مجله البيان (صفحة 3217)

دراسات تربوية

صفات المربي دراسة تحليلية

(1-2)

أحمد فهمي

إن تأمُّل تاريخ الدعوة يخبرنا أن كل من أحدث فتنة أو أثار مشكلة أو تنكَّب

طريقاً كان - غالباً - من الذين لم ينالوا التربية الكافية الراشدة في أوائل أمرهم.

وإذا اعتبرنا أن ركني التربية الأساسيين - من الناحية العملية -: منهج

واضح شامل (يمثل الشق النظري) ، ومربٍ كفء (يمثل الشق العملي) ، وأن

جوانب الخلل في العملية التربوية إنما تؤول في معظمها إلى الاختلال في هذين

الركنين، فإن حديثاً عن صفات المربي ومؤهلاته يتناول - ولا شك - نصف

قضية التربية وجانباً هاماً من أسباب مشكلاتها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنه النصف

الأهم الذي بدونه يتحول الكلام عن المنهج إلى حبر على ورق.

فمن ثم تبرز أهمية تحرير المواصفات الكاملة لشخصية المربي. وبادئ ذي

بدء ينبغي استعراض بعض الملاحظات التحليلية الهامة وصولاً إلى تحديدٍ أمثل لهذه

الصفات، وابتعاداً عن المغالاة أو التساهل.

1 - العوامل المؤثرة على المتربي:

وهي تحدث تغييرات متفاوتة بالسلب والإيجاب في مستواه التربوي في

مختلف جوانبه.

أهم هذه العوامل: المجتمع الذي يعيش فيه، ويخضع لقواعده ونظمه،

وتتحكم فيه أعرافه وتقاليده، ويؤثر فيه قربه أو بعده عن الإسلام، وكل ذلك

يحتوي - غالباً - على الكثير من المؤثرات الفاسدة والمعوقات الفاعلة التي تعرقل

نموه التربوي أو تؤخره أو تشوهه.

وأيضاً هناك الظروف الشخصية مثل: الحالة الأسرية، والاقتصادية،

والثقافية، والعلاقات الاجتماعية والشخصية.

وأيضاً هناك المجتمع المتدين نفسه الذي يحتويه ويرتبط معه بعلاقات الأخوة

والدعوة؛ فله تأثيراته المتفاوتة عليه.

وهذه العوامل - مع اختلافها - يجمعها: أن تأثر شخصية المتربي بها يتسم

بالعشوائية فيما صلح منها أو فسد؛ بحيث لو اعتمدنا نموه وَفْقَها فحسب، لوجدنا

أنفسنا بعد فترة أمام شخصية تجمع متناقضات عديدة.

وهنا يبرز دور المربي الذي يمثل الجهد التربوي الرشيد الذي يُصلح ما فسد،

ويُبقي ويُنَقِّي ما صلح، ويرتقي بمستوى المتربي بصورة متوازنة بعيدة عن

الاختلال والعشوائية.

ولهذا نقول: إنه لا يصلح كل أحد أن يكون مربياً؛ فللمربي صفات تتناسب

مع الدور الذي يقوم به.

2 - المربي والداعية والقائد:

يخلط الكثيرون بين أدوار الدعوة والتربية والقيادة، ومن ثَمَّ يخلطون بين

الصفات اللازمة للقائم بكلٍ منها. ونحن نريد تحديداً علمياً لصفات المربي بعيداً عن

مبدأ (كُلُّه خيرٌ) ، وبعيداً أيضاً عن نموذج الداعية الشامل - المسيطر إلى حد كبير

في الأوساط الدعوية - الذي يصلح لأداء جميع الأدوار.

فالمسلم منذ أن يضع قدمه على طريق الدعوة، ينبغي أن تلزمه صفات

ومؤهلات عامة للقيام بهذه المهمة الجليلة مثل: الإخلاص، والعلم، والحكمة،

ونحوها، أما إن أُريد تخصيصه في مجال التربية فلا بد عندها من البحث عن توفر

مستويات وصفات إضافية يتطلبها أداء ذلك العمل، وهذه المستويات والصفات

الإضافية هي موضوعنا لا غير.

ونستطيع أن نقول: إن القائد هو الذي يتولى إدارة الأفراد وعملهم نحو تحقيق

الأهداف الموضوعة، والمربي هو الذي يتولى إعداد الأفراد وتأهيلهم ليعملوا على

تحقيق تلك الأهداف، ولقب الداعية يجمعهم وغيرهم من أصناف العاملين في إطار

واحد.

ويمكن أن نتلمس ذلك بوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في منهج

انتقائه من بين الصحابة لأدوار تربوية أو قيادية، فهو صلى الله عليه وسلم قد

رباهم على الإخلاص وعلمهم دينهم بداية، فكان الرجل منهم لا يألو أن يدعو إلى

الإسلام ما استطاع، ثم كان ينتقي أشخاصاً بعينهم لأدوار تربوية - في المقام الأول

- مثل اختياره مصعب بن عمير وإرساله إلى المدينة، واختياره معاذ بن جبل

وإرساله إلى اليمن، ونعرف أثر كل منهما في المكان الذي أرسل إليه، ونعرف

أيضاً أن الدور التربوي ظل ألصق الأدوار بهما.

فإذا كان الدور يتطلب رجلاً قيادياً - في المقام الأول - كان له رجاله أيضاً،

مثل اختياره عمرو بن العاص وأبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهما - لقيادة

بعض السرايا، ونعرف أيضاً أن الدور القيادي ظل ألصق الأدوار بهما.

3 - المربي بين التساهل والمبالغة:

هناك اتجاهان في انتقاء الشخصيات المربية:

الأول: يقوم على المبالغة في تحديد الصفات الخاصة بالمربي، ولزوم تحققها

فيه بمستويات عالية، فتغلب عليه المثالية في تصور حال المربي؛ بحيث ينتهي

الأمر عند مطابقة هذه المواصفات واقعياً إلى أنه يكاد ألاَّ يكون هناك تربية ولا

مربون، وإنما هو العبث وسد الخانات، ثم تبقى هذه المواصفات المثالية طي

الأوراق بعيدة عن محاولة تحقيقها اكتفاءً بآهات الحسرة.

الثاني: يقوم على التساهل في صفات المربي؛ بحيث تتسع الدائرة لتشمل

أعداداً كبيرة لا يمثل الانتقاء معها مشكلة، ودافع ذلك الاتجاه تغليب احتياجات

الدعوة وتبعات انتشارها وانفتاحها دون اعتبار حقيقي لحال المُنتقى.

وكلا الاتجاهين لا يصلح منطلقاً لمعيار معتدل للمربي.

فالاتجاه الأول يتجاهل أن (المثاليات تتفرق في نفوس شتى، ولا تجتمع في

نفس واحدة كل المثاليات) [1] ، ولا يجتمع أغلبها إلا في نفوس معدودة و (إنما

الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [2] كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - فربْط العمل التربوي بذلك تعطيل له، وإعاقة لجهود الارتقاء به، ومدعاة لكل

من يعجز عن محاكاة الصورة المثالية أن يتراجع ويترك العمل، وهذا ما حذرنا منه

عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد - رحمه الله - إذ لما استَعْمَل على الجزيرة

وعلى قضائها وخراجها ميمونَ بن مهران - رحمه الله - صعب على ميمون أن

يحاكي الوضع المثالي هناك، فكتب إلى عمر يستعفيه: كلفتني ما لا أطيق. فكتب

إليه عمر: اجْبِ من الخراج الطيب، واقضِ بما استبان لك، فإذا التبس عليك أمر

فادفعه إليَّ؛ فإن الناس لو كان إذا كَبُر عليهم أمر تركوه ما قام لهم دين ولا دنيا [3] .

ولذلك؛ فمهمة الصورة المثالية إذن: العلاج من الانحرافات على ضوئها،

وكذلك هي التي تشجعنا على الصعود أولاً، ثم على العودة إلى الصعود بعد كل

انتكاس، ومن هنا يلتقي الواقع بالمثال [4] .

أما الاتجاه الثاني الذي يتبنى شعار: (الجُود بالموجود) فيفوته أن اعتبار

احتياجات العمل الدعوي مع الإعراض عن كفاءة المربي وصلاحيته خلل في

التصور يتبعه خلل في العمل؛ إذ إن إتاحة الفرصة لغير ذوي الأهلية والكفاية

مهلكة لهم، فوق أنها مضيعة للعمل.

وهنا يأتي السؤال: إذا كان النموذج المثالي استرشادياً، والنموذج الواقعي

المنفتح لا يصلح للاسترشاد أو البدء به، فماذا نفعل؟

والجواب: أنه يلزمنا تحديد نموذج معتدل معياري للمربي يتوفر فيه أمران:

الأول: صفات أساسية هي من لوازم عمل المربي تحديداً.

الثاني: أن تتحقق هذه الصفات في المربي بمستوى معين - يختلف باختلاف

الظروف والبيئة الدعوية - يمثل الحد الأدنى الذي يفصل بين اختلال عمل المربي، وبين عروجه على طريق الرشد التربوي، وبمعنى آخر يفصل بين النموذج

الانفتاحي وبين النموذج المعتدل.

وينبغي ألا تُسند للداعية أي مسؤوليات تربوية قبل موافقة حاله لهذا النموذج - وفق حده الأدنى - وإنما يحكم بذلك أهل العلم والخبرة بهذا الأمر، كما قرر

الإمام مالك - رحمه الله -: (لا ينبغي للرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من

كان أعلم منه) [5] ، ثم يأتي بعده التفاعل والارتقاء مع الهمة الذاتية واكتساب

الخبرة والتمرس في العمل التربوي.

والآن نصل إلى الكلام عن صفات المربي: وتجدر الإشارة هنا إلى الاعتماد

على الأسلوب التحليلي في هذه الدراسة مع تجاوز اقتصار كتابات سابقة كثيرة على

ذكر فضل الصفات وأهميتها، نتجاوز ذلك إلى تحديدٍ أدق لمعنى تلك الصفات

تربوياً مع الخوض في كيفية الاتصاف بها وأثر كل صفة على العمل التربوي.

الصفات الأساسية للمربي: وهذه الصفات المختارة - والتي هي من

مؤهلات الداعية لممارسة العمل التربوي - يمكن تقسيمها وترتيبها - وفق ابتداء

تأثيرها - إلى ثلاث مجموعات:

الأولى: مقومات البدء والانطلاق، (العلم - حسن السمت وتمثل مستوى

القدوة - الثقافة والتجربة - العمق الإيماني) .

الثانية: مقومات الإتقان، (وهي مجموعة قدرات نفسية وعملية مهمتها رفع

مستوى الأداء التربوي) .

الثالثة: مقومات الاستمرار، (الصبر على.... و....... و......) .

أولاً: مقومات البدء والانطلاق:

الصفة الأولى: العلم: ويهمنا في تحلي المربي بهذه الصفة لا مجرد حفظ

واستظهار مجموعة من الكتب - وإن كثرت - بل تحقُّق أمور بعينها تمثل ما

نقصده من وصف المربي بالعلم، وهي:

1 - المنهجية في تحصيل العلم: وطبيعة عمل المربي وإن كانت لا تسمح له

بالاستغراق في طلب العلم وبلوغ الغاية فيه، إلا أنه ينبغي أن يحرص على

تعويض ذلك بأمرين:

الأول: الشمول والتوازن في طلب العلم: وذلك بأن يحرص أن يكون له في

كل مجال طلب، وفي كل علم قدم، ويأخذ من كل باب بقدر أهميته في مجال عمله

التربوي، فيتجنب أن يكون هناك علوم لا يعلم عنها شيئاً البتة، أو أن يتعمق في

مجال ما على حساب تسطيح مجالات أخرى، وضابطه في ذلك درجة تعلُّق ما

يُحصِّل بما يعمل.

الثاني: الضبط العلمي: ونعني به أن يتقن المربي أموراً مثل إسناد الأقوال

لقائليها أو مواضعها أو مظانها، وبيان درجة الحديث من الصحة أو الضعف،

وإتقان لفظ النص، وضبط التواريخ والأسماء ونحو ذلك، وقبيح بالمربي أن تكثر

على لسانه عبارات مثل: أظن أن قائله فلان، أو أظنه صحيحاً، أو ما معناه،

ونحوه.. فإنه إن كان (نصف العلم: لا أدري) ، ف (نصف الجهل: يُقال،

وأظن) [6] .

واتصاف المربي بالضبط العلمي يعطي له سمت أهل العلم ولو كان قليل العلم

نسبياً، في حين أن اتصافه بعدم الضبط العلمي يفقده هذا السمت وإن كان كثير

القراءات متشعب الاهتمامات العلمية.

وقد كان السلف - رضوان الله عليهم - يهتمون بضبط علمهم اهتماماً شديداً،

فيكفي أن نتأمل في علوم الرواية لنرى مصطلحات كثيرة على شاكلة: الإملاء،

العرض، المقابلة، وكلها تدور حول تحقيق الضبط العلمي لما يقولون ويكتبون.

كما أن عدم الضبط يعني كثرة الخطأ، أي: تلقين المتربين معلومات أو

أفكاراً خاطئة يحملونها، وقد لا يكتشفون خطأها إلا بعد فترات طويلة؛ بل قد

ينقلونها إلى غيرهم على ما هي عليه مما يعني توارث الأخطاء. أسند الخطيب عن

الرحبي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: إذا كتب لحَّان، فكتب عن اللحَّان لحَّان

آخر، فكتب عن اللحَّان لحَّان آخر، صار الحديث بالفارسية [7] .

2 - التفرقة بين تحصيل العلم للاستظهار والامتحان، وبين تحصيله لتبليغه

وتربية الناس عليه: فطالب العلم في الحالة الأولى يهتم أساساً بحفظ الألفاظ وضبط

الاختلافات، ويغيب عنه الكثير من المعاني والإشراقات والدلالات التي تحملها

الألفاظ وتدعو إليها؛ بينما طالبه في الحال الثانية بغيته المُقَدَّمة تلك الدلالات

والإشراقات، وليس أقوى في تمثُّل الحال الثانية من اتباع طريقة السلف في حفظ

العلم عن طريق العمل به؛ فذلك مما يفتح على طالبه باباً عظيماً من فوائد العلم

وإشراقاته إن عَلم فعمل؛ فقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: (كنا نستعين

على حفظ الحديث بالعمل به) [8] .

3 - التوازن بين مذاكرة العلم واستمرار البناء العلمي وبين العطاء التربوي.

فإذا كنا نشترط للمربي صفة العلم، فإن اتصافه بذلك مقترن باستمراره في

المراجعة والطلب، فإذا توقف كان إلى الجهل أقرب. قال سعيد بن جبير: (لا

يزال الرجل عالماً ما تعلَّم، فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو

أجهل ما يكون) [9] .

والذي يحتج بأن العمل التربوي لا يتيح له استمرار التعلم يغفل عن أن عمله

ذلك لن يستمر إلا لمدة ثم لا يجد ما يعطيه؛ ففعله كفعل صاحب الحديث الذي

يتشاغل عن مراجعته وطلبه بالتحديث ببعضه؛ فهو كما قال عبد الرحمن بن

مهدي: (إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار: إذا غاب عن السوق خمسة أيام ذهب عنه أسعار ما في السوق) [10] .

فلا يلبث إلا وقد نضب ما لديه من العلم، ثم يصل بعدها إلى مرحلة

التحضير بالقطعة أو بالطلب، ثم إلى مرحلة الإعادة والتكرار، وقد يشعر المتربي

بأن مربيه قد فرغ جرابه، مع ما في ذلك من أثر سيئ.

وكان أهل العلم من السلف يحرصون على إيجاد هذا التوازن بين طلبهم

ومذاكرتهم العلم، وبين تعليمهم إياه، ويتضح ذلك جلياً في قول ابن مهدي - رحمه

الله -: (كان الرجل من أهل العلم إذا لقي من هو فوقه في العلم فهو يوم غنيمته،

سأله وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه في العلم علَّمه وتواضع له، وإذا لقي من

هو مثله في العلم، ذاكره ودارسه) [11] .

4 - وضع العلم في إطار من الهيبة والوقار عند إلقائه أو تدريسه:

قال عمر - رضي الله عنه -: تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة

والوقار [12] .

فذلك من شأنه أن يجعل للعلم الأثر النفسي ثم العملي اللائق به، مما يوفر

على المربي جهداً كبيراً، ويُقرِّب له التوفيق من عمله. قال أحمد بن سنان: (كان

عبد الرحمن بن مهدي لا يُتحدث في مجلسه، ولا يُبْرى قلم، ولا يقوم أحد كأنما

على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإن تُحُدِّث أو بُري قلم صاح ولبس

نعليه ودخل) [13] فما ظنك بأثر العلم الذي يتلقونه (في نفوسهم) وهم على هذه

الحال؟ !

وفي المقابل: حين دخل - رحمه الله - على الوليد بن يزيد - وهو خليفة -

فقال له الوليد: يا ربيعة! حدثنا! قال: ما أحدِّثُ شيئاً. فلما خرج من عنده قال:

ألا تعجبون من هذا الذي يقترح عليَّ كما يقترح على المُغنية: حدثنا يا

ربيعة! [14] .

الصفة الثانية: حسن السمت وتَمثُّلُ مستوى القدوة:

عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الهَدْي الصالح،

والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) [15] .

فهذا الحديث يبين لنا أن الذي يتحلى بالسمت الصالح والهدي الصالح يُقتدى به

ويحاكي بعض صفات النبوة، وكفى بذلك شرفاً.

والسمت والهَدْي متقاربا المعنى؛ فالسمت بمعنى الطريقة أو هيئة أهل

الخير [16] ، والهدي هو الطريقة أو السيرة [17] ، وهدي الرجل سيرته العامة ... والخاصة وحاله وأخلاقه [18] .

فهذا يشمل إذن ما يتعلق بحال المسلم من كلام وفعال وتعاملات وملبس وهيئة

وحركات وسكنات ونحوه، ولا يتسع المجال - بالطبع - لاستعراض تفاصيل ذلك، ولكن لكل علم مظانه [19] .

والمراد: أن المربي أوْلى الناس بالاتصاف بحسن السمت والهدي والأدب؛

إذ إنه القدوة الأولى لمن يربيهم، وقدوة المرء من تسنن واقتدى به [20] ، وإذا كان

مجرد المخالطة والاجتماع تفتح مجالاً كبيراً لتبادل الطباع والأخلاق؛ إذ الطبع لص

- كما يقولون - يسرق من غيره؛ فكيف بمن يجتمع في حقه أثر المخالطة مع أثر

الاحترام والاعتراف بالفضل.

ويكفي لتصور أهمية هذه الصفة بالنسبة للمربي أن نعلم أنه عندما ينزل عن

مستوى القدوة الحسنة فيتدنى مستوى فعله عن مستوى كلامه فإنه يكون أشبه بمن

يُمسك في إحدى يديه قلماً، وفي الأخرى ممحاة، فكلما كتب كلاماً بيمناه محته

يسراه، (ومن لا يستطيع تصحيح أخطاء نفسه فلا يصح له أن يكون قيِّماً على

أخطاء الآخرين يصحح لهم وينقد) [21] .

ولبيان موقع القدوة الحسنة من التأثير التربوي نقول: إن الخطاب التربوي

يمكن تجريده إلى ثلاثة أمور:

الأول: الكلام النظري ونعني به: بيان الأمر مع الثواب أو العقاب.

الثاني: حكاية الفعل ونعني به: ذكر مثال عملي لما سبق سواء كان معاصراً

أو تاريخياً.

الثالث: رؤية الفعل (عمل المربي) ونعني به: التنفيذ العملي الذاتي لما سبق

فيما يُستطاع شرعاً وواقعاً.

ولو نظرنا في أثر كل من هذه الثلاثة - منفرداً - في تكوين الدافعية للعمل،

لوجدنا أن ثالثتها (رؤية الفعل) أشد أثراً وأبقى.

فالنفس لديها استعداد للتأثر بما يلقى إليها من الكلام؛ ولكنه استعداد مؤقت في

الغالب، ولذلك يلزمه التكرار. وحكاية الفعل وإن كانت تُقرب المسافة أكثر إلا أن

أثرها بمفردها لا يكفينا لتحقيق ما نطمح إليه من رفع المستوى التربوي.

وأما القدوة المنظورة الملموسة فهي التي تعلق المشاعر، ولا تتركها تهبط إلى

القاع وتسكن بلا حراك، بل سرعان ما تترجمها إلى عمل.

وفي هذا المثال من السيرة بيان ذلك:

في صلح الحديبية: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب

(يعني الصلح) قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فلم يقم منهم رجل، حتى

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلم يقم أحد، فدخل على أم

سلمة - رضي الله عنها - فأخبرها الخبر، فقالت له: اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم

كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله صلى الله عليه

وسلم فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك، فلما رأوا فعله صلى الله عليه وسلم قاموا

فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً [22] .

نرى في المثال أن الخطاب النظري أحدث أثراً في نفوس السامعين إلا أنه لم

يترجم إلى عمل، ولما اقترن الأمر بممارسة الفعل سهل عليهم الامتثال والتنفيذ؛

فممارسة الفعل إذن هي بمثابة المرحلة الحاسمة والأخيرة التي تبرز قيمة ما سبقها

وأثره، وتُخرج ما أحدثه من مشاعر نفسية إلى الوجود في صورة عملية، وبدونها

يظل كَمٌّ كبير من مفاهيم الإسلام حبيس النفس في غياهب الإهمال أو النسيان.

ومن الآثار التربوية المفيدة لتمثل المربي مستوى القدوة الحسنة:

1 - توفير الجهد التربوي عن طريق انتقال مفاهيم كثيرة - انتقالاً غير

مباشر - بالمحاكاة والتقليد.

عن الصَّلت بن بسطام التيمي قال: قال لي أبي: الزم عبد الملك بن أبجر

فتعلَّمْ من تَوَقِّيهِ في الكلام؛ فما أعلم بالكوفة أشد تحفظاً للسانه منه [23] .

2 - تكون حال المربي تلك بمثابة المحفز والمنشط للكثيرين لمحاولة الوصول

إليها، وبذل الجهد في ذلك؛ فإن النفس كلما اقتربت من الكمال في جانب صارت

لها قوة جذب بحسب حالها تشد الناس إليها؛ فهذا عبد الله ابن عون - رحمه الله -

من أعلام السلف، كانت حاله نموذجاً يُحفز الكثيرين لمحاكاته. عن معاذ قال:

حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد أنه قال: إني لأعرف رجلاً منذ

عشرين سنة يتمنى أن يسلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه [24] ، وورد

مثل ذلك عن كثير من السلف في محاولتهم التأسي بحال ابن عون.

3 - يكون له أثر عام يتعدى من يرتبط بهم من المتربين ارتباطاً مباشراً،

فينتفع به آخرون بمراقبته أو بمعرفة حاله، ونحوه فيُسهم ذلك في إيجاد بيئة تربوية

راشدة.

قال يونس بن عبيد: كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم يرَ عمله

ولم يسمع كلامه [25] .

4 - اكتساب كلامه وتوجيهاته قوة نفسية مؤثرة بحسب حاله، كان أبو

العباس السرّاج من علماء نيسابور وعُبَّادها، وكان رجلاً تقياً حسن السيرة، وكان

الناس يسمعون كلامه. قال الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد الزعفراني وأظهر

خلق القرآن سمعت السرّاج يقول: العنوا الزعفراني، فيضجُّ الناس بلعنه، فنزح

إلى بُخارى [26] .

ولأن سوء سيرة المربي تُذهب بركة علمه وتفقده تأثيره كان بعض السلف إذا

ذهب إلى شيخه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب شيخي عني، ولا تُذهب

بركة علمه مني [27] .

كيف يُكتسب السمت الحسن؟

هناك عدة وسائل لذلك نذكر أهمها:

1- إصلاح الباطن: فأدب الظاهر عنوان أدب الباطن، وقد قال النبي صلى

الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت

فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [28] .

2 - إعلاء قيمة التأدب وجعله من الأولويات: وقد كان السلف - رحمهم الله

- منهم من ينفق في ذلك جزءاً كبيراً من عمره، ويعتبر أنه رابح لا خاسر. قال

الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين [29] ،

ومكث يحيى بن يحيى عاماً كاملاً يأخذ من شمائل مالك - رحمه الله - بعد أن فرغ

من علمه [30] .

3 - الاطلاع على حكايات العلماء: قال أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء

أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم [31] .

4 - لزوم الصالحين والقدوات الحسنة ومن يُستحْيى منه: فإن معاشرة هؤلاء

ومخالطتهم تسهل على النفس الاقتباس عنهم والانضباط بوجودهم.

قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه

مع أهل العلم [32] .

وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً وأنا أضحك، فأنا أستحييه إلى

اليوم [33] .

5 - التنفيذ الفوري لما يتعلمه: عن الحسن أنه قال: قد كان الرجل يطلب

العلم، فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه وبصره، وبره [34] .

6 - مجاهدة النفس وتعويدها على الخير: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ ومن يتَّق الشر

يوقه) [35] .

وكان عبد الله بن مسعود يقول: تعوَّدوا الخير، فإنما الخير عادة.

7 - معاقبة النفس والشدة عليها: قال الجيلاني: لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلا الخشن في دين الله - عز وجل - ومن هرب مني ومن أمثالي لا

يفلح [36] .

وقال ابن وهب: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني،

فكنت أغتاب وأصوم، فنويت كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم؛ فمِنْ حُبِّ

الدراهم تركت الغيبة [37] .

الصفة الثالثة: الثقافة والتجربة:

وذلك فيما يتعلق مباشرة بالعمل التربوي، أو ما له تعلق غير مباشر به،

ونبدأ بالثاني، ونقصد به أمرين:

الأول: الثقافة أو التجربة الواقعية المتعلقة بمعرفة أحوال الناس وطبائعهم

وصفاتهم.

ومصادر هذا النوع من الثقافة والتجربة متنوعة، يمكن استقاؤها من الأفراد

مباشرة، كلٌّ بحسب حاله من خلال اغتنام لحظات الحوار العابر، أو توجيه

السؤال والاستفسار مع تقوية ملكة جمع المعلومات الشفوية، وأيضاً يمكن استقاؤها

من البحوث والدراسات التي تتناول هذه الموضوعات، وفي الجلوس مع الكبراء

في السن وفي الخبرة فائدة لا تترك؛ قال المناوي: المجربون للأمور المحافظون

على تكثير الأجور، جالسوهم لتقتدوا برأيهم وتهتدوا بهديهم [38] .

وعن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال: كان يقال: جالس الكبراءَ،

وخالِلِ العلماءَ، وخالِطِ الحكماء [39] .

وأيضاً يمكن استمداد هذه الثقافة والتجربة من الكثير من مراجع التاريخ

القريب أو البعيد؛ فإنه كما قال السخاوي: (من عرفه كمن عاش الدهر كله وجرب

الأمور بأسرها وباشر تلك الأحوال بنفسه، فيغزر عقله، ويصير مجرباً غير غر

ولا غمر) [40] .

الثاني: الثقافة العامة، بمعنى: الاطلاع السريع على العلوم الأساسية

الطبيعية أو الإنسانية وأحدث التطورات العامة فيها.

ويمكن جمع الفوائد التي تعود على المربي من هذين المجالين في النقاط الآتية:

1- معرفة سبل الخير وسبل الشر، وكيف يُسلك كلٌ منها؟ يصف ابن القيم - رحمه الله - حال المؤمن المُجرب الذي يعرف الخير والشر كليهما فيقول: (وهذه حال المؤمن: يكون فطناً حاذقاً أعرف الناس بالشر وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته رأيته من أبر الناس) [41] .

2 - توسيع المدارك وتعميق الأفهام وتنشيط العقول: فهذه الثقافات من شأنها

أن تنمي قدرة المربي على التفكير، وعلى القياس المستقيم، وربط الأسباب

بمسبباتها، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في فائدة الاطلاع على

مختلف العلوم كلاماً نفيساً: (ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد النفس العلم

الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم؛ فيكون في ذلك تصحيح

الذهن والإدراك) [42] .

3 - زيادة قدرة المربي على التحدث والحوار الثنائي أو الجماعي؛ فالمربي

يتعامل مع عقول مختلفة وثقافات متنوعة يحتاج إلى التواصل معها بكفاءة،

والمربي محدود الثقافات أشبه شيء بمذياع الشيوعية القديم ليس فيه إلا محطة

واحدة: إما أن تسمعها أو تغلقه، بينما المربي متنوع الثقافات: متعدد الموجات؛

فاحتمال غلقه غير وارد.

4 - فهم ظروف المتربين المختلفة اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؛ انطلاقاً من

فهمه لأحوال المجتمع الذي يعيشون فيه والتي تمثل الخلفية الدافعة للكثير من أقوالهم

وتصرفاتهم.

أما النوع الثاني: - وهي الثقافة والتجربة التربوية - فلا غنى عنها للمربي؛

فهي التي تصبغه بهذه الصبغة بداية وعن طريقها يتعرف منهج التربية وما يتضمنه

من أهداف التربية ووسائلها ومراحلها وأساليبها ومشكلاتها ونحوه، وهو يتعرف

على ذلك بوصفه إما كلاماً نظرياً مجرداً يعرض المفاهيم والمبادئ، وإما وصفاً أو

نقداً للمحاولات التطبيقية: ظروفها ونتائجها.

ويمكن استمداد تلك الثقافة والتجربة من مصدرين رئيسين:

الأول: الكتب (المصادر المقروءة) : وهي مصدر أساس لتلقي المبادئ

والمفاهيم التربوية، وكذا التجارب والخبرات التربوية. وهنا وقفة وهي: أنه قد

يتحرَّج بعضٌ من الاستفادة من الكتب الدعوية الكثيرة التي تنقل خبرات وتجارب

العديد من الدعوات والدعاة، وهذا أمر غير مستقيم؛ فالحكمة ضالة المؤمن، ومن

العار أن تمنعنا مشاعر التعصب أو أخطاء الآخرين من الاستفادة من تلك التجارب؛

خاصة أن ذلك لا يعني إعطاءها الصلاحية المطلقة، بل كلا الأمرين وارد، ومفيد

أن نعرف تجربة الصواب وتجربة الخطأ.

قال الإمام أحمد - رحمه الله -: سمعت أن قَلَّ رجل يأخذ كتاباً ينظر فيه إلا

استفاد منه شيئاً [43] .

الثاني: السماع والممارسة: والسماع يعني أن يسعى المربي للاستفادة من

تجارب المربين الأقران له والسابقين عليه، مع إعطاء أهمية خاصة لقدامى

المربين.

والممارسة تعني: أن ينتفع المربي من تجربته الذاتية في العمل التربوي،

فيستفيد من أخطائه وإصاباته السابقة فيما يُستجد من أعماله اللاحقة، وكما قيل:

من التوفيق حفظ التجربة.

الصفة الرابعة: العمق الإيماني:

ونعني به ذلك النور وتلك الجاذبية التي تصدر عن المؤمن مع صلاح باطنه

وقربه من الله - عز وجل - فينعكس ذلك على جوارحه وعلى كلامه وأفعاله،

والمربي إن كان كذلك فهو لإخوانه بمثابة البحر العميق تمخر فيه كبار السفن هادئة

مستقرة، بينما الماء الضحل لا يسلك فيه مركب صغير فضلاً عن كبارها، وقد

كان السلف يهتمون بذلك ويُرجعون كل قصور عن بلوغ الكلام مراميَه في القلوب

إلى ضعف القلب الصادر عنه قبل اتهام قلوب السامعين. قال الحسن وقد سمع

متكلماً يعظ فلم تقع موعظته من قلبه ولم يرقَّ لها -: يا هذا! إن بقلبك لشراً أو

بقلبي [44] .

فتحقيق هذا العمق الإيماني إذن لا يكون بالكلام، أو بالتكلف والتحلي الزائف، بل ليس له إلا طريق واحد هو الإخلاص لله - عز وجل - والتقرب إليه -

سبحانه - فإذا اقترب المربي من ربه اقتربت منه قلوب العباد، وإن ابتعد عن ربه

بعدت عنه القلوب.

ومن أروع المشاهد التربوية الإيمانية التي تصور لنا أثر العمق الإيماني على

التربية، ذلك المشهد الذي رسمه ابن القيم لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله -

يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما

هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً

وطمأنينة [45] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015