الإسلام لعصرنا
الانفراط العظيم الأسباب
والآثار
أ. د. جعفر شيخ إدريس
ما زلنا نستعرض بعض ما جاء في كتاب الانفراط العظيم لعالم السياسة
الأمريكي الشهير فوكوياما.
الأسباب:
يبدأ الكاتب في شرحه للأسباب التي أدت إلى ذلك التمزق في المجتمعات
الغربية بمقدمة منهجية معقولة هي أنه ما دامت مظاهر هذا التمزق عامة في كل
الدول الغربية الصناعية، وما دامت قد حدثت مجتمعة، وفي فترة زمنية محددة،
فإن هذا يدعونا لأن نبحث لها عن أسباب في أمر أو أمور مشتركة بين هذه الأقطار، لا في الأسباب الخاصة ببعضها دون بعض.
ويرى تبعاً لذلك أن السبب الأساس لها كان تحولاً ثقافياً، تحولاً قيمياً تمثل في
اشتداد النزعة الفردية، وأن أعظم ما أثرت فيه هذه النزعة الفردية هو العلاقات
بين الجنسين، والأسرة على وجه الخصوص. وأن مظاهر ذلك الانفراط أو التمزق
نشأت كلها تقريباً عن التفكك الذي أصاب الأسرة.
لكنه يعود فيقول: إن القول بأن عزو سبب الانفراط إلى تغير في الثقافة -في
القيم- مصادرة على المطلوب؛ إذ إن السؤال ما يزال باقياً: لماذا حدث هذا التغير
في القيم في كل هذه البلاد المتقدمة صناعياً، وفي فترة معينة من الزمان؟
ويعترف بأن التحولات القيمية لها أسباب كثيرة؛ لكنه يرى أن أهم أسبابها في
هذه الفترة التي يدرسها أمران جاء بهما التطور العلمي، هما: حبوب منع الحمل،
والإجهاض الآمن.
يقول: إن حبوب منع الحمل وتوفُّر الإجهاض أَذِنا للنساء - لأول مرة في
التاريخ - بأن يتعاطين الجنس بلا خوف من العواقب، وأن هذا جعل الذكور
يشعرون بالتحرر من القيم التي كانت تفرض عليهم مسؤولية العناية بالنساء اللاتي
حملن منهم.
ويقول: إن الذي كان يمنع النساء من استبدال زوج يناسبهن مكان الزوج
الذي يعشن معه، ويكتشفن أنه لا يناسبهن هو أنهن لم يكُنَّ قادرات على الإنفاق
على أنفسهن بسبب أنهن لم يكن يعملن، فلما عمل النساء وصارت دخولهن تزداد
باطراد وجدن أنه بإمكانهن أن يربين أطفالهن من غير عون من الأزواج، لكن
إنجاب الأطفال يقلل من فرص المرأة في العمل؛ فلكي تنجب المرأة فإما أن لا
تعمل إطلاقاً، وإما أن تتوقف عن العمل لفترات، فإذا كانت حريصة على العمل
فإنها ستلجأ إلى الحد من الإنجاب، ثم إن قلة الأطفال تزيد بدورها من احتمالات
الطلاق؛ لأن الأطفال هم (الرأسمال المشترك) بين الزوجين. ويقول: إن هناك
دلائل تجريبية كثيرة تؤكد الصلة بين الدخول العالية للنساء وبين الطلاق والإنجاب
خارج نطاق الزوجية، ثم إن ازدياد معدلات الطلاق يؤدي بدوره إلى عدم ثقة
النساء باستمرار الحياة الزوجية، ويدفعهن إلى تأهيل أنفسهن للعمل، كي يضمَنَّ
مستقبلهن. ثم إن التحول من العصر الصناعي إلى عصر المعلومات زاد من فرص
النساء في العمل؛ وذلك لأن الأعمال ذوات الرواتب العالية لم تعد تلك التي تحتاج
إلى جهد جسدي لا يقوى عليه إلا الرجال، بل تلك التي تحتاج إلى جهد عقلي،
كالعمل في مجال الحاسوبات، وهو أمر ينافس فيه النساءُ الرجالَ.
الآثار:
يذكرنا الكاتب بما قال في بداية كتابه من أن الجريمة وانهيار الأسرة وتناقص
الثقة هي معايير سلبية لما سمي بالرأسمال الاجتماعي (معايير سلبية بمعنى أن
زيادتها تدل على نقص في رأس المال هذا) ، وكيف أثر ذلك التغيير في القيم على
رأس المال الاجتماعي هذا؟ وكيف أثر في مقدرة الناس على الاجتماع لتحقيق
غايات تعاونية؟ وكيف أثر على مستوى الثقة بينهم؟ يذكر الكاتب آثاراً نوجزها
فيما يلي:
1 - إن نصف السكان في أوروبا واليابان ستكون أعمارهم أكثر من خمسين
عاماً في غضون العقدين القادمين، وسيؤدي هذا - بالإضافة إلى ما يصحبه من
نقص في عدد السكان - إلى نقص في الدخل القومي، ثم يؤدي هذا كله إلى ضعف
هذه الأقطار وقلة تأثيرها على المسرح العالمي.
2 - وأن الدول الاسكندنافية التي هي الأعلى في نسبة التفكك الأسري، هي
الأعلى أيضاً في نسبة التوحد؛ إذ إن خمسين بالمائة من البيوت صارت تتكون من
شخص واحد، بل إنه في مدينة أوسلو (عاصمة السويد) بلغت النسبة خمساً وسبعين
بالمئة!
3 - أثبتت كثير من الدراسات في الولايات المتحدة أن تأثير الأسرة والأقران
على أداء الطلاب أعظم مراراً من كل العوامل التي هي بيد السياسة التعليمية العامة
كرواتب المدرسين، وأحجام الفصول الدراسية، والصرف على التسهيلات
الطلابية؛ لكنه يرى أن النساء لسن هن المسؤولات عن هذا، وأن الحل لا يكون بعدم خروجهن إلى مكان العمل. لكنه يرى في الوقت نفسه أن قائدات الحركة النسوية قد بالغن في إطراء عمل المرأة، وغفلن عن تأثيره على الأطفال، وهو تأثير لازم وواقع، وسيستمر كذلك حتى يتطور العلم فيريحهن من عبء الحمل والإنجاب! !
4- إن ضرر الجريمة لا يقتصر على من يقع ضحية لها، بل يتعداه إلى
المجتمع كله، وذلك أن انتشار الجريمة يقلل من ثقة الناس بعضهم ببعض، ويعوق
أو يحول دون تعاونهم؛ بل إن الجريمة لتؤدي إلى جعل المجتمع مجتمعاً ذرياً
يحصر كل إنسان فيه اهتمامه في نفسه وفي أقرب الناس إليه. من ذلك - مثلاً -
أن الجيران كانوا يتعاونون جميعاً على تربية أولادهم، وأما الآن - وبعد أن كثر
الاعتداء على الأطفال - فإذا رأى والد شخصاً يؤنب ولده فالاحتمال الأقرب أن
يتصل بالشرطة.
ما المخرَج؟
هل كان الانفراط هذا ضربة لازب؟ هل كان أمراً حتَّمه التطور التقني، أم
أنه كان بملك الناس أن يتفادوه؟ يرى الكاتب أن الوسائل الاختيارية المتاحة للناس
للتأثير في سير أحداثهم الاجتماعية تتمثل في أمرين، هما: السياسات العامة (يعني
ذلك التي ترسمها وتنفذها الجهات المسؤولة) ، والثقافة الشائعة بين المواطنين وما
تتضمنه من قيم، ويقول: إن كوريا واليابان وبعض الدول الكاثوليكية استطاعت أن
تقلل من تأثير التطور التقني بسبب اختلاف ثقافاتها عن الثقافة الشائعة في
المجتمعات الغربية؛ لكنه يرى أن محاولاتهم هذه إن أخرت حصول تلك النتائج
التي حصلت في البلاد الغربية، فلن تستطيع الحيلولة دون وقوعها، ثم يتساءل:
هل معنى ذلك أن المجتمعات الليبرالية المعاصرة صائرة لا محالة إلى مستويات
أدنى فأدنى من الانحطاط الخلقي والفوضى الاجتماعية حتى تنفجر من الداخل؟
يرى أن الأمر ليس ميئوساً منه إلى هذه الدرجة وأن هنالك حلاً. فما هو؟ نجيب
عن هذا في مقالنا القادم - إن شاء الله -.