها لـ (الشخصية المتكاملة) ولقد كان

السعي لها لتتحقق أمنية الأماني: التمتع برؤية (الإمام الحسين) ! !

فهذا (أبو هادي) كان على هذه الحال، وهو فتى في الثالثة عشرة، سمع

أحد العلماء يتكلم عن استقبال الحور العين للشهيد حين يسقط على الأرض مضرجاً

بدمه، فصرخ في العالم، وقال: (دع الحور العين لك أنت وحدك، أما أنا فحدثني

كيف وأين أرى الإمام الحسين) ! ! ويعلق وضاح شرارة على ذلك فيقول: وهذه

أي رؤيا الحسين هو ما يردد الرغبة فيه كل شهداء المقاومة الإسلامية بلبنان، وما

يعربون عن الأمل في الحصول عليه، ويقاتلون في سبيله، ويرون فيه ثمناً لبذلهم

دمهم وحياتهم [16] .

الخروج من الشرنقة:

أولت الحركة الإسلامية الخمينية في لبنان أمر المساجد والمدارس الدينية

الاهتمام الكبير؛ إذ هي في تلك المرحلة محاضنها وبيوتها التي تحميها من حمأة

الانصهار في جحيم المجتمع بحربه المستعرة والحركة ما زالت في مهدها

(الثوري) ، وإذ هي مدارس العلم وحوزاته كذلك.

ولهذا فقد اتخذت الحركة طريقها الأول عند الخروج من الشرنقة لعمل حزام

من الحسينيات والمصليات تتحصن بها، ولتؤدي من خلالها دورها المنوط بها من

تحويل المجتمع إلى وجهة أخرى، وكان لهذا الحزام دور هام في انتشار الحركة

وتوسعها على ما نرى.

كما أن هذا الحزام ساعد أبناء الحركة على مد أيديهم لإخوانهم من الشيعة

بإحلالهم محال غيرهم ومنازلهم.

أما المصليّات فكانت أربعة:

المصلى الأول: (الإمام الباقر) ناحية الروشة، غير بعيد من الصخرة، أقيم

مكان مقصف وعلبة ليل رخيصة كانت تحفهما فنادق ومطاعم ومقاهٍ، بعد أن اتخذها

الفلسطينيون المسلحون موئلاً ومعقلاً وملجأ، ولم يكد الفلسطينيون يخلونها حتى حل

في أبنيتها التي لم تكتمل بعض أهالي الجنوب، وتبعهم أهالي كيفون، والقماطية، والبلدتان سكانهما من الشيعة وتقعان بدائرة (عاليه) الانتخابية التي يقتسمها

الدورز والموارنة والأرثوذكس، ووقعت عشرات الأبنية ومنها ثلاثة فنادق سابقة

في قبضة المسلحين، فأسكن المسلحون الشيعة المهاجرين والمهجّرين من الضاحية، وأنشؤوا مصلى الإمام الباقر في وسط المهجرين الشيعة، ونصبوا مذياعاً

للصلوات والأدعية، وأقاموا من أنفسهم مطوعة أو (شرطة أخلاق) ، فمدوا طرفهم

إلى المطعم القريب، وحرّموا تناول المشروبات الكحولية في شهر رمضان، وفي

الأيام العشرة الأولى من محرم، وزينوا المصلى بالأعلام والصور، واتخذوه قاعدة

للدعوة بالصورة والصوت.

أما المصلى الثاني (الإمام الصادق) فكان في بناء من أبنية الحمراء يقع خلف

سينما ستراند، في شارع احتُل بعضُ أبنيته الجديدة التي لم يتم إنشاؤها، وبعضُ

أبنية المنطقة القديمة التي كانت شققها مكاتب تجارية أو مكاتب مهن حرة، وأُنزل

فيها الأهالي الذين نزحوا من حي فرحان ومن حي (ماضي) ، وأُخليت إحدى

الشقق في بناء يقع بالطرف الغربي من بناء صالة ستراند، وأُخرج مكبر صوت

إلى الشوارع التجارية الكبيرة وإلى الأبنية التي يقيم في معظم شققها من بقي من

مسيحيي رأس بيروت، ومن الأرمن والسنَّة.

وأقيم المصلى الثالث (الإمام الحسين) في ناحية القنطاري غير بعيد من برج

المر.

وأقيم المصلى الرابع (المصطفى) بعين المريسة، في وسط ناحية يتنازعها

السنة الذين سبقوا إليها، والدورز، والشيعة الذين وجدوا بها ملاذاً شعبياً رخيصاً

في العقد الخامس، ثم طرأ على الناحية تغير عميق من جراء انتشار الفنادق الفخمة

والشقق المفروشة والمقاهي والمقاصف وعلب الليل. وهذه الفنادق والشقق أخلتها

الأعمال الحربية ودمرتها وأسكنت في بقاياها وبين أنقاضها الذين قسروا على

النزوح من برج حمود والنبعة ... إلخ.

ولا تقتصر شبكة الحركة (الخمينية) على المساجد والنوادي الحسينية

والمصليات البيروتية هذه، فانضمت إليها حسينيات وادي أبو جميل ومدينة الكرامة

(حي السلم) ، وبرج البراجنة، ومسجد الطيونة؛ إلا أن هذه الأماكن لا يرد ذكرها

ولا يشار إلى استعمال الحركة (الخمينية) لها إلا في معرض خطبة أو تأبين،

وقلما يتجاوز الخبر هذا المعرض إلى غيره.

أما خارج بيروت، فيدور نشاط الخمينيين على عدد من المساجد والحسينيات

التي يتولى الصلاة فيها أو يرعى شؤونها دعاة الحركة من علماء الدين، وغالباً ما

يتفق الاحتفال في البلدة مع سقوط أحد أفراد الحركة من أهل البلدة فتكون إحياء

ذكراه جسراً إلى أقربائه وإلى أهالي بلدته.

وتتصدر بلدات الجنوب اللبناني بمساجدها وحسينياتها نشاط الدعاة الخمينيين؛ ففي صور؛ حيث مدرسة من المدارس الدينية الإيرانية حسينية تستقبل على

الدوام تظاهرات (الخمينيين) ، ونادي الإمام الصادق الذي يقوم مقام حسينية ثانية.

وتعد صور من بين الأرياف اللبنانية الفقيرة التي تأخرت هجرة أهلها إلى

بيروت، لكن هجرة أهل الساحل هذا كانت مبكرة جداً إلى فلسطين وإلى المهاجر

الإفريقية والأمريكية، وإلى ذلك؛ فقد أدت هجرة الريف الصوري إلى صور إلى

طبع المدينة البحرية بطابع سكاني وطائفي جديد؛ فبعد أن غلب السنة والمسيحيون

على المدينة، انتقلت الغلبة إلى الشيعة المهاجرين من الأرياف العاملية القريبتة على

نحو حاد، من غير أن تملي المدينة الصغيرة على المهاجرين إليها التطبع بطباع

مدنية أو التأدب بآداب جديدة. ولم يبق من أهل صور الأولين إلا ضعفاؤهم

وفقراؤهم وغير القادرين منهم على (الاختلاط بالأشغال مع المسيحيين في بيروت

وصيدا وجبل لبنان) .

أما في البقاع فتتصدر بعلبك نشاط الإسلاميين قبل مقدم الحرس الثوري في

صيف 1982م وبعده.

هذه الخريطة لأبرز المساجد والحسينيات والمصليات التي يتخذ منها

الخمينيون (خلايا) دعوة وتعبئة) [17] .

الانقلاب على (أمل) ! !

يقول ميثاق حركة أمل: (إن حركة أمل ليست حركة دينية، وميثاق الحركة

الذي تمت صياغته في عام 1975م، من قِبَل 180 مثقف لبناني معظمهم من

المسيحيين! ! يدعو إلى إلغاء النظام الطائفي في البلاد وإلى المساواة في الحقوق

والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز) [18] .

وعندما نجحت الثورة الإيرانية، كانت نقطة تحول كبيرة في الحركة الشيعية

في لبنان؛ فقد تحقق جزء كبير من حلم الدولة الثلاثية، وأصبحت هناك دولة دينية

شيعية آلت على نفسها منذ اليوم الأول لها تصدير ثورتها لنصرة المستضعفين في

كل مكان.

وكان على هذه الدولة الجديدة أن ترد الجميل لأهلها في لبنان، فقد احتضنوهم

بالمأوى والتدريب، وكان رد الجميل سريعاً، فأمدوهم بعد الدفعة المعنوية الكبيرة

بنجاح الثورة بالمال والسلاح والرجال والتخطيط.

وهكذا - وبسرعة أيضاً - تم الإسفار عن الوجه المطلوب إظهاره في لبنان،

وهو ذلك الوجه الكامن المختبئ إلى حين، وجاء موعد خروجه من كمونه، ولكن

ما زالت (أمل) هي الصورة الواضحة في لبنان كممثل رسمي لشيعته، ولكن

(أمل) بهذه الوجهة (العلمانية) أصبحت مرحلة مضت يجب تجاوزها؛ لأنها ستمثل

عائقاً في طريق إكمال السعي للأهداف الجديدة، وبما أن الهدف من إيجاد (أمل)

كان إخراج الفلسطينيين وحماية الشيعة منهم؛ فها هو الاحتلال الإسرائيلي لبيروت

قد أخرج الفصائل المسلحة منها، كما أنه قد تمت تصفية عدد كبير منهم في مذابح

مروعة قام بها اليهود والموارنة والشيعة.

وهكذا لم يعد لأمل دور تستطيع الدفاع عنه أو تنازع حوله، وعلى هذا فقد تم

اتخاذ فرامانات عدة لزحزحة أمل من قلب الصورة إلى هامشها، وكان من ذلك:

1 - الضلوع في إخفاء الصدر أو قتله كما مر لإضعاف الحركة في أحد مراحلها.

2 - بروز خلافات (علنية) بين نبيه بري، ومحمد مهدي شمس الدين الذي كان نائباً لرئاسة المجلس الشيعي الأعلى؛ حيث كان الصدر الغائب لا يزال الرئيس، وسبب ذلك: عدم القبول بتصرفات بري ومنهجه (العلماني) ! !

وقد نقل راديو (صوت لبنان الكتائبي) أن المكتب الخاص لنائب رئيس

المجلس الشيعي الأعلى أعلن أنه لم تعد للقيادة الحالية لحركة أمل أي علاقة مع

سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وقد أُبلغت القيادة الحالية لحركة أمل بهذا

القرار في حينه [19] .

3 - تصفية بعض الرموز المهمة في حركة أمل، أمثال: مصطفى شمران الذي كان له دور بارز في الحركة، وكان المسؤول التنظيمي فيها، كما تسلم إدارة المدرسة المهنية في جبل عامل التي أشرفت على تخريج كوادر أمل العسكرية بعدما حضر إلى لبنان يحمل خطاب تزكية من الخميني [20] .

وبعد أن قامت الثورة استدعي لشغل منصب وزير الدفاع في إيران، وتم قتله

أثناء زيارة للجبهة في الحرب مع العراق في ظروف غامضة [21] .

4 - كان الخط الذي اتبعته (أمل) منذ بداياتها مع الصدر هو مد حبال الصلة مع الحكومة اللبنانية، وتمسكها (الظاهري) بشرعية الدولة، والسعي من خلال هذا الطريق لاستنقاذ حقوق الشيعة وكان الاستمرار على هذه الطريقة هو مما يتعارض والهدف الجديد للحركة الشيعية في لبنان.

وجاء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ودعا الرئيس اللبناني وقتها إلياس

سركيس إلى اجتماع (هيئة الإنقاذ الوطني) وكان نبيه بري عضواً فيها، وقبلت

القيادة الدينية حضور بري [22] باعتبار أن هذه الهيئة ستتحول إلى حكومة وطنية، وهو أحد أهداف بري وحركته في أن يكون لهم تواجد حكومي قوي. وهنا أعلن

أحد أبناء الحركة الخمينية الكامنة والمتدثرة بـ (أمل) انشقاقه عن (أمل) ورفضه ...

لهذه المشاركة وأعلن (أمل الإسلامية) وكان هذا الرجل هو: حسين الموسوي،

نائب رئيس حركة (أمل) وبهذا الانشقاق تم تفريغ (أمل) من كوادرها الخمينيين

الذين انضموا إلى (أمل الإسلامية) وكان ذلك الإعلان الرسمي الذي تحول فيما بعد

إلى (حزب الله) .

لماذا استمر بري [23] بـ (أمل) ! ؟

السؤال الذي يطرح نفسه: إن كان تم الانقلاب على (أمل) بهذه الطريقة،

فلماذا استمر بري في صدارة الصورة (السياسية) الشيعية، بل لا زالت (أمل) لها

من الوجود نصيب؟

هناك قاعدة هامة يجب الالتفات إليها أولاً، وهي: أن معيار الظهور السياسي

الشيعي في لبنان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإيران ومطالبها في لبنان، وذلك حسب

الخيارات والأهداف المرحلية التي تنتهجها [24] .

ثانياً: استخدام إيران لبري بعد الصدر [25] كان لعدة اعتبارات:

1 - كان هناك إقرار وموافقة من قِبَلَ (الفقهاء) أصحاب السلطة الحقيقية-

على بري ومنهجه والدور الذي سيؤديه، وإلا لما كان له وجود ابتداءاً باعتبار اليد

الطولى للملالي.

2 - أن الواقع الطائفي اللبناني أفرز عدداً من الشخصيات الشديدة التعصب لمذهبها، وإن لم تكن (متدينة) في سلوكها، وكان بري من تلك النماذج، وهو ما تقتضيه المرحلة.

3 - هذه المرحلة تحول فيها الشيعة إلى العمل المسلح الظاهر، وأضحى هدفهم بالتخلص من الفلسطينيين (السنة) معلناً، وكان من الصعب أن تلصق المذابح التي أعدوا لها وقاموا بها بأحد الآيات أو الحجج، كيف ذلك وهم ينادون بالتقارب مع أهل السنة وإزالة الحواجر، وعندما وقعت ألصقت بـ (علمانيي) المنهج.

وعلى ما سبق فالود باق مع بري، ولا نُغفل هنا عقيدة (التقية) التي هي من

أصول دين الإمامية، وعلى هذا فيبقى في الأخير أن الأدوار توزع حسب الحالة،

وليس أدل على ذلك من البيان الذي صدر في 8-10-1983م؛ حيث أعلن عبد

الأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز باسم المجلس الشيعي الأعلى ما يلي: (إن

حركة أمل هي العمود الفقري للطائفة الشيعية، وإن ما تعلنه (أمل) نتمسك به

كمجلس إسلامي شيعي أعلى، وبالتالي فإن ما يعلنه المجلس الشيعي تتمسك به

الحركة) [26] .

وجاء هذا الإعلان بعد البيان الذي أذيع في 27-2-1983م من أن حركة أمل

لم يعد لها علاقة بالمجلس الشيعي الأعلى! !

4- جاء هذا التأييد السابق للحركة بعد الانشقاق الذي خرجت به (أمل

الإسلامية) وبعد (الحضور الفعلي) لحزب الله على أرض الصراع.

5- كان للسياسة الإيرانية في لبنان خطان تستعملهما في تحقيق أهدافها:

خط أول: يتلمس سبل طي الحرب المستمرة والمقيمة ولو من خلال التفاوض

مع ممثل (القوات اللبنانية) ، وفي رعاية وسيط أمكنه من القيام بالوساطة احتلالٌ

إسرائيلي يطوق بيروت والقصر الجمهوري ويرزح بثقله على الجنوب وعلى

الجبل.

وخط آخر: رأى في الاحتلال وفي ما حفَّه من أدوار سياسية ودبلوماسية

أمريكية وأوروبية وعربية ذريعة إلى تجديد الحرب، وإلى اختبار الاستراتيجية

الإيرانية في ميدان غير إيران.

وبينما أملت الخط الأول عصبية شيعية لبنانية حفظت من الروابط المحلية

والعالمية ومن اعتدال النخبة الصدرية الأولى قسطاً كان لم يزل فاعلاً، فقد أملت

الخط الثاني نزعة إلى توسيع النزاع، وإلى تأجيجه وتوجيهه وجهة ضم جبهة لبنان

إلى جبهة الخليج والجبهات الإقليمية المشرقية، وإلى استدراج القوى الغربية التي

تلعب دوراً راجحاً في النزاع الإقليمي، ولو من غير الاشتراك في الاشتباك مع

المجابهة المباشرة [27] .

ونختم هنا بكلام لحسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، يقول: إننا

حريصون على علاقة طيبة مع (أمل) ونحن نعمل على تطوير هذه العلاقة،

وهناك لجنة ثنائية من أحد قادة (أمل) مع أخيه في حزب الله ينظرون في كل

الأمور المشتركة سياسية وعسكرية، وسياستنا تقول: إن الموضوعات التي نتفق

عليها نتعاون معاً، وما نختلف عليه لا يؤدي الخلاف في وجهة النظر إلى نزاع،

حتى الخلافات تم تنظيمها، الطابع العام لعلاقتنا الإيجابية والتنسيق والتعاون، وقبل

أسابيع حضرت لقاء مع الرئيس (بري) لتثبيت هذه الصيغة وتفعيلها [28] .

وبهذا يتضح أنه لم يكن هناك إبعاد كبير للحركة بقدر ما هو زحزحة من

الصورة (العسكرية) والمواجهة إلى الساحة (السياسية) واستبقاؤها لأدوار أخرى

تتوافق والمتغيرات السياسية لإيران وملفاتها في لبنان.

ثورة تحمي.. الثورة:

إذا أراد شخص ما أن يحقق لعمله الهدوء والاستقرار، والأشخاص

المحيطيون به لا يوفرون له ذلك، بل لا يريدون له ذلك، فلا بد من التفكير

والسعي لأن يصنع لهم شيئاً يشغلهم عنه ويلتهون به، وهذا ما فعلته إيران بعد

ثورتها.

(فمنذ بداية انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م، طالب التيار الداعي

لتصدير الثورة باعتبار تصدير الثورة إحدى سبل حمايتها في الداخل، وبعدم

الاكتفاء بالدعاية الخارجية للنموذج الإيراني بل بتقديم مساعدات ودعم لقوى سياسية

خارج إيران، وخاصة القوى الراديكالية المعادية للنظم القائمة في العالم الإسلامي

لإنشاء حكومات على النمط الإيراني.

وقد طالب الخميني منذ البداية بتكرار ثورة إيران في البلدان الإسلامية

الأخرى، باعتبارها خطوة أولى نحو التوحد مع إيران في دولة واحدة يكون

مركزها إيران في المواجهة مع من أسماهم بأعداء الإسلام في الشرق والغرب.

والتزم بتدمير من أسماهم بالأنظمة الفاسدة التي تقمع المسلمين واستبدالها بما اعتبره

حكومات إسلامية، كما ربط بين تصدير الثورة وبين مواجهة الإمبريالية وتحرير

فلسطين.

وأضفى الخميني على رؤيته قدراً من الواقعية عندما ذكر أن عدم تصدير

إيران لثورتها سيضعفها أمام أعدائها.

وقد سوَّغ الدكتور حسن آيات أحد منظري الحزب تدخل الثورة الإيرانية في

شؤون الدول الإسلامية الأخرى بأن على إيران نصرة المستضعفين في كل مكان

حتى يتم ضمان استمرارية الثورة واتساع دائرة إشعاعها.

وقد جاءت تصريحات لعدة مسؤولين إيرانيين لتؤكد أن إيران لن تأمن من

مؤامرات الدول الكبرى إلا إذا حدثت ثورات مماثلة في العالم الإسلامي، ووعدت

بمساعدة كل حركات التحرير والحركات الإسلامية الراديكالية في أي مكان في

العالم) [29] .

كما بذلت إيران ما في وسعها منذ قيام الثورة لإدماج الأقليات الشيعية الأجنبية

سياسياً تحت قيادة الإمام، وهكذا دعمت في فترة أولى تمتد حتى عام 1982م،

كافة الحركات الشيعية الصرفة مثل حركة أمل في لبنان.

بعد ذلك راحت تطلب المزيد من الراديكالية والمزيد من التخلّي - في آن معاً- عن المرجعية الوطنية والاندماج في بنى إيرانية محضة، وهذه الفترة الثانية هي

الفترة التي بدأ فيها ظهور الأحزاب التي دُعيت بأنها أحزاب الله، سواء في لبنان

أو أفغانستان، وإلى قيام تنظيمات باسداران لدى الشيعة.

وهكذا، فإن السفارة الإيرانية في بيروت أصبحت بمثابة قيادة الأركان

الشيعية الحقيقية في لبنان؛ حيث شرع حزب الله وأمل الإسلامية التي نشأت عام

1982م في معارضة حركة أمل، مع الابتعاد عن رجال الدين الأكثر تقليدية (مثل

الشيخ محمد مهدي شمس الدين) .

أما المرحلة التالية فكان قوامها توجيه المجموعات الشيعية لشنّ هجمات ضد

خصوم إيران وهي المرحلة التي حولت لبنان بخاصة إلى ساحة حرب ضد الرعايا

الغربيين (تدمير مركز قيادة الأركان الفرنسية والأمريكية عام 1983م) [30] .

وتفلسف أحد قادة الحركة في لبنان وهو إبراهيم الأمين وقال: إن تصدير

الثورة لا يعني تسلط النظام الإيراني على شعوب منطقة الشرق الأوسط، وإنما

المفروض أن تعيش هذه المنطقة الإسلام من جديد! ! أي إسلام؟ فيكون المتسلط

على هذه الشعوب الإسلام وليس الإنسان، على هذا الأساس نحن نعمل في لبنان

من خلال المسؤولية الشرعية ومن خلال القناعة السياسية أيضاً، حتى يصبح لبنان

جزءاً من مشروع الأمة في منطقة الشرق الأوسط، ولا نعتقد أنه من الطبيعي أن

يكون لبنان دولة إسلامية خارج مشروع الأمة [31] .

وكان الحرس الثوري الإيراني هو المؤسسة الرسمية الرئيسة التي تحمي

وترفع راية مبادئ الثورة الإسلامية ومُثُلها التي حددها الخميني، وقد لعب الحرس

دوراً هاماً في ترسيخ أفكار الثورة وزعيمها [32] .

وانطلاقاً من هذه السياسة الإيرانية بعد نجاح الثورة وبلوازم الدور الذي يقوم

به الحرس الثوري لتصدير هذه الثورة، ولتحقيق الأمل الآخر بقيام الدولة الأخرى

في لبنان فقد ساعدت مفرزة الحرس في لبنان على تأسيس (حزب الله) ، وعلى

تدريبه ودعمه فيما بعد، بهدف إقامة جمهورية إسلامية في ذلك البلد، وعموماً

كانت قيادة مفرزة الحرس وأفراده في لبنان وقوامها 2000 مقاتل تضم أكثر رجال

الحرس راديكالية من الناحية العقائدية وإلى جانب المساندة والتدريب العسكريين

المباشرين لحزب الله لعب الحرس دوراً عقائدياً وسياسياً كبيراً في وادي البقاع

اللبناني؛ حيث بثوا معتقداتهم بين السكان المحليين وأسسوا المدارس والمستشفيات

والمساجد والجمعيات الخيرية، واكتسبوا التأييد للثورة الإسلامية وأمدوا حزب الله

بالمجندين.

كما لعب السفير الإيراني السابق في سوريا ووزير الداخلية علي أكبر

محتشمي، وهو أحد المتشددين البارزين، دوراً فاعلاً بالتعاون مع الحرس في

تشكيل حزب الله، ويبدو أنه لا يزال يتمتع بنفوذ قوي في لبنان. كما تسعى

السفارتان الإيرانيتان في سوريا ولبنان مع وزارة الخارجية الإيرانية وبعض

الزعماء الإيرانيين، إلى السيطرة على أنشطة الحرس والسياسة الإيرانية في

لبنان [33] .

البناء بالحرب! !

حين وصلت الحركة الجديدة إلى (الحالة الثورية) كان لا بد من الاستجابة

للنداء المقدس من ضرورة تحويل لبنان إلى دولة أخرى، وحيث الروح المعنوية

عالية، والمدد المادي والعسكري والتنظيمي متوفر بكثافة وبكرم يفوق الخلق العربي

فكان لا بد من الخروج الكلي والإعلان الواضح عن الحركة، وكان من الطبيعي أن

يتوجه الجهد العسكري لمحاربة الاحتلال وتطهير الأرض اللبنانية من (رجس

اليهود) والسعي إلى إخراجهم من (الأرض المقدسة) إلا أن ذلك لم يكن هدف

الحركة! !

يقول وضاح شرارة: لم يصرف الإسلاميون اللبنانيون - والقيادة الإيرانية

من ورائهم - جهدهم إلى عمليات ضد الإسرائيليين وقوات احتلالهم، في الأشهر

الأولى التي أعقبت صيف 1982؛ فمصدر الخطر الأول على (مجتمع الحرب) ...

أو (الحالة الجهادية) ، يومذاك ليس الاحتلال الإسرائيلي! ! فكان المصدر الذي

يتهددها هو استقرار الدولة اللبنانية وحملها اللبنانيين على تسليم أمورهم وشؤونهم

إليها وإقرارهم بشرعيتها، وهذا أي التسليم والإقرار بالشرعية ما كان يبعد أن

يحظى به الاحتلال الإسرائيلي.

ويبرز الفرق جلياً بين الإسلاميين وبين الأحزاب والقوى السياسية التي أمدت

المقاومة الوطنية اللبنانية بالمقاتلين والسلاح والخطط، في هذه المسألة، وما

احتجاج الشيوعيين اللبنانيين على سبقهم في هذا الميدان إلا إمعاناً في الغلط، وفي

التعامي عن الاختلاف في تقدير الأوضاع؛ فذهب الحزب الشيوعي اللبناني،

والحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعض فصائل حركة (أمل) ، والمرجح أن

قسماً من الفلسطينيين تابعهم على رأيهم، إلى أن الأمر الملحّ والداهم هو عرقلة

الاحتلال الإسرائيلي، والحؤول دون استتبابه، والمضي على المقاومة التي جابهت

العملية الإسرائيلية، ولو اختلف في تقويم هذه المقاومة؛ وعقدت الأحزاب

والمنظمات آمالها على قيامها بـ (حرب التحرير) هذه، ورجت أن تقطف ثمار

عملها قوة جديدة تمكنها من أخذ موقع سياسي راجح في الميزان اللبناني.

اطَّرح (الإسلاميون) هذا الرسم من غير مواربة ولا تأخر، فقدَّموا على

سائر المهمات والأعمال مهمة الحؤول بين الأبنية السياسية والإدارية اللبنانية وبين

انتزاع الاعتراف بشرعيتها من جديد؛ والسبب في ذلك أن مثل هذا الاعتراف يحكم

على الإسلاميين وفيهم، وعلى غيرهم، بالخروج على الشرعية، وعلى ما هو

مُجمَع عليه، ويدينهم بعرقلة مسيرة السلم والعودة إلى الحياة السياسية الآمنة. ودفع

الإسلاميين لهذا الإطراح عواملُ كثيرة، منها: أنفتهم من تناول الأمور تناولاً

وطنياً ومحلياً، ومنها بروز الوجه الإقليمي والدولي للحرب الإيرانية والعراقية،

واختبار قادة طهران جدوى التعبئة الجماهيرية عسكرياً وسياسياً وانتقالهم بعد ربيع

وصيف 1982م إلى مرحلة الهجوم، وسعيهم إلى انتزاع مكاسب إقليمية ثابتة في

نهاية هجومهم المأمولة.

ولم يكن خافياً أن استقرار أبنية الدولة اللبنانية تبع لمساعدة أمريكية وأوروبية

تحوط هذه الأبنية، وترعى ذراعها المسلحة، وتحول بين القوى الإقليمية والمحلية

وبين بعثها المعاقل التي تقطع جسم الدول. ولما كانت الدول الأوروبية والولايات

المتحدة الأمريكية، من وجه آخر، تقف عائقاً دون إحراز القوات الإيرانية

انتصارات عسكرية تقوض النظام الإقليمي في الخليج، تحالفت السياسة الإيرانية

والسياسة السورية، والمصالح المحلية على ضرب القوة الأوروبية والأمريكية التي

تملك حوط الدولة اللبنانية وإحباط الانتصارات الإيرانية معاً.

وضربُ مثل هذا الغرض القوات المتعددة الجنسية [34] قمين إذا ما أفلح -

بحرمان الدولة اللبنانية الرعاية التي لا قيامة لها من دونها، وبإباحة لبنان أرضاً

ومجتمعاً للمعاقل المختلفة، وهو قمين أيضاً بإطلاق اليد السورية في غير ناحية من

لبنان، وبتعويض التراجع الذي منيت به القوات السورية في صيف 1982م،

وبمد جسر إيراني إلى قلب المشكلات العربية يحول دون تأليب الإسلام العربي

(السني) عليها، وتحويل إيران إلى قوة عربية عن طريق محاربة القوات

الإسرائيلية والعلاقة بالمنظمات الفلسطينية على أرض دولة عربية [35] .

ويعني هذا الأمر، بعبارة أخرى، وفي ضوء الثورة الإسلامية الإيرانية

وتجربتها يومذاك، أن الحرب وحدها في مستطاعها أن تظلل إنشاء المعقل

الإسلامي، وأن ترد عنه غائلة حياة اجتماعية وسياسية وثقافية مستقرة، لذا كان

الإسلاميون الشيعة ذوو الهوى الإيراني والخميني في الصفوف الأولى من كل

أعمال الكر والهجوم على (العدو العام) : على القوات الإسرائيلية، وعلى الوحدات

الأمريكية والفرنسية، وعلى (القوات اللبنانية) ، وعلى الجيش اللبناني، وعلى

المواطنين اللبنانيين المسيحيين والمواطنين الأجانب، وعلى (جيش لبنان

الجنوبي) ، وعلى السفارات الأجنبية والعربية، وعلى القوات الدولية، وعلى بعض المواطنين اللبنانيين المسلمين الذين يخالفون الإسلاميين في الهوى والمشارب، وعلى المراقبين السوريين الذين سبق قدومهم الانتشار السوري في بيروت أواخر شباط 1987م، وعلى مسلحي (أمل) بالضاحية الجنوبية في صيف 1988م، وعلى المسلحين الفلسطينيين المتحالفين مع (أمل) في حروب المخيمات الطويلة (1985 1990م) فهؤلاء كلهم، الذين كانوا أو ما زالوا هدفاً لأعمال الخمينيين الحربية، تسهم حربهم في إنشاء الجيب الإسلامي الإيراني وفي إطالة الأمد الذي يحتاج إليه أصحابه من أجل إرسائه على أسس يظنونها ثابتة.

فإلى الدور الذي تضطلع به هذه الحرب الكثيرة الوجوه في الوصول بمآرب

السياسة الإيرانية إلى غاياتها الإقليمية والدولية، تضطلع بدور آخر لا يقوم الدور

الأول إلا به، وهو تشييد أبنية المجتمع الإسلامي الذي تتعهده ولاية الفقيه ويتعهده

وكلاؤه) [36] .

بهذه البدايات المتفجرة بدأ (حزب الله) إثبات وجوده في الساحة اللبنانية

طبقاً للأهداف الإيرانية، وعلى الجهة الأخرى كانت سوريا على الخط اللبناني

الساخن، واستخدمت سوريا (حزب الله) كما استخدمت أمل من قبل، فهل ينجح

حزب الله في خدمة سيدين! ؟

وعلى الصعيد الداخلي اللبناني كان على (حزب الله) وسادته أن يقوموا

بتأمين المجتمع وإغراقه (بالإحسان) والخدمات الاجتماعية ليكسبوا التأييد الشعبي

للحزب، فما هي هذه الخدمات؟ وهل حققت أهدافها؟ وما هي النجاحات التي

حققها (حزب الله) في الصراع المتبادل مع اليهود؟ كما يطرح سؤال مهم نفسه:

مع تغير اللهجة الإيرانية واتباعها للمنهج البراجماتي في سياستها الجديدة، ومع

خوض سوريا في مفاوضات تسوية، هل يستمر حزب الله في الدور نفسه الذي بدأ

به؟

كل هذه الأسئلة وغيرها نجيب عليها - بإذن الله - في الحلقة الرابعة

والأخيرة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015