مجله البيان (صفحة 321)

هجر المبتدع

الشيخ بكر أبو زيد

تكلم المؤلف في الحلقة السابقة عن مقاصد الإسلام في الهجر، وعن أهمية

ذلك الهجر لردع المبتدع وإشعاره بانحرافه وابتعاده عن الطريق السوي، ثم تكلم

عن أنواع الهجر فقسمها إلى ثلاثة أنواع، تكلم في الحلقة السابقة عن النوع الأول

وهو هجر الترك، وفي هذه الحلقة يكمل أنواع الهجر.

****

الثاني: الهجر لاستصلاح أمر دنيوي، أي (الهجر لحق العبد) : وفيه جاءت

أحاديث الهجر بما دون ثلاث ليال، رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم،

بأسانيد في الصحيحين وغيرها [1] ، وجميعها تفيد أن الشرع لم يرخص بهذا النوع

من الهجر بين المسلمين إلا بما دون ثلاث ليال، كما لم يرخص في إحداد غير

الزوجة أكثر من ثلاث.

ومن الهجر هنا: هجر الوالد لولده، والزوج لزوجته، وقد هجر النبي صلى

الله عليه وسلم نساءه شهرا.

عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا

تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل

لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) .

وبعد أن بين الخطابي رحمه الله تعالى: أن ما وراء الثلاث على المنع قال:

(فأما هجران الوالد ولده والزوج لزوجه، ومن كان في معناهما فلا يضيق أكثر من

ثلاث، وقد هجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءه شهراً) . ا. هـ[2]

وهذا النوع من الهجر من مباحث الرقاق والآداب.

النوع الثالث: الهجر قضاء، وهو من العقوبات التعزيزية للمعتدين، وهذا

يبحثه الفقهاء في باب التعزيز [3] .

المبحث الثالث

شروط الهجر:

الهجر الشرعي للفجار من المبتدعين، والفساق (عبادة) ، والعبادة لابد من

توفر ركنيها:

الإخلاص، وهو ميزان الأعمال في باطنها.

والمتابعة، وهو ميزان الأعمال في ظاهرها.

فلابد من أن يكون الهجر: خالصاً صواباً، فالهجر لهوى النفس: ينقض

الإخلاص، والهجر على خلاف الأمر: ينقض المتابعة. والله أعلم.

المبحث الرابع

صفات الهجر: [4]

الأصل في الهجر هو الإعراض بالكلية عن المبتدع والبراءة منه.

ومن مفرداته:

عدم مجالسته.

الابتعاد عن مجاورته.

ترك توقيره.

ترك مكالمته.

ترك السلام عليه.

ترك التسمية له.

عدم بسط الوجه له مع عدم هجر السلام والكلام.

عدم سماع كلامه وقراءتهم.

عدم مشاورتهم.

وهكذا من الصفات التي يتأدى بها الزجر بالهجر، وتحصل مقاصد الشرع.

المبحث الخامس

منزلة الهجر من الاعتقاد:

يؤصل علماء الإسلام (هجر المبتدع ديانة) تحت القاعدة العقدية الكبرى (قاعدة

الولاء والبراء) [5] .

ومفهوم هذه القاعدة الشريفة لدى أهل السنة والجماعة هو: الحب والبغض في

الله، فهم يوالون أولياء الرحمن، ويعادون أولياء الشيطان، وكلٍ بحسب ما فيه من

الخير والشر.

وفي حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:

(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره المرء أن يعود في الكفر كما يكره أن

يقذف في النار) متفق عليه [6] .

وعن أبي إمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، فقد استكمل الإيمان» رواه أبو داود

والضياء [7] .

يحيى بن معاذ: (حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص

بالجفاء) [8] .

وهذه القاعدة من مسلمات الاعتقاد في الإسلام، لكثرة النصوص عليها من

الكتاب والسنة والأثر [9] .

ومن أولى مقتضياتها - التي يثاب فاعلها ويعاقب تاركها - البراءة من أهل

البدع والأهواء، ومعاداتهم، وزجرهم بالهجر ونحوه، على التأبيد حتى يفيئوا،

وهذا موفور في عامة كتب اعتقاد أهل السنة والجماعة [10] .

واكتفى بما أصله الإمام أبو إسماعيل الصابوني م سنة 449هـ رحمه الله

تعالى إذ قال:

(ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا

يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الديني، ولا

يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان قَرّت

بالآذان وقرت بالقلوب ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما

جَرَّت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله [وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في حَدِيثٍ غَيْرِهِ] .

ثم ذكر علامات أهل البدع، وعلامات أهل السنة، ثم قال: (واتفقوا مع ذلك

على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم

ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم…)

اهـ[11] .

والعقوبة بالهجر للمبتدع إحدى العقوبات الشرعية التي ينزلها أهل السنة

بالمبتدعة، حسب البدع والأهواء التي يتلبسون، بها، ومنها ما تقدمت الإشارة إليه

والله أعلم.

المبحث السادس

الأدلة من الكتاب والسنة على هجر المبتدع ديانة:

هذا التأصيل العقدي: الزجر بالهجر للمبتدع ديانة، مستمد من دلائل:

الكتاب، والسنة، والإجماع وإلى بيان بعض منها:

أولا - الكتاب العزيز:

ففيه آيات كثيرة في التأكيد على) الموالاة في الله، والمعاداة فيه، في سور:

البقرة، وآل عمران، والأنعام، والنساء، والمجادلة وغيرها [12] .

ونقتصر هنا على ذكر أربع آيات من سور: الأنعام، والنساء، وهود،

والمجادلة، والتي نص العلماء في تفسيرها على عقوبة المبتدع بالهجر ودلالتها

عليه، وذلك باعتبار عموم اللفظ في كل آية، وهذا هو المعتبر دون خصوص

السبب، ففي عموم كل آية منها دليل على الهجر والإعراض والاجتناب، ...

والمجالسة، لكل مبتدع محدث في الدين حتى يفيء، وعلى هذا تدل كلمة من تراه ...

من المفسرين وغيرهم.

وهذه من أجل الفوائد في تفسير النصوص من آية أو حديث، إذ يشمل

تفسيرها الأمرين:

الأول: ما هي نص فيه.

الثاني: ما يؤخذ منه حكم له وإن لم يكن نصا فيه باعتبار العموم والاستنباط

من كتاب الله تعالى وأسرار تنزيله، وكما في حديث الصحيفة المشهور. (أو فهماً

يؤتيه الله رجلا في كتابه) .

وهذه قاعدة شريفة فلا يفوتنك الوقوف عليها، وبخاصة لدى الإمام الشاطبي

رحمه الله تعالى، وعنه بل بأبسط في كتاب (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) [13] .

وإلى بيانها.

1-- ومنها قول الله تعالى في سورة الأنعام: 68 [14] :

[وإذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا في

حَدِيثٍ غَيْرِهِ وإمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ]

وفي هذه الآية دلالة على تحريم مجالسة أهل البدع والأهواء وأهل الكبائر

والمعاصي.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: (في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على

من زعم أن الأئمة الذين هم حجج، وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين،. ويصوبوا

آرائهم تقية، وذكر الفري عن أبي جعفر محمد بن علي رض الله عنه أنه قال: لا

تجالسوا أهل الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.

قال ابن العربي: وهذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل. قال ابن

خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافرا،

قال: وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو، وكنائسهم، والبيع ومجالسة

الكفار وأهل البدع، وألا تعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم، ثم ذكر

بعض الآثار عن السلف في هجر المبتدعة) اهـ[15] [16] .

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (وفى هذه الآية موعظة لمن يتسمح بمجالسة

المبتدعة الذين يحرفون. كلام الله، ويتلاعبون بكتاب وسنة رسوله، ويردون ذلك

إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل

الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره

معهم مع تنزهه عما يتلبسون، به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في

حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر. وقد شاهدنا من هذه المجالسة

الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا

عليه، وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها: علم أن

مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضاف أضعاف ما في مجالسة من

يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم

الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان

بأوضح، مكان فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه، فيعمل بذلك مدة

عمره، ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق، وهو من أبطل الباطل وأنكر

المنكر) اهـ[17]

- يتبع -

طور بواسطة نورين ميديا © 2015