مجله البيان (صفحة 31)

عزة نفس (القاضي الجرجاني) (عرض وتعليق)

ركن الأدب

عزة نفس

للقاضي: علي بن عبد العزيز الجرجاني

1- يقولونَ لِي: فيكَ انقباضٌ [1] ، وإنَّما ... رَأوْا رجلاً عن موقفِ الذُّلِّ أحجما

2- أرى الناسَ مَنْ داناهُم [2] هانَ عندَهُمْ ... وَمَنْ أكْرَمَتْهُ عزةُ النفسِ أكْرِما

3- وَلَمْ أقْضِ حَقَّ العِلْمِ إنْ كانَ كُلَّما ... بدا طمعٌ صَيَّرْتُهُ [3] لِيَ سُلَّما

4- إذا قيلَ: هذا مَوْرِدٌ، قُلْتُ: قَدْ أرِى ... وَلكِنَّ نَفْسَ الحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّما

5- وَلَمْ أبْتَذِلْ في خِدْمَةِ العلمِ مُهجَتِي ... لأخْدِمَ مَنْ لاقيتُ، لكنْ لأُخْدَما

6- أأشقَى بِهِ غَرْساً، وَأجنيهِ ذِلَّةً؟ ! ... إذاً، فاتِّباعُ الجَهْلِ قَدْ كانَ أحْزَما

7- وَلوْ أنَّ أهْلَ العِلمِ صانُوهُ صانهُمْ ... وَلَوْ عظَّموه في النفوس لَعُظِّما

8- ولكن أهانوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاه [4] ُ بالأطماعِ حتى تَجَهَّما

معنى الأبيات:

1- يتعجب الشاعر من اتهام الناس له بالعزلة والبعد عن الناس وعدم

الانخراط فيما بينهم، مع أن ابتعاده لم يكن إلا عما يورث نفسه الذل.

2- اتخذت هذا الموقف لأنني رأيت أن كل من رضي بكل ما عليه الناس

فدخل معهم ووافقهم على كثير مما هم عليه تهون نفسه عندهم، ومن كان عنده عزة

نفس تبعده عن مواطن الشبهة أكرمه الناس.

3- والذي يدفع كثير من العلماء إلى مجاراة الناس هو المطامع المادية، وهي

لا تنتهي ولا أستطيع قضاء حق العلم إذا كنت كلما لاح مطمع من هذه المطامع

جعلته سلّماً لنفسي.

4- لذلك، تجاهلت هذه المطامع المُذلِّة التي تتنافى مع شرف العلم، فإذا

أشار لي مشير إلى أحد هذه الموارد قلت له: إنني أرى ما ترى، ولكن يمنعني من

الورود نفس حرة تصبر على العطش وتتحمله.

5- إن كثيراً من هذه المطامع تؤدي إلى خدمة من لا يستحق الخدمة، وإلى

مداراة أصحاب الدنيا وتسخير العلم لمصالحهم، مع أني لم أتعلم إلا من أجل إكرام

نفسي لا إهانتها بذلك.

6- هل أشقي نفسي في طلب العلم، لأجني لنفسي الذل؟ مادام الأمر كذلك

فالبقاء على الجهل كان أفضل من العلم الذي يكون سبباً في هوان صاحبه.

7- لو أن العلماء حفظوا علمهم، وترفعوا به عما لا يليق لحفظهم، ولكان

ذلك سبباً في صيانتهم ومعرفة الناس حقهم، ولو نظروا إلى العلم نظرة إعظام

وإكبار لكان عظيماً وكبيراً في أعين الناس.

8- ولكن الواقع أن كثيراً من العلماء أهان العلم بتصرفاته، فهان العلم في

نظر الناس وحسبوا أن العلماء كلهم على هذه الشاكلة، وأصبح العلم وبالاً على

العلماء ومصدر شقاء لهم، حتى ليكاد كثير منهم أن يتمنى لو لم يتعلم.

في جو الأبيات:

هذه أبيات تقف شامخة -بعددها القليل- على امتداد الشعر العربى كله، بل

إنها لتكاد تكون كذلك في الأدب العالمي، من حيث بساطة التعبير وصدقه، ومن

حيث جمال الأسلوب وترفعه.

وقائلها هو القاضي أبو الحسن، علي بن عبد العزيز الجرجاني، قاضي الريَّ

المتوفى سنة 392 هـ، وكان عالماً، أقرَّ له الناس بالتفرد، وكان إلى ذلك شاعراً

محسناً، وناقداً دقيقاً، وكتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه) من أشهر كتب النقد

في الأدب العربى، وهو مطبوع.

وهي أبيات تظل جديدة، لأنها لصيقة بموضوع حيّ، وقضية مصيرية،

وهي علاقة العالم بغيره من الناس، سواءً ارتفعوا أو سَفلوا.

وسبب آخر يجعلها جديدة دائماً، وهو ما يراه الإنسان في كل عصر من

تهاون بعض العلماء وتهالكهم على أقدام أصحاب الدنيا أو السلطة، ودوسهم المعاني

الشريفة التي يقتضيها العلم.

إن الشاعر -هنا- صاحب قضية، ذو شخصية واضحة قوية، رسم حدودها

بهذه الأبيات القليلة، التي تقارب غرض (الفخر) ، ولكنها ما تلبث أن تنأى عما

تواطأ عليه أصحاب الفخر التقليدي من الشعراء، من موضوعات يغلب عليها

الادعاء والتطاول.

وبروز شخصية القاضي في هذه الأبيات لم يؤثر على شاعريتها القوية،

فالحِجاج بالدليل والبرهان أضاف إلى جمالها قوة، وأعطانا حقيقة مفادها: أنه ليس

صحيحاً بإطلاق أن شعر العلماء يكون متكلفاً يفتقر إلى الشاعرية الأصيلة.

إن الشاعر يقدم في أبياته (مرافعة) جامعة عن نفسه، ويدافع دفاعاً فذاً عن

قدسية العلم التي وضع تحت وطأة المطامع والزلفى ممن لا يستحق.

هاهم بعض الناس يضيقون ذرعاً بعدم خوضه في غمار الناس، فيلصقون به

تهمة الانقباض والانعزال، وهى تهمة قاسية، قد تلقى ظلالاً على شخصية العالم

في نظرهم فيسارع إلى تخطئة من اتهمه بذلك، وتوجيه مابدا من انقباضه التوجيه

الصحيح، فما حسبه هؤلاء انقباضاً ليس على إطلاقه، وإنما هو بعد عن مواقف

الذل، ومواطن الهوان.

والذي دعا الشاعر إلى هذا الموقف هو رصيد التجارب المتراكمة، التي

علمته أن الناس يستهينون بمن يخوض معهم كل مخاض، في جدهم وهزلهم،

ويوقرون من يقترب منهم بقَدَر، ويخاطبهم بحساب.

ولعلنا نلحظ أن هؤلاء المنتقدين يعيبون على الرجل نوعاً من الابتعاد بعينه،

وهو الانكماش عن صاحب السلطان وعدم الانضمام إلى حاشيته، فيرد عليهم قائلاً:

إن للعلم حقوقاً، ومن أظهر هذه الحقوق صيانته عن المطامع، والبعد عن

التزلف والترفع به عما لا يليق بحملته، وإذا ما تورطتُ مع من دَلَفَ إلى أبواب

السلاطين، أو أهل الدنيا، ابتغاء ما يتساقط من موائدهم من فتات؛ أكون قد

أهدرت حق العلم وخنت الأمانة.

ويبدو أن الشاعر لم ينأ بنفسه عن هذه المواطن لأنه ليس بحاجة إليها؛ بل

هو محتاج إلى ذلك، ولكنها نفس حرة، ترى الموارد مُشْرَعَةً، ولكنها تلمح من

وراء هذه الموارد هواناً ومِنَّة، وضعة وصغاراً، وإنفاقاً لشيء ثمين في سوق

رخيصة، فتتسلح بالصبر على الظمأ، يدفها إلى ذلك إرادة قوية، وشخصية

متماسكة، وهذا معنى يُنْظَرُ فيه إلى بيتّي عنترة السائِرَين:

لا تسقني ماءَ الحياة بذلةٍ ... بل فاسقني بالعز كأسَ الحنظلِ

ماءُ الحياةِ بذلةٍ، كجهَنمٍ ... وجهنمٌ بالعز أطيبُ منزلِ

وما أبلغ كلمة الفضيل بن عياض في هذا المجال: (إذا رأيت العالم يتردد

على أبواب السلاطين فاعلم أنه لص) .

ثم يلفت الشاعر نظر الذين ينكرون عليه موقفه، من دهماء الناس، أو من

أدعياء العلم، الذين يغرهم بريق المناصب عن الحق، ويغرقون أنفسهم في حمأة

التَّرَخُّص والتأويل فيقول:

لم أتعب عقلي، وأجهد نفسي في طلب العلم من أجل أن أذلها في خدمة من لا

يستحق الخدمة طلباً لمال، أو حرصاً على جاه أو منصب؛ وإنما جهدت في طلب

العلم ليخدمني هؤلاء الذين يراهم كثير من الناس فن مقام من يستحق الخدمة بينما

أرى أن مرتبة العلم لا تدانيها مرتبة أبداً. وهذا إبراهيم بن أدهم يقول في ذلك:

(لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) ، يعني: العلم والتلذذ به.

ثم يجسد الشاعر القضية تجسيداً بدهياً واضحاً فيقول:

أأجهد نفسي وأتعبها في تحصيل العلم -كمن يتعب في إنفاق الجهد الجهيد على

غراس، حتى إذا حان إثمار هذه الغراس اجتنى منها ثمر الذل؟ ! لاشك أن من

يعمل لتكون نتيجة عمله هذه النتيجة إنسان أخرق، وإن عيشاً في ظلال الجهل خير

من علم يورث الذل ويكون وبالاً على صاحبه.

وإن ما نرى من هوان العلم والعلماء، (وهذه القضية بدأت من قديم، ثم

زادها الزمن ترسخاً ووضوحاً إلى يومنا هذا) ونظرِ الآخرين إليهم نظرة ازدراء،

سببه نابع من نفوس هؤلاء العلماء الذين لم يصونوا العلم، ولم يحفظوه عن أن

يهان ويتمرغ على أعتاب أصحاب الدنيا، فلو اعتقد هؤلاء العلماء شرفَ العلم،

وعظمَتَهُ في نفوسهم؛ لعظّموه في واقع حياتهم، ولكنهم وضعوه في غير موضعه،

واستهدفوا به ما رخص من الأغراض، وما قرب من الغايات، وسخّروه من أجل

الدنيا، فهان في نظهر الناس، ممن لا يعرف للعلم حقيقة؛ فأهانوا حَمَلَتَهُ،

وعدّوهم من سَقَطِ المتاع.

وبعد، فهذه أبيات القاضي الجرجاني، تقف معْلَمَةً بارزة في أدبنا العربي،

بصدقها وجلالها وعظمة موضوعها، وما أجدر طلبة العلم، بُلْهَ العلماء، أن

يتخذوها دليلاً لهم في حياتهم، وخلال علاقتهم بالناس، لأنها نفحة من الأدب الخالد

الذي استظل بظل مفاهيم الإسلام العظيمة.

منصور الأحمد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015