الافتتاحية
شهد العام الحالي والذي قبله رحيل ثلة من أفاضل علماء الأمة ومتقدميها ممن
امتازوا بوصف العاملين الذين تلقى بصمات أيديهم في شتى بقاع الأرض وأطرافها
شاهدة لهم، مذكرة بهم، داعية الأجيال للسير على منوالهم.
فقد شهد عامنا هذا رحيل الشيخ العلاَّمة عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
وإخوانه الشيخ ابن غصون، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مصطفى الزرقا،
والشيخ عطية سالم، والشيخ مناع القطان - رحمهم الله - ثم تأتي وفاة الشيخ
العلاَّمة محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - لتتوضح بعض ملامح ما نحن
مقبلون عليه من قَبْضِ العلم؛ فلم يكن في يوم من الأيام من يقين المسلمين إلا أن
العلم يرحل بحامليه؛ فقد بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حين قال: (إن
الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،
حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا
وأضلوا) [1] .
ومما يخفف من وطأة فَقْدِ أحدهم أن يكون قد ترك علماً تنتفع به الأمة فلا
ينقطع الوصل، ولا يخمد الود، ولا يتوقف العطاء؛ فقد أبلغ الصادق المصدوق
صلى الله عليه وسلم أنه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له) [2] .
ولقد أودع الشيخ الوقور - رحمه الله - بيننا علماً جماً وتَرِكةً غالية ثمينة
وأثراً تؤكد مجرياته ومناحيه أنه زادٌ سوف يسير مع الأجيال القادمة - إن شاء الله - فقد كشف الشيخ عن مكنونٍ ثمين وسلعة غالية لعلها من أهم محرِّكات الصحوة الإسلامية الحاضرة؛ فقد نبه الشيخ - رحمه الله - إلى أهمية الأصل الثاني من أصول الدين وهو الحديث النبوي الشريف؛ ولا غرو في ذلك؛ فالسنة النبوية هي الشارحة للقرآن؛ فلا يفهم إلا من خلالها، ولا يُتوصل إلى مراميه إلا في سياقها؛ ولذلك كان اهتمام العلامة الألباني المبكر بالحديث الشريف وأخذه على عاتقه تصفيته من الشوائب وتعريف الأمة بصحيحه من سقيمه، كل ذلك من خلال تتبُّعه الدؤوب لما كتبه علماء الحديث على مر العصور، وكأنما أخذ ما أُنجِز خلال عمر الأمة من مؤلفات ومجلدات ووضعه أمامه وراح ينقب فيه ورقة ورقة وسطراً سطراً بل كلمة كلمة، حتى أخرج لأبناء أمته في شتى أقطارها وامتداد أمصارها أسفاراً فيها عبق النبوة وأنفاس السلف، منبهاً فيها إلى أساسَيْ نهضة الأمة التي لا تقوم إلا بهما وهما النيِّران الطيِّبان: كتاب الله - جل جلاله - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن نظر إلى ما قام به الشيخ - طيب الله ثراه - وعاد إلى ما كان عليه علم
الحديث في أوائل عصرنا الراهن من الإهمال والنسيان لم يجد مبالغة إذا اعتبرنا
الشيخ - رحمه الله - باعث علم الحديث في هذا العصر؛ فقد بقي كثير من العلماء
المعروفين - وحتى وقت قريب - لا يبالون من أين أتاهم الحديث؛ فالمهم عندهم
أن يُسبق الكلام بعبارة: (قال رسول الله) دون اهتمام بسند ولا متن؛ ما دام ما
اعتبره أحدهم حديثاً نبوياً مؤيداً لرأي أطلقه في بحثه أو على منبره أو في درسه أو
موعظته. ولكم حفظنا أحاديث من خلال بعض المؤلفات الحديثة والقديمة فلما
وقعت أيدينا على كتب الشيخ الألباني - رحمه الله - تبين لنا أن كثيراً مما حفظنا لم
يَعْدُ أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً مكذوباً؛ مما دفعنا إلى مراجعة ما نحفظ من حديث
والتأني في تناولها والتعامل معها قبل التحقق من صحتها وصدق نسبتها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم.
لقد أشاعت طريقة الشيخ الألباني - رحمه الله - في الباحثين روحاً جديدة في
البحث عن الدليل والسعي إلى التأصيل، حتى قاربت كتابة الإسلاميين أن تأخذ
منحيً أكاديمياً في طريقة تناول الشواهد الحديثية وغيرها من حيث عزوها والتأكد
من صحة نسبتها إلى قائلها ومصدرها، ولم يعد مقبولاً أن يورد الكاتب حديثاً دون
عزْوِه إلى مصدره، وصار في طلبة العلم من يتتبع إغفال بعض الكتاب والخطباء
والوعاظ لصحة ما يوردون من أحاديث.
وأصبح يندر اليوم أن تقف على كتاب يستشهد بالحديث أو رسالة جامعية في
علوم الإسلام إلا وللألباني فيها ذكر من تصحيح حديث أو تضعيفه، وأصبحت
تصانيفه أمهات في أبوابها، وغدا للشيخ تلامذة ومريدون في مشارق الأرض
ومغاربها، ولم يقتصر تأثيره على بلاد الشام التي نشأ فيها، ولا في بلاد الحرمين
التي مارس تدريس الحديث في جامعاتها وعاش طرفاً من حياته في ربوعها؛ ويكاد
يكون جُل طلبة علم الحديث اليوم في مختلف بلاد المسلمين ينتمون إلى مدرسة
الشيخ الألباني في التأصيل والاهتمام بالدليل.
ولقد امتاز - رحمه الله - بالدأب والصبر وكان لا يكل ولا يمل باحثاً منقباً،
أو كاتباً أو مولفاً أو مدرساً؛ فقد كان عالي الهمة يُقْبِل على بحثه إقبال المنهوم أو
من أُقِّتَ له إنجاز عمله فعمل راغباً في الأجر أو خائفاً من العقوبة. تعلَّم من والده
صنعة إصلاح الساعات التي يسرت له دخلاً مناسباً، وأغنته عن الوظيفة؛ إلا أنه
عندما بدأ الاهتمام بالحديث وعلومه اضطر إلى الاكتفاء من عمله بما يقوم بنفقاته
اليومية؛ فأصبح عمله اليومي في إصلاح الساعات لمدة ساعة أو ساعتين ينتقل
بعدها إلى جنته الدنيا (المكتبة الظاهرية) لينكبَّ على المخطوطات منقباً باحثاً دارساً، وتمتد به ساعات البحث لتصل أحياناً إلى خمس عشرة ساعة متواصلة ينسى معها
الأكل، ولا يقطعها سوى الصلاة أو غيرها من شيء ضروري.
ولقد أهَّله هذا الدأب والتحصيل الصالح لعلوم السنة أن ينال إجازة في الحديث
من علاَّمة حلب يومها الشيخ راغب الطباخ - رحمه الله - الذي تتلمذ عليه وأخذ
عنه. إلا أن الشيخ الألباني - رحمه الله - كان يُعَدُّ بحق عصامياً؛ فما عدا الشيخ
الطباخ لم يتلق الألباني العلم إلا عن والده - رحمه الله - الذي كان شيخاً أيضاً،
وما تلقاه على الشيخ سعيد البرهاني - رحمه الله -. ولكن مثابرته واجتهاده
وابتغاءه الحق في العلم ومهمته في بعث ما خمد من علوم الحديث، وحرصه على
نشره، وتنبيهه علماء الشام - وأكثرهم آنئذ من الصوفية - إلى ضرورة الاهتمام
بصحة الحديث ونفي زائفه والإعراض عن ضعيفه، كل ذلك جعله عالم عصرنا في
الحديث الشريف والسنة النبوية المطهرة؛ مما جعل علماء المسلمين المنصفين
الأوفياء للحق يشيرون إلى منزلته؛ ولا أدل على ذلك مما يروى من إشادة الشيخ
عبد العزيز بن باز - رحمه الله - به؛ حيث قال: (ما رأيت تحت أديم السماء
عالماً بالحديث في هذا العصر الحديث مثل العلاَّمة محمد ناصر الدين الألباني) .
ومما امتاز به الشيخ الألباني - رحمه الله - أنه كان متواضعاً كما ينبغي للعالم
أن يكون، ولا يتردد في قبول زيارة من يزوره، ولا يبخل ببذل العلم لطالبيه، ولم
يجعل بينه وبين الناس حاجباً، ولا تأخذه في الله ولا في ما يراه حقاً لومة لائم، ولم
يكن يتترس بحاكم ولا سلطان؛ فهاجر بدينه وعلمه وغادر مدرج طفولته وشبابه
وكهولته (دمشق) وجنة علمه (المكتبة الظاهرية) إلى أرض الله الرحبة التي أتاحت
له متابعة مهمته العلمية وفتحت الباب إليه ليزوره ويلتقي به العديد من المهتمين
بالإسلام من مختلف أصقاع الأرض.
وإن المرء ليعجب كيف أتيح لهذا الرائد الحصيف الجمع بين هذا الانفتاح
على الناس وبين الإنتاج العلمي الغزير؟ وما ذلك - كما يتراءى للمطلع على
سيرته أو جانب منها - إلا أن يدرك أن لدأبه وجده وصدق توجهه لخدمة الرسالة
المحمدية بحرص وأمانة أكبر الأثر في هذا النجاح الكبير في المهمة التي أخذ على
عاتقه القيام بها ألا وهي: (التصفية) ويعني بها قبل كل شيء: تصفية السنة
النبوية مما علق بها مما ليس منها. وبقيت الأخرى: (التربية) ويعني بها: تربية
الناس على التمسك بشرائع الإسلام، التي نأمل من الله أن يوفق تلامذته الذين كانوا
لصيقين به وتلقوا منه عن كثب أن يتابعوا الطريق التي رباهم عليها وعلى رأسها
ابتغاء وجه الله ونشدان الحق مهما كان وأين كان والصبر عليه؛ وعند ذلك يمكن
أن يتحقق تصوره - رحمه الله - للوسيلة التي كان يرى فيها صلاح الأمة.
وقد كان الشيخ - رحمه الله - حريصاً على تربية تلاميذه القريبين منه
والبعيدين عنه على الأخذ بمكارم الأخلاق وأرقى المعاملات؛ ومن ذلك أنه رباهم
على خلق الاعتراف بالخطأ والبعد عن المكابرة؛ فإذا اختلف اثنان منهم عمد
المخطئ إلى الاعتراف بخطئه والتلفظ بكلمة: (أخطأت) التي رباهم عليها، فتنطفئ
الفتنة ويُخزى الشيطان. أما هو - رحمه الله - فقد تجلى هذا الخلق في كتبه
ومؤلفاته، ولطالما تراجع عن رأي في حديث أو رأي علمي أثبته في أحد كتبه ثم
جاء في طبعة تالية ليخطِّئ نفسه فيه مثبتاً للصواب الذي تبدَّى له مذعناً للحق؛
فالحق أحق أن يُتَّبع، ولم يكن يجد غضاضة في التراجع عن خطأ علمي أو منهجي
ظهر له الصواب في غيره؛ وهذه سيما العلماء من الرعيل الأول، وما أكثر ما
يُقرأ لأحدهم أن هذا رأيه اللاحق وذاك رأيه السابق؛ فلقد علموا أن الرجوع عن
الخطأ ليس منقصة وإنما هو فضيلة لا يُحرَمها إلا مكابر معاند أو رجل تقوقع
الإيمان في قلبه؛ وخاصة إذا كانت المسألة مما يخص العقيدة ومما ينبغي تنزيه
الرسالة عنه فعند ذلك يصبح الرجوع عن الخطأ ديناً لا رأياً؛ فإن ذلك من الأمانة
الدينية والعلمية، وهذا دأب المحققين الأوفياء لدينهم الحريصين على إيصال كلمة
الحق إلى الناس خالصة من كل شائبة وعائبة.
ولكن قد يتساءل متسائل: ما الذي دفع الشيخَ للاهتمام بالسنة النبوية المطهرة
والذب عنها، ولم يكن في الناس حوله من يشغله ذلك أو يُعنى به؟ وفي هذا الصدد
يروي تلميذه فضيلة الشيخ محمد عيد عباسي - حفظه الله - السبب المباشر في ذلك، فيقول: (في أحد أعداد مجلة المنار قرأ للشيخ رشيد رضا - رحمه الله - مقالاً
عن كتاب (إحياء علوم الدين، للغزالي) يبين فيه كثيراً من محاسن الكتاب ومنها أنه
كتاب علمي وتربوي؛ إلا أنه يعيبه أمران:
1 - احتواؤه على شطحات صوفية.
2 - امتلاؤه بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.
وقد أشار الشيخ رشيد رضا إلى أن الحافظ العراقي قد بين أحوال الأحاديث
الواردة فيه من حيث الصحة أو الضعف أو الوضع.
ولقد لفت كلام الشيخ رشيد رضا انتباه الشيخ الألباني وأثار اهتمامه بالكتاب
وبمسألة تلك الشطحات والأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ فسارع إلى سوق المسكية
في دمشق وكان يُعدُّ شارع المكتبات؛ ليستأجر المجلد الأول من الكتاب؛ فلم يكن
بمقدور الشيخ الشاب أن يقتني الكتاب شراءاً وتملكاً، وأقبل على الكتاب قراءةً
وتفحصاً؛ إلا أن همه انصبَّ على الأحاديث الواردة فيه؛ فنقل إلى كراساته متون
الأحاديث وإلى جانب كل حديث تخريجات الحافظ العراقي وتعليقاته؛ حتى تشكَّل
له كتاب خالص محض للحديث كان مدرسته الأولى ومنهجه الذي لازمه طيلة
مسيرته العلمية التي حفَّزته على سلوك هذا السبيل المبارك بالإضافة إلى قراءاته
ومراجعاته المتعددة) .
ولقد كان الشيخ - رحمه الله دقيقاً في عمله أميناً في مهمته حريصاً على
صورة واضحة لعمله تمكِّن لطالب العلم الإفادة منها بيسر وسهولة؛ ولعل لمهنته في
إصلاح الساعات أثراً فيما صدر عنه من أعمال تميزت بالدقة والإحاطة والاستعداد
للتراجع عن الخطأ الذي يشبه من أحد وجوهه خطأ الساعة القابلة للإصلاح.
لم تتطاول الساعات الزمنية في عمر الشيخ - رحمه الله - ولم تتقزَّم؛ بل
بُورك له فيها لأنه كان حريصاً على إفنائها في مرضاة الله؛ فبورك له في وقته،
وهُيئت له سبل البحث مع استعصامها في ذلك الوقت على كثير من أبناء الأمة
وطلبة العلم.
ولطالما كان العلامة الشيخ الألباني - رحمه الله - المدافع القوي عن دين الله، والساعي الحثيث في إعلاء شأن الحديث.
وحين نتحدث عن الشيخ - رحمه الله - فإننا لا نتحدث عن معصوم وإنما عن
عالم بزَّ لِداته، وفاق أقرانه وتميز عنهم، واختط لنفسه ولغيره من بعده طريقاً رأى
فيها خدمة الدين علماً وعملاً، وأشاع في الأوساط العلمية نهجاً جديداً يستند إلى
التأصيل والرجوع إلى الدليل، وأبرز مكانة السنة النبوية الصحيحة وأثرها الحسن
في نهضة الأمة في شتى مناحيها الفكرية والعملية؛ كما فضح السنة المنحولة وحذر
من أثرها السيئ على الأمة، وكان مثلاً للعالم العامل المؤثِّر الذي يخالط الناس فلا
يستعلي على أحد منهم ولا يحتجب عنهم، ويفتح صدره وبيته للسائلين علماً يُنتفع
به يقربهم إلى الله، ويوطِّئ كنفه لكل طالب علم يرجو منفعة في دينه ودنياه.
رحم الله شيخ السنة والحديث، وجعله في عليين مع الأنبياء والشهداء
والصديقين؛ وحَسُن أولئك رفيقاً، وعوَّض الأمة أمثاله ومن هو خير منه، والحمد
وأولاً وآخراً، وإنا ووإنا إليه راجعون.