مجله البيان (صفحة 32)

مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي

محمد الناصر

ملخص ما سبق نشره:

انتهت المقالة الأولى إلى الكلام عن الحروب في الجاهلية، فتحدث

الكاتب عن أسباب الحروب، وعن أثرها على موضوعات الشعر المختلفة، فبيّن أن الحرب وما يكتنفها من موضوعات كانت من أهم دواعي الشعر، فالفخر نما في ظل الحروب والمعارك، وآخر ما استشهد به على ذلك، أبيات من معلقة عمرو ابن كلثوم وهاهو يستأنف بحثه حول ذلك.

(فالمعلقة جميعها صياح شديد على هذا النحو الذي يرفع قبيلته تغلب على

كل قبائل نجد شرقيّها وغربيّها، فكل من حدثته نفسه منهم بقتالها كان مصيره

الهلاك والدمار، ويقول: إن حياتهم سلسلة من الحروب.. واعترف لأعدائه

بشجاعتهم، فهم يقتُلون ويقتل منهم من قومه، فثيابهم جميعاً ملطخة بالدماء..) [1] .

وهناك كثير من الشعراء وصفوا خصومهم بالشجاعة وتسمى قصائدهم

بالمنصفة.

المُنْصِفات من القصائد:

من ذلك قول المفَضَّل النُّكْري يصف موقعة بين عشيرته من بني نُكْرة ابن

عبد القيس وعشيرة عمرو بن عوف يقول: [2]

وكم من سيد منا ومنهم ... بذي الطَرْفاء منطقه شهيق

فأشبعنا السباع وأشبعوها ... فراحت كلها تِئِقٌ يفوقُ

فأبكينا نساءهم وأبكوْا ... نساءً ما يسوغ لهن ريقُ

وصف مثير للمعركة، فيه إنصاف للخصوم، ورجولة تبتعد عن الادعاء

الفارغ، تعجز عن هذه الرجولة جعجعة الجاهلية الحديثة، وفي كل شرٌ.

ومن المنصفات أيضاً قصيدة للعباس ابن مرداس يصف فيها حرباً شديدة

وقعت بين قومه بني سليم وبين قبيلة مراد، وكان الشاعر رئيسهم عندما غزا مراداً

بقيادة عمرو بن معد يكرب ... وفيها إنصاف للخصوم وشجاعتهم منها: [3]

فلم أرَ مثل الحيِّ حياً مصبِّحاً ... ولا مِثْلَنا -لما التقينا- فوارسا

فإنْ يقتلوا منا كريماً فإننا ... أبأنا به قتلى تُذِل المعاطسا

وهذا الشعر الذي يشيد بالأمجاد والانتصارات، جعل شعر الحماسة من أروع

الموضوعات، ولعله استغرق كثيراً من القصائد الجاهلية، فهم يتغنون ببطولتهم

وأنهم لا يرهبون الموت (ويرتفع هذا الغناء بل هذا الصياح في كل مكان بحيث

يخيل إلينا أنه لم يكن هناك صوت سواه، ولعل ذلك ما دفع أبا تمام إلى أن يسمي

مجموعته من أشعارهم وأشعار من خلفوهم باسم الحماسة.. فهي ديوانهم الذي

يسطر تاريخهم ومناقبهم ومفاخرهم ومن قرأ الأصمعيات والمفضليات يجد هذا الفخر

وما يطوي فيه من حماسة يدور على كل لسان) [4] .

ونختم حديثنا عن المنصفات من خلال شعر الحماسة والفخر بقول الحصين

بن الحمام المري عندما يندد بخصمه، ويصفه بالجبن، ويحاول أن ينصفه،

ويصور لنا المعركة، وشدة البأس فيها، وأنهم مع خصومهم كانوا يعزون بعضهم،

وتسود بينهم المودة والوئام: [5]

ولما رأيت الود ليس بنافعي ... وأنْ كان يوماً ذا كواكب مظلماً

يُفَلِّقْنَ هاماً من رجالٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

وجوه عدو والصدور حديثة ... بودٍ فأودى كل ود فأنعما

نطاردهم نستنقذ الجرد كالقنا ... ويستَنقذون السمهري القوّما

لقد كان هذا الشعر من فخر وحماسة، يصور الذكريات الدامية،

والانتصارات الغاضبة للعرب في جاهليتهم، وكانت لذة النصر تحرك المشاعر،

وشدة الغيظ والحقد تلهب النفوس.

الهجاء يشارك في المعارك:

ولقد حاول الشعراء أن يهاجموا خصومهم، وأن يتهموهم بالجبن والفرار

والهزيمة، ولم يسلم الأشراف ولا السادة من اتهامهم بالعار والخزي، وكان تأثير

الهجاء عنيفاً على النفوس قوياً على المهجوّين، وكثيراً ما بكى بعض السادة من ألم

الهجاء، فقد بكى علقمة بن عُلاثة وعبد الله بن جدعان، ومخارق بن شهاب وهم

من أشراف قومهم وسادة قبائلهم [6] .

وكان اللسان ينكأ بهجائه في الأعداء نكأ السيوف والرماح، وكان المتحاربون

وكذلك الشعراء يتبارون في أيهم يكون أنفذ سهماً، حتى لا تقوم للشريف وقبيلته

قائمة. ومن هنا اقترن الهجاء عند عبد قيس بن خُفَاف البُّرحُمِيِّ بالسيف والرمح إذ

يقول: [7]

فأصبحتُ أعددت للنائبا ... تِ عِرضاً بريئاً وعضباً صقيلاً

ووقع لسانٍ كحد السنان ... ورمحاً طويل القناة عسولا

وكأنما أصبح همّ الهاجي أن يضرب عدوه الضربة القاضية. بل لكأن مناقبه

كانت تؤذيهم فكانوا يلطخونه بالعارٍ، ومن هنا لا نعجب إذا وجدنا شاعراً يهجو

النعمان بن المنذر، ويتهمه أنه لم يولد لِرِشدة، وأنه ليس سليل المناذرة إنما هو

سليل صائغ بالحيرة، يقول عبد قيس بن خفاف البرجمي أيضاً: [8]

لعن الله ثم ثنى بلعن اب ... ن الصائغ الظلوم الجهولا

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا

الرثاء:

ولقد بكى الشعراء صرعى المعارك بكاء مراً، وندبت النساء الثكلى، وكن

مازلن ينحن على القتيل حتى يُثأر له، والخنساء كانت تخرج إلى عكاظ تندب

أخويها، وهند بنت عتبة كانت تنوح على أبيها. وكانت النسوة يشققن جيوبهن،

ويلطمن الوجوه، ويقرعن صدورهن، ويعقدن مأتماً من العويل والبكاء، ومن أكثر

النساء بكاءً ونشيجاً الخنساء حيث تبكي أخاها صخراً، ومن رائع ما ندبته به وقد

قتل في إحدى المعارك: [9]

قدىً بعينك أم بالعين عُوّارُ ... أم ذرَّفَتْ أنْ خلت من أهلها الدارُ

كأن عيني لذكراه إذا خطرتْ ... فيضٌ يسيل على الخدين مِدْرار

تبكي خُناسُ وما تنفك ما عمرت ... لها عليه رنينٌ وهي مقتار

وإنَّ صخراً لتأتم الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ

ويرثي أبو دؤاد الإيادي من أودى من شباب قبيلته وكهولهم فيقول في ... قصيدته: [10]

لا أُعِذُّ الإقتار عُدْماً ولكن ... فَقْدُ من قد رزئتهُ الإعدام

ويستمر يبكي فيهم الرؤوس العظام وخلالهم وصفاتهم ... ويقول: إنهم

أصبحوا هاماً وصدى ...

سلط الدهرُ والمنونُ عليهمْ ... فلهم في صدى المقابر هامُ

فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سَقام

وأروع الرثاء ما ندب به الأبطال في حومات القتال، لأن الشعراء في بكائهم

وفي تعداد مناقب الموتى يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم ويهيجون القبيلة للحرب

ويدعون إلى الأخذ بالثأر. [11]

فهذه أم ندبة ترثى ابنها وتلوم زوجها حذيفة على قبول الدية: [12]

حذيفة لا سلمت من الأعادي ... ولا وفيت شر النائبات

أتقتلُ نُدبةً قيسٌ وترضى ... بأنعام ونوق سارحات

أما تخشى إذا قال الأعادي: ... حذيفة قلبه قلب البنات

فخذ ثأراً بأطراف العوالي ... وبالبيض الحداد المرهفات

وإلا خلني أبكي نهاري ... وليلي بالدموع الجاريات

لعلّ منيتي تأتي سريعاً ... وترقبني سهام الحادثات

أحبّ إلى من بعل جبان ... تكون حياته أردا الحياة

والمهلهل بن ربيعة الذي عرف بمراثيه لكليب يعدد مناقب أخيه ويذكر عزته

وعزمه.. يندبه كقائد للخيل يوم المعركة: [13]

أضحت منازل بالسلان قد درست ... تبكي كليباً ولم تفزعْ أقاصيها

الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها

القائد الخيل تردي في أعنتها ... زهواً إذا الخيل لَجَّتْ في تعاديها

وشعر الرثاء الباكي كثير، كثرة القتلى والمعارك الدامية. هذه هي الجاهلية

قتال، وغزو وحرب، وبكاء وحماس ومفاخر ومنافرة.

المنافرات:

مفردها منافرة، وسميت هكذا لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: إنا أعز نفراً.. ونافر معناه حاكم في النسب [14] . وقد كثرت المفاخرات والمنافرات في

الجاهلية، إذ يزعم كل فريق أنهم أكثر عدداً وأعز نفيراً، وكان غالب مفاخراتهم

منافراتهم بالشجاعة والكرم والوفاء وذكر سادتهم وشجعانهم وأشرافهم، وقد ذكر

صاحب بلوغ الأرب نماذج كثيرة من هذه المنافرات كمنافرة يمن ومضر، ومنافرة

الأوس والخزرج، ومنافرة عامر ابن الطفيل مع علقمة بن عُلاثة، ومنافرة هاشم

وأمية [15] .

ومن أشهر المنافرات منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة تنافرا على

رئاسة قومهما وذهبا إلى هرم بن قطبة الفزاري فقال لهما هرم:

إنكما قد تحاكمتا عندي وأنتما كركبتي البعير الأدرم [16] الفحل تقعان

الأرض وليس منكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم. ولم

يفضل واحداً منهما على صاحبه كيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين ونحر الجزر

وفرق على الناس.

وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه فقال: يا هرم أى

الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت؟ قال: لو قلت ذلك اليوم عادت جذعة ولبلغت

شَعَفات هجر. فقال أمير المؤمنين: نعم مستودَع السر أنت يا هرم مثلك فليستودع

العشيرة أسرارهم، وقال فيه الأعشى:

حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر

لا يأخذ الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر [17]

وهكذا تجد أن هذه المنافرات تجسد لنا تلك العقلية التي تعتز بالعدد والكثرة،

والشجاعة والكرم، وأن المنافر وقبيلته أفضل القبائل. ومن هنا عاب القرآن هذا

الشأن فقال تعالى:

[أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ] والله لا يحب كل مختال فخور.

طريقة المقاتلة وأدوات القتال:

لقد أسهب الشعر الجاهلي في وصف دقائق الحرب، طرقها وأدواتها

وأوقاتها [18] .

وقد كان قتالهم بالكر والفر أحياناً، وقد يتخذون وراءهم حواجز من الظعائن

أو الإبل يرجعون إليها، وعرفرا أحياناً الحروب المنظمة. وكانت المبارزة تسبق

الحرب في بعض الحالات قال عنترة: [19]

سأخرج للبراز خَلَّي بالٍ ... بقلب قُدً من زُبَرِ الحديد

وفى غزوة أحد تقدم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بالراية متحدياً

المشركين وخرج إليه أبو سعيد بن أبي طلحة ليبارزه فضربه علي وصرعه [20] .

وقد أغاروا بالليل والنهار، وربما كان أكثر الغارات ليلاً والقوم رقود وكانوا

يمتنعون عن القتال في الأشهر الحرم وفي ذلك حكمة بالغة في أمة اعتادت شنَّ

الغارات، واعتادت السطو والسلب، حيث يتمكن العقلاء من محاولات الصلح حتى

لا يسترسلون في التفاني وليتمكن الإنسان من قضاء حاجاته وأمور معاشه.

كان العرب في جاهليتهم يحرصون على أدوات القتال، يحملونها لا تفارقهم

وافتخروا بأنواعها، وجودتها، فبها يغيرون، ويثأرون ويغنمون، لقد تحدثوا في

شعرهم عن السيوف والرماح والدروع بأنواعها، وعن السهام والقسي بأشكالها،

وفاخروا بالخيول الأصيلة، فهذا عنترة يفتخر بأن وسادَه درعه وسيفه، وبأن مقيله

ظهر حصانه: [21]

أيا عبل ما كنت لولا هواك ... قليل الصديق كثير الأعادي

وحقك لازال ظهر الجواد ... مقيلي وسيفي ودرعي وسادي

ومن أهم وسائلهم الخيول إذ أعزوها إعزازاً عجيباً، وافتخروا بها لأنها

وسيلة الكر والفر، وعرف العرب بالمحافظة على أنسابها [22] ، وعدم الخلط بين سلالاتها، وكان إطلاق الأسماء على الخيل عادة معروفة؛ ليميزوا بين الأصيل والهجين، وقد ذكر صاحب أنساب الخبل [23] أكثر من مائة فرس من أفراس الجاهلية والإسلام مع نسبتها إلى أصحابها من ذلك أعوج، كان سيد الخيل المشهورة، كان لملك من ملوك كندة، والغرب والوجيه ولاحق والمذهب وكتوم.

قال طفيل الغنوي:

بنات الغرب والوجيه ولاحق ... وأعوج تنمي نسبة المتنسب

ومنها داحس والغبراء، والسلس فرس لمهلهل بن ربيعة التغلبي.

وقد ذكرت المفضليات [24] عدداً منها مثل: العرادة للكلحبة والرحالة

فرس عامر بن الطفيل. والكلام يطول في إعزاز العرب للخيل والشعر فيها كثير وكان أشراف العرب يخدمونها بأنفسهم، ويفتخرون بكثرة العناية بها فالأعرج المعنّى يعجب لأن زوجته تعيب عليه إيثار فرسه الورد عليها باللبن ويقول: إن فرسه أفضل من زوجته ساعة الفزع ووقت الغارة: [25]

أرى أم سهل ما تزال تَفَجَّعُ ... تلوم ولا أدري علامَ تَوَجَّعُ

تلوم على أن أعطِي الورد لِقْحةً [26] ... وما تستوي والورد ساعة تفزع

ويلوم عنترة امرأته لاعتراضها على سقائه اللبن وإطعامه الطعام:

لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

إن الغبوق له وأنت مسوءة ... فتأوهي ما شئت ثم تحوبي [27]

أنذر عنترة زوجته أن يهجرها كأنها جرباء وأصر أن يكون اللبن شراب

فرسه في كل مساء وإن حزنت وتألمت.

لقد أكثر الشعراء من وصف الخيل وما ذلك إلا لأنهم أمة جلاد وكفاح فهي

أول عدتهم وهي حصونهم المنيعة [28] .

وقد ورد الثناء عليها في القرآن الكريم والحديث الشريف قال تعالى: [ومِن

رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ] وفي الحديث: «الخيل معقود في

نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .

إن الحياة الحربية، والغارات، جعلت عرب الجاهلية يمجدون الأبطال

الشجعان، والفرسان الكماة، حتى كثر الفرسان المشهورون وضربت بهم الأمثال

وقد ترجم صاحب بلوغ الأرب لعدد كبير منهم [29] .

فربيعة بن مكدم فارس كنانة، وكان بنو فراس بن كنانة أنجد العرب وفيهم

يقول علي - رضى الله عنه - لأهل الكوفة: «مَنْ فاز بكم فقد فاز بالسهم ... الأخيب.. ووددت -والله- أن لي بجميعكم وأنتم مائة ألف ثلاثمائة من بني فراس بن غنم» .

وعنترة بن شداد العبسي، وقد شُهد له في حروب داحس والغبراء وأخباره

مشهورة أضحت تشبه الأساطير.

وزيد الخيل وهو زيد بن مهلهل الطائي الذي أسلم وسماه رسول الله صلى الله

عليه وسلم زيد الخير، وعامر بن الطفيل فارس بني عامر وكان عامر من أشهر

العرب بأساً ونجدة وأبعدها اسماً كما يذكر ابن الأنباري في شرح المفضليات.

ومنهم عمرو بن معد يكرب ينتهي نسبه إلى كهلان بن سبأ، ودريد بن الصمة

من بني جشم، وعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة المشهورة التغلبي وهو أحد فُتّاك

العرب وهو الذي قتل عمرو ابن هند الملك.

والحارث بن عُباد من فرسان ربيعة المشهورين، ومهلهل بن ربيعة التغلبي

وهو عدي بن ربيعة صاحب حرب البسوس الشهيرة.

ومن طرائف أخبار الحارث بن عُباد والمهلهل أن الأول كان قد اعتزل حرب

البسوس حتى قتل المهلهلُ ولدَه (وقيل ابن أخيه) واسمه بجير، وقال عندما طعنه

بالرمح وقتله: (بؤ بشسع نعل كليب) .

وعندما علم الحارث بذلك غضب ودعا بفرسه النعامة فجزّ ناصيتها وقال [30] : ...

قربا مربط النعامة مني ... لقحت حربُ وائل عن حيال

لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحَرِّها اليوم صال

وقاد قبائل بكر وقاتل تغلب حتى هرَب المهلهل وتفرقت قبائل تغلب.

وكان أول يوم شهده الحارث بن عباد هو يوم تحلاق اللمم، وفيه أَسر الحارثُ

مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على عدي بن ربيعة وأخلي عنك فقال له:

عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم، قال: فأنا عدي فجز ناصيته وتركه

وقال فيه:

لهف نفسي على عدىّ ولم أعِ ... رف عدياً إذ أمكنتني اليدان [31]

وهذا وفاء نادر، ورجولة تستحق الإكبار، وتتضاءل أمامها مواقف الرجال

من أتباع الجاهلية الحديثة.

ولم يتركوا وسيلة إلا حاربوا بها حتى الحجارة وكثيراً ما ساعدتهم نساؤهم بها

قال بعضهم:

فإن تمنعوا منا السلاح فعندنا ... سلاح لنا لا يُشترى بالدراهم

جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجال حُلقت بالمواسم [32]

د- الأسرى والسبايا: [33]

للحروب نتائجها المريرة قديماً وحديثاً، وطالما فخر شعراء الجاهلية بأخذ

الأسرى لأنه برهان على النصر، وسوْق النساء والأطفال سبايا حرب، فالمهلهل

يفتخر بأنهم أسروا أعداءهم وشفوا من ذلك الصدور: [34]

فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف

وافتخر عمرو بن كلثوم بعودتهم ظافرين معهم الأسلاب والسبايا والأسرى:

فآبوا بالنِّهاب وبالسبايا ... وأبْنا بالملوك مُصَفّدينا [35]

وقد يسخرون الأسرى عبيداً، أو يوردونهم حتفهم، وفى يوم أوارة الأول

أسر المنذر بن ماء السماء من بني كنانة أسرى كثيرة ثم أمر بهم فذبحوا على جبل أوارة وأمر بالنساء أن يحرقن [36] .

وقد يطلقون الأسير ويمنون عليه بذلك بَعد أن يجزوا ناصيته، وكان حرصهم

على جز ناصية الشريف شديداً ذلةً له، واعتزازاً بالعفو عنه بعد المقدرة ومن

أخبارهم أن زيد الخيل أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته ثم خلى سبيله [37] .

كان شعراء الجاهلية يفتخرون بجز الناصية بعد الاحتفاظ بها لإظهارها عند

اللزوم مباهاة وافتخاراً، تقول الخنساء:

جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لن تُجَزَّا

وقالت في أخيها صخر:

رداد عادية في فكاك عانية ... كضيغم باسل للقَرن هصّار [38]

وقد يطلق الآسر أسيره جزاء مدحة يسمعها، ويؤثرها على الفداء فقد أسر

صعصعة بن محمود أحمرَ بن جندل فبعث إليه سلامة بن جندل أبياتاً منها:

فإن شئت أهدينا ثناء ومدحةً ... وإن شئت عدّينا لكم مائة معاً

فأطلقه آسره وقال: المدحة والثناء أحب إلينا [39] .

وكان العرب أحياناً يفدون الأسرى وأكبر قيمة دفعت في الفداء ثلاثمائة بعير

دفعتها أم بسطام بن عبد الله فداء لابنها [40] .

وقيل إن الأشعث بن قيس الكندي غزا مذحجاً فأُسِر وفدى نفسه بألفي ... بعبر [41] .

وقد يستولدون السبايا، ولكنّ العربية السبية ما كانت لتنسى قومها وإن طال

العهد، ويروى أن عروة بن الورد كان قد أصاب في بعض غاراته امرأة من كنانة، واتخذها لنفسه فأولدها وحج بها، ولقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا فإنا نكره

أن تكون سبية عندك قال: على شريطة أن نخيرها بعد الفداء.. وكان يرى أنها لا

تختار عليه، فرضوا بذاك، وفادوا بها، فلما خيروها اختارت قومها ثم قالت: أمَا

إني لا أعلم امرأة ألقت ستراً على خير منك.. ولقد أقمت معك وما يوم يمضي إلا

والموت أحب إلي من الحياة فيه، وذلك أني كنت أسمع المرأة من قومك تقول:

قالت أمَةُ عروة كذا، وقالت أمته كذا والله لا نظرت في وجه غطفانية فأرجع راشداً

وأحسن إلى ولدك [42] .

وقال فيها قصيدة طويلة يتحسر عليها منها:

ولو كاليوم كان عليّ أمري ... ومَنْ لك بالتدبر في الأمور

إذن لملكتُ عصمة أم عمرو ... على ما كان من حَسَكِ الصدور [43]

وكثير من سادات العرب في الجاهلية كانوا أبناء سبايا مثل دريد بن الصمة

فأمه ريحانة بنت معد يكرب أسرها الصمة ثم تزوجها فأنجبت دريداً وإخوته وهي

التي يقول أخوها عمرو في حديث إسارها:

أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوعُ

سباها الصمة الجُشَمِيُّ غصباً ... كأن بياض غرتها صديع

وحالت دونها فرسان قيس ... تَكَشُّفُ عن سواعدها الدروع [44]

وقد تلقي المرأة السبية بنفسها من على ظهر هودجها كما فعلت فاطمة بنت

الخرشب أم الربيع بن زياد العبسي.. عندما أسرت رمت بنفسها على رأسها من

البعير فماتت خوفاً من أن يلحق بنيها عار.

هـ - الدعوة إلى نبذ الحرب [45] :

إن القتال في الجاهلية يكاد لا يهدأ، فالأرواح تُزهق والنساء ترمل، والبيوت

تخرب، والثأر يزيد الحروب اشتعالاً، في أرض لا تعرف الهدوء ووسط صحراء

لا ترحم.

والشعر الجاهلي خير مصدر لتصوير هذه المعارك، وتلك المخاوف ... والويلات، فعامر بن الطفيل يفتخر ببطولته وبطولة قومه ثم يعدد ... انتصاراتهم [46] :

ونحن صبحنا حي أسماء بالقنا ... ونحن تركنا حيّ مُرة مأتما

بقرنا الحبالى من شنوءة بعدما ... خبطن بِعِنفِ الريح نهداً وخثعما

ونحن صبحنا حي نجران غارة ... تبيل حبالاها مخافتنا دما

كانت رعونة الجاهلية تجبر إليها من اعتزل القتال قسراً، كما حصل في

موقف الحارث بن عُباده عندما اعتزل حرب البسوس وقد مرت قصته فيما سبق.

على أن هذا الصخب وذلك الضجيج الذي شمل الحياة بكل مظاهرها لم يمنع

الأصوات القليلة من المناداة بالرجوع إلى حياة الأمن والاستقرار، ومن المعلوم أن

العرب يقبلون الصلح ويرضون بالديات إلا بعد تفاقم الأمر، وبعد أن تأتي الحرب

على الحرث والنسل، أما قبل ذلك فقد كانت سبة وعاراً عندهم.

من المواقف النادرة في مساعي الصلح، ما قام به هرم بن سنان بن عوف من

بني مرة، لأنهما تحملا القتلى من عبس وذبيان في حرب داحس والغبراء التي

دامت أربعين سنة، وكانت ثلاثة آلاف بعير أدياها في ثلاثة أعوام.. فمدحهما

زهير بن أبي سُلمى، وخلد ذكرهما في معلقته: [47]

سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم

يميناً لنعم السيدان وُجِدْتُما ... على كل حال من سحيل ومبرم

تداركتما عبساً وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر مَنْشِم ...

وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعاً ... بمال ومعروف من القول نسلم

هذه الحروب أتاحت لزهير أن يتأمل الحرب وويلاتها وأن يعظ وينصح،

يقول في معلقته: [48]

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجّم

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضرَ إذا ضريتموها فتضرم

فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كِشافاً ثم تحمل فتُتْئِم

فتنتج لكم غلمانَ أشأم كلّهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم

هذه الأبيات أجاد فيها زهير للتنفير من الحرب، فيقول: لقد جربتم الحرب

وذقتم ويلاتها، والحرب لا تلد إلا الحرب لأن العداء تتوارثه الأجيال بعد الأجيال،

والحرب تلد توأمين، أي أن شرها يتضاعف، ولن يكون المولود إلا موتوراً ناقماً

ولن تكون الأجيال المولودة إلا مشائيم، كأن كلاً منهم أحمر عاد الذي عقر الناقة

فأهلك القوم.. فالإنتاج لن يكون إلا ما تكرهون، لا كإنتاج وغَلة قرى العراق من

الحبوب والدراهم.

ولقد أنصف عنترة العبسي عندما قيل له صف لنا الحرب فقال: أولها شكوى

وأوسطها نجوى، وأخرها بلوى.

كان الأشراف يتوسطون في الصلح كما عرفنا، ويحتسبون دماء القتلى من

الطرفين ومن زاد قتلاهم أخذوا ديتهم: للصريح ديته وللحليف ديته وهي نصف دية

الصريح، كما حدث عندما حكمت الأوس والخزرج (في حروب سُمير) ثابت بن

المنذر بن حرام والد حسان بن ثابت -رضي الله عنه-[49] .

وكان تقسيمها ألفاً للملوك ومائة للصريح وخمسين للحليف، وكانت تقدر

بالإبل.

للبحث صلة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015