نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
-3-
محمد العبدة
يرى مالك بن نبي أن من عوائق النهضة الحديثة الأمراض الاجتماعية
والفكرية التي أصابت المسلمين نتيجة عهود الضعف والانحطاط، وقد ذكرنا في
نهاية المقال السابق أمثلة على ذلك، ونتابع في هذا العدد بإذن الله آراء هذا المفكر
في تشخيص الداء.
طغيان عالم الأشخاص:
عندما يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمبدأ أو الفكرة فإنهم يرون أن
إنقاذهم من الحالة التي هم عليها بـ (البطل القادم) الذي ينتظرونه دون أن يقوموا
بجهد يذكر. فالخلاص لا يتم بتجمع أناس على مبدأ يدافعون عنه، ويتفانون فيه،
ويتقنون فن التعاون؛ بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم، وقد يطول انتظارهم وهم
يمنون أنفسهم بالأماني، وهكذا نسمع الخطباء لا يفتأون يذكرون (أين صلاح الدين)
أو (قم يا صلاح الدين) ، فهم يريدون (صلاحاً) آخر ينقذهم، ولاشك إن (إجلال
رجل القدر) مثل إجلال (الشيء الوحيد) مرض منتشر في أرجاء العالم الإسلامي،
وهو أحياناً السبب في إفلاس فادح لسياسات عديدة [1] وقد لا يكون هناك رجل
القدر ولكن (رجل النحس) الذي نلقى عليه كل ضعفنا وفشلنا، وبدلاً من أن نتدبر
الأحداث، ونبحث بطريقة أعمق عن الأسباب الحقيقية لفشلنا يمكن بكل سهولة أن
نلصق التهمة بـ (رجل النحس) . فعندما وقع انفصال سورية عن مصر عام
1961 قالوا: إن السبب هو رجل النحس (حيدر الكزبري) ولكن من الواضح أن
الانقلاب كان لابد واقعا في وجود الكزبري أو في غيابه، فجيم عوامل التشجيع
على هذا الانفصال كانت متوفرة، سواء من الأخطاء التي وقعت أو من عدم توفر
فكرة مضادة للانفصال [2] . وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها
فتحسب كل أخطائهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي أو على الإسلام، وقد
تتجسد بأشخاص يحملونها ولكن إذا ماتوا انتهت هذه الأفكار بموتهم، أو فتر حماس
الأتباع، لقد مارس العالم الإسلامي، دور البطولة في كفاحه ضد الاستعمار عندما
بزغ في سمائه أبطال مثل عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وعز الدين القسام.. ولكن مشكلة المسلمين الأساسية لم تحل (لأن من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت
إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد) [3] ولا يعني هذا
إنكار دور هؤلاء الأبطال، أو التقليل من شأنهم، ولكنها العودة إلى الأصل وهو
إنشاء تيار إسلامي قوي يتعلق بالمبدأ ويقوم بالجهد الجماعي، ولذلك جاءت الآية
القرآنية حاسمة في هذا الموضوع، إن الواجب على المسلمين قيادة الدعوة وحمل
الرسالة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: [ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] [آل عمران: 1144] .
يركز مالك بن نبي في أكثر كتبه على هذا المرض، ويطالب المسلمين،
والشباب بشكل خاص، بأن يتحول للارتباط بالمنهج لا بشخص معين، لأن هذا
الشخص مثل الرأس الذي يقود عربات القطار، فإذا انحرف انحرف القطار كله،
وهذا الذي يثيره الأستاذ مالك صحيح بشكل عام ولكنه بالغ في تهميش دور
الأشخاص مع أنهم هم الذين يحملون الفكرة ويجسدونها عملياً حتى يقتنع الناس بها،
وكلامه فيه شيء من التجريد والمثالية، وهذا الإسلام، وهو حق صريح، إذا لم
يحمله أشخاص يتمثلونه ويثرونه بين الناس فلا ينتشر إلا قليلاً.
طغيان الأفكار:
إذا كان هناك طغيان في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، فقد يصل الأمر إلى
طغيان في عالم الأفكار، فعندما يكون المجتمع في حالة مضطربة، فلا هر بداية
دخول الحضارة، ولا هو خارج تماماً عن الحضارة، في هذه الحالة قد يفقد المتعلم
تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره،
عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق، وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن
الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد
أبطالها، وتدفع المطابع كل يوم عشرات الكتب التي لا تمس الواقع المعاش بل هي
هروب مفتعل من الواقع، وقد تطغى الأمور النظرية على مدرس في الجامعة
فيتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات
بدلاً من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة،
ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شئ بالنسبة له [4] .
وتد بملغ الخلل في عالم الأفكار، إلى درجة أن يعرقل المبادرات والجهود،
وهو ما يسميه مالك بن نبي (الأفكار الميتة) (فالبديهيات في التاريخ، كثيراً ما قامت
بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها حالت دون
اكتشاف أمريكا قروناً طويلة) [5] ، والبوصلة التي ساعدت كولومبس على اكتشاف
أمريكا هي من اختراع المسلمين! ، وقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً
دواؤها الرطوبة ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد الفكر فلو استسلم الطب
لحكمة كهذه مع صلاحيتها في بعض الظروف لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف
العلاج النافع لداء (الكلب) مثلاً [6] .
ولا شك أن هناك كثيراً من الأفكار خذلت أصحابها لأنها لا تحمل أصولاً
صحيحة، فكم أهدر من الوقت في جدل ومناقشات، وكم سودت من صفحات مبنية
على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وكم عاش المسلمون متأثرين بأفكار الصوفية
التي تدعو إلى البطالة والزهد غير المشروع حيث كان مثلهم الأعلى (المجاذيب) .
الحق والواجب:
يميل الفرد بطبيعته إلى نيل حقه، وقد ينفر من القيام بواجبه، والأمة التي
تصاب بمرض (السهولة) وعاشت قروناً من التخلف، فإن من أهون الأشياء عليها
التي لا تكلفها كثيراً هو المطالبة بالحقوق، ونسيان الواجبات، فهي تشبه الكائن
(الأميبى) المتبطل، حتى إذا رأى فريسة هينة ابرز إليها ما يشبه اليد ليقنصها، ثم
يهضمها في هدوء وبقى هذا االكائن يأكل من حاجاته المتواضعة حتى إذا جاء
الاستعمار لم يدع له شيئاً فتحرك ضميره (أي معدته) فمد يده إلى فريسة وهمية
أطلق عليها لفظة (الحق) [7] .
وكان هذا منشأ سياسة الدجل التي مارسها من يتقن هذه الأدوار، وللمطالبة
بالحقوق إغراء شديد فهي كالسم لا يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة
الواجب لا تجتذب غير (النافعين) [8] ، وعندما يستغلها الزعماء المهرجون لتجميع
الغوغاء من الشعب ويلعبون بمفتاح (الحقوق) فسيكون من الصعب أن يستخدموا
مفتاح الواجبات وتتحول الأمة إلى استجداء حقوقها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن
والرأي العام العالمي ولكن ما من مجيب، لأن هذه الأصنام ما نصبت إلا لتخدير
الشعوب وتعليمها لغة الاستجداء.
وعلى الصعيد السياسي فإن كلمة الواجب توحد وتؤلف بينما كلمة الحق تفرق
وتمزق، وهكذا ما خرجت دولة من دول العالم الثالث من ربقة الاستعمار إلا
وتناحرت أحزابها على المطالبة بحق اقتسام الغنيمة، بدلاً من أن يتكلموا عن
الواجبات، وهذا ما حصل في الجزائر، واليمن الجنوبي، ونيجريا،
والكونغو … [9] .
ومن الأمثلة التي ترويها ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي حول هذا الموضوع:
(شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين يقفون من
قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديراً
بالملاحظة، فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض
الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، وهم في هذا كله
يهاجمون الاستعمار في خطب ملتهبة بالحماس متقدة بالوطنية، وهكذا يستمرون في
خطبهم ومقالاتهم حتى تتقطع أنفاسهم عن الكلام، وتمر الأعوام تلو الأعوام
والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق
حلها، لقد أصدرت الحكومة الفرنسية عام 1940 قوانين استثنائية قاسية حول
تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية (مسايرة لألمانية الهتلرية)
وشعرت الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية غير أنها لم تكتب مقالة
واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر، وإنما
اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، وحددت موقفها بأن
يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، وهكذا أصبح كل بيت من بيوت
المتعلمين مدرسة في ساعات معينة، ولا نستطيع أن نبرر هذا بتفوق اليهود المادي
أو العلمي لأننا لا نستطيع أن نفترض أن الدكتور أو الصيدلي أو المحامى اليهودي
أغزر علماً من زميله الجزائري، فالاختلاف هو في الموقف الاجتماعي إزاء مشكلة
معينة) [10] .
مثال آخر يتذكره ابن نبي وهو يحلل هذه المشكلة: (وبدلا من أن تكون البلاد
(الجزائر) ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات فإنها أصبحت منذ سنة1936 ,
سوقاً للانتخابات، وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب
الانتخابية، وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب،
أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، وفى هذا اختلاس أي اختلاس للعقول
التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها) [11] .
وهذا المرض لا يزال مسيطراً على العقول، فكثيراً ما نسمع في قرية من
القرى أو حي من الأحياء المطالبة بحقهم في فتح طريق أو تنظيف شارع أو فتح
مدرسة، وكان بوسعهم أن يتعاونوا لإنجاز مثل هذا العمل. وكان الرسول صلى الله
عليه وسلم يعلم الناس القيام بالواجب عندما أعطى الذي جاء يطلب صدقة حبلا
وفأسا وأمره أن يحتطب ولا يتكفف أيدي الناس [12] .
العقلية الذرية:
يقصد بهذا المصطلح أن بعض الناس (ينظر إلى الأحداث والوقائع مجزأة
منفصلة فردية، كأنما في مجموعها لا تكون حلقة من التاريخ وإنما كوماً من
الأحداث) [13] .
وهذه العقلية موجودة في أوساط المسلمين بسبب بعدهم عن (الفعل الحضاري)
وبسبب التكوين الاجتماعي الذي ورثناه، ومن مظاهرها (أن جهودنا في كل مجال
لا تتسمم بالجهد المتواصل ولكن بالمحاولات المتتابعة، فما أن يبدأ نشاط ما حتى
يذهب فجأة كأنه وثبة برغوث أو كأنه مركب على صورة الخط المنقط الذي يمر من
نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً، ولنعتبر على سبيل المثال كم منذ نهاية
الحرب ظهرت مجلة في بلادنا ثم اختفت بنفس السرعة) [14] .
ومن مظاهر هذه العقلية (العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة) [15] (وإذا كان من الممكن تجزئة المشكلة لتجزئة حلولها (فكل الطرق تؤدي إلى روما) ولكن الطريق عبر المنهج هو أطول الطرق بلا شك، إن طريق الحضارة لا يمكن خطه بإقامة مدرسة هنا ومصنع هناك وسدٍّ هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات) [16] .
ولو أننا تعودنا الربط والتعميم وتتبع الجزئيات من الكليات لما استغربنا تشابه
المشكلات الخارجية التي يواجهها العالم الإسلامي، فالعالم الذي نواجهه (الاستعمار)
لا تأتى فيه الأشياء عفواً وإنما كنتائج لخطط محكمة، فعندما تفشل بعثة علمية في
بلاد الغرب أو أحد أفراد هذه البعثة نفاجأ: كيف حصل هذا؟ [17] .
ولو تتبعنا بعض الظواهر المحيرة في العالم الإسلامي لوجدنا أن المحرك لها
واحد، ولكن عقلية تجزئ الأشياء تجعلنا لا نشعر بالقاسم المشترك فيما بينها.
إن هذا النزوع نحو تجزئة مشكلة الحياة إلى ذرة ذرة، وهذا العجز عن
التعميم ليس من خواص الفكر المسلم كما يحاول أن يؤكده المستشرق الإنكليزي
(جب) (بل هو طراز للعقل الإنساني بعامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من
النضج، وإن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية يظل شاهدا
على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية بالإحساس (بالقانون)
وهو يستلزم القدرة على التركيب، وأصول الفقه الإسلامي أكبر دليل على
ذلك) [18] .
التعالم والحرفية في الثقافة:
عانت مجتمعاتنا في عصور الضعف مشكلة (الأمية) والجهل ولكنها عندما
حاولت النهوض أصيبت بمرض مستعص وهو (التعالم) أو الحرفية في التعلم وحمل
اللافتات العلمية (وإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا
للمريض الثاني لا سبيل إليها لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيّره ضميرا
فعّالاً، بل ليجعله آلة للعيش، وسلماً يصعد به إلى (الوظيفة) ، وهكذا يصبح العلم
عملة زائفة غير قابلة للصرف، وإن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل
المطلق، فالجاهل هنا لا يقوّم الأشياء بمعانيها، ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما
بحسب حروفها، وكلمة (لا) تساوي عنده (نعم) لو احتمل أن حروف الكلمتين
متساوية.
وكلام هذا المتعالم ليس (كتهتهة) الصبي فيها براءة وإنما (تهتهة) يتمثل فيها
شيخوخة وداء عضال، فهو الصبي المزمن) [19] .
لقد تحولت اللافتات العلمية زينة تتصدر المجالس، وألقاباً للتفاخر ذلك أن
نزعة المديح والألقاب قد أسرتنا منذ عهود الانحطاط، فألقاب مؤلف أي كتاب لابد
أن تملأ نصف الصفحة الأولى على الأقل، فهو العالم العلامة والحبر الفهامة ...
ونظرة إلى الصحف الآن التي تعيش على المدح تكفى لنعلم كم نعيش تحت
أسر الكلمات الطنانة التي ليس لها معنى، وإنما هو الغرام الأحمق بمجرد الكلام،
(وفى هذا ضرر كبير على كيان الأمة لأنها تفقد حاسة تقدير الأمور على وجهها
الصحيح) [20] ، ويصبح المثل الأعلى من هو أقدر على الكلام ولو لم يكن له أي
دور اجتماعي (وقضية الجهل لا تعالج بمجرد وضع البرامج التعليمية، بل يجب
أن يكون أولاً عملية تصفية نفسية، وبكلمة واحدة أن يكون التعليم بناء الشخصية
الجديدة) [21] .
هذه نماذج لبعض الأمراض التي تعيق النهضة كما يراها مالك بن نبي، ولم
نتعهد الاستقصاء، وقد يقال هنا: كيف لا يذكر أصل الداء وهو بعد الناس عن فهم
العقيدة الإسلامية الصافية، عن فهم التوحيد كما جاءت به الرسل عليهم السلام،
وللجواب على هذا نقول:
إن مالك بن نبي كمفكر يهتم بشؤون النهضة والإصلاح ويشخص الأمراض
الاجتماعية التي أصابت العالم الإسلامي والتي تعيقه عن النهوض، فقد يكون المسلم
صاحب فهم سليم ولكن فيه هذه الأمراض، فهو يعالج هنا كالطبيب المتخصص.
2 -كان مالك بفطرته يعلم أن الرجوع إلى منهج خير القرون هو الصواب،
ولذلك انتقد منهج المدرسة الإصلاحية في إحيائها (لعلم الكلام) يقول منتقداً الشيخ
محمد عبده الذي (ظن كما ظن فيما بعد الدكتور محمد إقبال أن من الضروري
إصلاح علم الكلام بوضع فلسفة جديدة حتى يمكن تغيير النفس، بيد أن كلمة (علم
الكلام) ستصبح قدراً مسلطاً على حركة الإصلاح الذي حاد بها جزئيا عن
الطريق) [22] .
(وعلم الكلام يمجد الجدال ويشوه المشكلة الإسلامية، ويفسد طبيعتها، حيث
يغير المبدأ السلفي في عقول المصلحين أنفسهم) [23] .
3- إن مالكًا كغيره من المفكرين وكثير من المسلمين يظنون أن العقيدة هي
الإيمان بالله ولا يفرقون بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد يؤمن الإنسان
بوجود الله، ولكنه يعرض عن عبادته والخضوع لشرعه، والرسل دعت الأمم
لعبادة الله وحده، يوضح تصوره هذا قوله: (والمسلم - حتى ما بعد الموحدين -
لم يتخل مطلقا عن عقيدته، فلقد كان مؤمنا، ولكن عقيدته تجردت عن فاعليتها،
وإن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي أن نشعره
بوجوده ونملأ به نفسه) [24] . إن ضعفه في العلوم الشرعية جعله لا يتبين أهمية
فهم التوحيد فهما صحيحاً، وأن الخلط في هذا الموضوع هو أس البلاء.