مجله البيان (صفحة 3195)

حزب الله رؤية مغايرة

أصول وجذور

عبد المنعم شفيق

(المديح) الإعلامي الضخم كان سبباً في رسم صورة خيالية عن حزب الله

كيف ولماذا تم (التحول) من (الانتظار) إلى قوافل (الثوار) ؟

(الوهابيون رجس من عمل الشيطان، سننتقم من الوهابيين، لن تمر هذه

الجريمة دون عقاب كانت هذه عبارات مكتوبة ومحمولة على لافتات في تظاهرة

أخرجها (حزب الله) في الجنوب اللبناني عقب اتفاق الطائف الذي كان من أسباب

وقف الحرب الأهلية التي كانت تدور في لبنان.

في المظاهرات تخرج الكلمات دائماً من القلب، منطوقة أو مكتوبة.

على جانب آخر كانت هناك كلمات أخرى خرجت من القلب كذلك ترسم

صورة أخرى مغايرة.

فيقول أخو العشيرة عن الحزب: إنهم صفوة الصفوة، وطليعة الأمة،

ومرشدوها، وباعثو دينها وحضارتها ومجدها، ومعلموها، ورساليوها،

وأنبياؤها) [1] إن المقاومة الإسلامية في لبنان تمثل لنا ضوءاً باهراً في الأفق المعتم، وصوتاً جسوراً وسط معزوفة الانكسار، وقامة سامقة تصاغر إلى جوارها دعاة

الانبطاح والهرولة، إنهم يدافعون بهذا الدور البطولي الذي يقومون به عن شرف

الأمة العربية وعن الأمل في أعماق كل واحد فينا، إنهم يرفعون رؤوسنا عالياً

ويرصِّعون جبين أمتنا [2] .

إن حزب الله يقوم بدور رائد في إيقاظ الأمة وتقديم الدليل على قدرتها لصد

العدوان [3] .

فالمقاومة الإسلامية لحزب الله واحدة من أبرز معالم نهضة الأمة وأكبر دليل

على حيويتها [4] .

لماذا حظيت المقاومة الإسلامية في لبنان بهذا القدر الهائل من التضامن

الشعبي العربي والإسلامي؛ بل من كل المستضعفين في العالم؟ وهل يتحول

الطرح السياسي والحضاري لتلك المقاومة إلى أيديولوجية للمحرومين في كل مكان

في العالم في مواجهة النمط الحضاري والقيمي الغربي الذي يهدد العالم بأسره؟ لماذا

نجحت المقاومة اللبنانية في أن تصبح طليعة لكل قوى التحرر العربي على اختلاف

مشاربها الدينية والطائفية والسياسية والطبقية؟ ! وبصيغة أخرى: لماذا نجحت

المقاومة اللبنانية في الخروج من مأزق الطائفية الضيق إلى رمز للتحرر لكل إنسان

مسلماً كان أم مسيحياً عربياً أم عالمياً، أبيض أو أسود؟ لماذا كانت المقاومة

وحزب الله بالتحديد هي الجزء الحي في النسيج العربي الذي اهترأت الكثير من

أجزائه وأطره الفكرية والتنظيمية؟ [5]

صورتان متناقضتان تثيران أسئلة كثيرة عن قصة الحقيقة، ولا يُخفي بعض

الناس شدة الحيرة التي تنتابه مع هذه الصور المتباينة الشديدة التنافر؛ فبين مُسلَّمات

عقدية راسخة، وأصول مستقرة، وبين واقع ضاغط على الفكر والشعور،

تضطرب الرؤى وتحار العقول.

وحزب الله في لبنان جزء من قصة طويلة وصراع مرير، والحديث عنه

وعن حقيقته وأهدافه أمر ضروري في وقت بدأ فيه تحول كبير في دور الحزب،

بعد أن تحقق جزء كبير من أهدافه، وكذلك في وقت بدأت فيه (عودة الروح)

لمسار السلام السوري واللبناني، والذي يمثل (حزب الله) ورقة تفاوضية هامة فيه؛ بيد أن المسألة متشعبة شديدة التعقيد فرضتها عوامل شتى؛ لذا كان من المهم استعراض التفاصيل وتفاصيلها.

لبنان أي أرض أي دولة؟

لن نذهب في التاريخ بعيداً، وإنما سنذكر صورة منه، أو نتيجة لصراعه

وأحواله في لبنان، فقد قامت الدولة اللبنانية على ركيزة أساسية هي (الطائفية) ،

وولد الاستقلال والميثاق في أحضانها، وورث الاستقلال نهجاً يجسد التفسخ الوطني

في إطار علاقات سياسية تعمل على إبقاء هذا الأمر واستمراريته.

هذا النهج السياسي وقف عائقاً أمام تطوير الواقع الطائفي ومحاولة تجاوزه،

وحمل الاستقلال معه كل أمراض التخلف والتعصب والتفرقة؛ لأن أبطاله لم يعملوا

على استئصال الرواسب وإقامة الوطن على قاعدة الانتماء إليه؛ بل اكتفوا بوحدتهم

الفوقية وتركوا التشتت الطائفي في القاعدة؛ فقام لبنان على قاعدة تعدد الطوائف

المتعايشة على أرض واحدة تقتسم المغانم فيما بينها.

إن الاستقلال والدستور قد قاما على ركيزتين أساسيتين هما. تجميع الطوائف

وتجميع المناطق؛ وشتان ما بين التجميع والانصهار. لقد استبدلت الوحدة الوطنية

كما هو الحال في الدول الأخرى بوحدة الطوائف المتعايشة، ورعت دولة الاستقلال

المؤسسات الطائفية لتوسع نشاطاتها ولتزيد من انقسام المواطنين.

ففي الحقل التربوي بقي لكل طائفة مؤسساتها التربوية لتلقن المواطنين ثقافات

مختلفة، وعلى الصعيد التنظيمي السياسي صار لبعض الطوائف مجالس مِلّية

تحولت إلى مؤسسات سياسية تسهم في السلطة بدرجة أو بأخرى.

وعلى الصعيد السكاني بقيت المدن الكبرى ذات طابَع طائفي؛ وعلى الرغم

من احتوائها على اختلاط سكاني من مختلف الطوائف إلا أنها تمتعت بغالبية سكانية

من طائفة معينة، أو تضمنت أحياء سكانية لكل طائفة، أو لكل مذهب حي يجمع

أبناء المذهب نفسه، وهذا الأمر قد سهَّل فيما بعد الانقسام الجغرافي؛ حيث هجَّرت

كل منطقة الأقليات الموجودة فيها من الطوائف الأخرى؛ مما جعل السلطة عبارة

عن حكم بين مختلف الأطراف (الطوائف) لا سلطة دولة بيدها المبادرة والقرار

الذي تستطيع فرضه على الجميع.

في لبنان ازدواجية سلطوية. قامت سلطة الدولة وتساكنت جنباً إلى جنب مع

سلطة الطائفة، وكثيراً ما أذعنت سلطة الدولة إلى سلطة الطائفة البارعة في

توظيف التمايزات الدينية لأغراض سياسية.

والطائفة هنا تلعب دور الحزب السياسي المُدافِع عن مصالح الأفراد، وتحل

مشكلة انتماء الفرد طالما أنه لا توجد أطر أخرى أكثر فعالية لتنظيم حياته وضمان

توازنه المادي والنفسي، وهكذا يندفع الفرد إلى أحضان الطائفة؛ فالتخلي عنها يبدو

كأنه ضياع لآلية التضامن الأسري والعائلي إذا لم يسنده ظهور مؤسسات تضامن

جماعي نقابي ومدني أعلى، كما يعني العزلة للأفراد، ويعني الاغتراب النفسي

والاجتماعي كذلك.

لقد عجزت الدولة اللبنانية عن بناء الإطار الفكري والسياسي والإداري

والاقتصادي الذي يوحد الأمة ويبني إجماعاً؛ إنها لم تمتلك رسالة اجتماعية تسمح

لها بأن تكون دولة الأمة لا دولة الجماعات وبدلاً من أن ترتفع باعتبارها مؤسسة

سياسية وسلطة. فوق التمايزات والتناقضات انخرطت هي نفسها بفعل طبيعة بنيتها

وتركيبتها العصبية في التناقضات التي أخذت تمزقها، أو بالأحرى تبرز تمزقها

الداخلي المستور بأيديولوجيا الوفاق والتعايش.

لقد اعترفت الدولة القانونية في لبنان بتعدد القوى السياسية، ومنحتها حق

التنافس الحر حتى بلغ حد الفوضى المسلحة؛ فالتدريب والتسلح غير المشروع،

وقيادة الجيوش غير النظامية، وتخريج دفعات من الميليشيات اللبنانية كان يتم في

احتفالات علنية تنقلها الصحف اليومية تحت سمع الدولة وبصرها.

إن نشوب الحرب بهذه الضراوة والشراسة، وقدرتها على الاستمرار لأعوام

طويلة ما كان يمكنها لولا وجود ميليشيات قد أنشئت أصلاً لأن لها دوراً يُنتظر أن

تلعبه.

وإثر الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين داخل الأراضي

اللبنانية منحتهم الدولة حق الدفاع عن أنفسهم ضد الاعتداءات الخارجية عليهم بدلاً

من أن تكون هي المسؤولة عن حماية كل من يقطن داخل حدودها سواء بالطرق

السلمية أو بالقوة؛ فالدولة عادة كل دولة تقدم نفسها مركز استقطابٍ وحيد لممارسة

العنف القانوني في المجتمع؛ فعنف الدولة له أساليبه. أي قانونيته. لكن الدولة

اللبنانية بتركيبتها الضعيفة سلطوياً قد سمحت لنباتات العنف اللاشرعي أي الخارج

عن إطار الدولة أن تنمو على جوانبها، ومهدت للاحتراب بين اللبنانيين عندما

وقفت شاهد زور من استعداداتهم للحرب، وهي بتركيبتها الطائفية الحساسة لم

تستطع التعامل مع القضية الفلسطينية كما تعاملت معها سائر الدول العربية، فمهّدت

بذلك لحرب الآخرين على الأرض اللبنانية.

حتى الأحزاب التي تؤكد أنها غير طائفية من حيث المبدأ والغاية، وتلك التي

ترفع شعار العلمنة والديموقراطية والمساواة لا تفلت من فخ الطائفية إلا قليلاً.

والظاهرة البارزة التي نشأت في ظل الحرب هي تعدد الأحزاب والمنظمات

والحركات بشكل لم يسبق له مثيل. واللافت للنظر أن إمعان الأحزاب والمنظمات

في تحديد هويتها الطائفية ربما كان لاستقطاب أكبر عدد من الأتباع أو لإبراز

خصوصيتها.

وفي جميع الأحوال انخرطت تلك الأحزاب في لعبة الطائفية نفسها التي

استخدمها الإقطاع السياسي لإحكام سيطرته وتثبيت مواقعه. أما الأحزاب العلمانية

فإن كلاً منها قد اتخذ صبغة القطاع الطائفي الكانتون الذي يوجد داخل حدوده.

وحددت الأحزاب والميليشيات مناطق نفوذ لها، وأخذت تثبت مواقعها داخلها؛ واعتباراً من عام 1984م أخذت الخطوط الفاصلة بين مناطق النفوذ تتضح؛ ففي

بيروت وضواحيها وفي جزء من جنوب لبنان هناك سيطرة لقوات أمل الشيعية

وحلفائها، وفي ضاحية بيروت الجنوبية وبعض مناطق البقاع والهرمل هناك

سيطرة لقوات حزب الله الشيعية، وفي بيروت الشرقية وضواحيها وبعض مناطق

الجبل هناك سيطرة للقوات اللبنانية المارونية على جزء منها، وسيطرة فئة من

الجيش اللبناني على الجزء الآخر في عام 1990م، وفي الشوف سيطرة لقوات

الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزية وحلفائها، وفي الشمال سيطرة لقوات المرَدة

المارونية المعادية للقوات اللبنانية، وفي أقصى الجنوب هناك الحزام الأمني الذي

صنعته إسرائيل بينها وبين جنوب لبنان، يسيطر عليه (جيش لبنان الجنوبي)

المدعوم من قِبَلِ إسرائيل.

فماذا بقي للدولة وسط هذه. البانوراما السلطوية. حتى تسيطر عليه؟

من جهة أخرى، شكلت الطائفية أفق الدولة اللبنانية الذي استوحت منه

تصوراتها للمجتمع والكون ونمط الوجود، وللتنظيم الاجتماعي، والتوزيع

البيروقراطي، كي تجند لا جيشاً عقلانياً عسكرياً واحداً وجيشاً مدنياً منظماً واحداً

البيروقراطيين وموظفي الدولة بل جيوشاً طائفية مرتهنة لجماعاتها المتنطعة

والمتوجهة عقلياً وعاطفياً نحو الذات الطائفية المنغلقة.

(ثم بدأ طرح إلغاء الطائفية السياسية؛ لأنها سبب البلاء، ولأنها تمنع

الانصهار الوطني، وتحقيق المواطنة الحقة. والمطالبون بإلغاء الطائفية السياسية

أغلبهم في مواقع طائفية بعضها شديد العصبية؛ فالأحزاب المطالبة بإلغاء الطائفية

أحزاب طائفية بتركيبتها، وبدهي أن المطلب الصادر من موقع طائفي هو طائفي

أياً كان التعبير اللفظي عنه، ومطلب إلغاء الطائفية يعني تحديداً: استبدال

ديمقراطية عددية تعني سيطرة على الحكم والإدارة بحكم العدد أو بحكم ما يظن من

غلبة عددية بالديمقراطية الإصلاحية المركبة المعقدة أساساً للعيش المشترك

اللبناني. [6]

هذا الواقع المأزوم والمَرَضِي مثَّل مرتعاً خصباً لأحلام كل طائفة في السيطرة

وفي لبنان خصوصاً لا تمثل قوة الطائفة إلا بمددها الخارجي وتبعيتها الدينية

والسياسية والمالية. وكانت الطائفة الشيعية التي يمثلها (حزب الله) سياسياً

وعسكرياً موضوع حديثنا من تلك الطوائف التي أرادت أو بالأصح أريد منها أن

تحقق الحلم بتكوين دولة تقوم على تبني المذهب الجعفري الاثني عشري منهجاً

ونظاماً؛ فلبنان أريد به أن يكون. إما دولة نصرانية عربية بميول غربية وسط

تجمع مسلم ضخم، وإما دولة شيعية عربية بميول فارسية وسط تجمع سني ضخم

كذلك.

والدولة الأولى: النصرانية لعل لها حديثاً آخر، أما المراد الآخر فلا بد من

الوقوف فيه أولاً على بعض المرتكزات؛ حتى تتضح الصورة من بداياتها وصولاً

إلى منتهاها.

لبنان وإيران قصة العلاقة:

حين استولى الصفويون على حكم إيران، في مطلع القرن السادس عشر،

وجعلوا من التشيع الإمامي دين الدولة والأمة، وحصنوا إيران به بإزاء الفتح

العثماني (التركي السني) كان التشيع يذوي ويتلاشى، إنْ في مدارس النجف أو

في مدارس خراسان، فعمد الشاه إسماعيل إلى استقدام علماء من جبل عامل جنوب

لبنان لتدريس الفقه الإمامي، فكان منهم: (بهاء الدين العاملي محمد بن الحسين بن

عبد الصمد، 953-1031هـ) الذي أصبح شيخ الإسلام في أصفهان في عهد

الشاه عباس الكبير، والمحقق الكركي علي بن الحسين ابن عبد العالي العاملي،

ت940هـ - 1533م الذي قَدِم النجف ثم رحل إلى بلاد العجم لترويج المذهب،

والسلطان حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي الذي مكنه من إقامة الدين وترويج الأحكام، وكان يُرغِّب عامة الناس في تعلم شرائع الدين ومراسم الإسلام، ويحثهم على ذلك

بطريق الالتزام، وكان أن جعل في كل بلدة وقرية إماماً يصلي بالناس ويعلمهم

شرائع الدين، وبالغ في ترويج مذهب الإمامية؛ بحيث لقبه بعضهم بمخترع مذهب

الشيعة. [7]

ومنطقة جبل عامل أو عاملة في قلب جنوب لبنان كانت أهم مرجعية شيعية

في العالم بين القرنين الميلاديين الرابع عشر والسادس عشر، ومع بداية هذا

التعاون مع الدولة الصفوية أُبيد الآلاف من السُنّة من العامة والعلماء؛ ففي تبريز

العاصمة وحدها كان السُنّة فيها لا يقلون عن 65% من السكان، وقد قتل منهم في

يوم واحد 40ألف سني! ! كما أُجبر الألوف على التحول القسري إلى مذهب

الإمامية [8] كما كانت هناك مؤامرات عديدة وتعاون مع قوى غربية على إسقاط

الدولة العثمانية، وهي من الأمور غير الخافية عبر التاريخ [9] .

وقد استهوت التجربة الصفوية الشيعية (المضطهدين) في العراق وجبل

عامل جنوب لبنان والبحرين، وذهب العلماء بالخصوص ليدعموا تأسيس الدولة

الشيعية (الصفوية) الوليدة [10] .

ونستطيع أن نتجاوز حقبة زمنية بعيدة حتى نصل إلى صورة قريبة تبين تلك

العلاقة الحميمة والوطيدة التي يحاول نفر من الناس فصلها وتزييف الواقع ووقائعه.

فقد قيل لـ حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله: إن دور حزبه لن ينتهي؛ لأنه حزب مستورد من الخارج، (سوريا أو إيران) فقال: لنكن واضحين ونحكي

الحقائق: الفكر الذي ينتمي إليه (حزب الله) هو الفكر الإسلامي، وهذا الفكر لم

يأت من (موسكو) أيام الاشتراكية ولا من (لندن وباريس) ولا حتى من

(واشنطن) في زمن الليبرالية، هو فكر الأمة التي ينتمي إليها لبنان، إذن نحن لم نستورد فكراً، وإذا كان من يقول: إن الفكر إيراني. أقول له: إن هذه مغالطة؛ لأن الفكتر في إيران هو الفكر الإسلامي الذي أخذه المسلمون إلى إيران، وحتى هذا الفكر خاص بعلماء جبل عامل. اللبنانيون هم الذين كان لهم التأثير الكبير في إيران على المستوى الحضاري والديني في القرون السابقة؛ أين هو الاستيراد؟ هذا الحزب كوادره وقياداته وشهداؤه لبنانيون [11] .

وفي إحدى الاحتفالات التأبينية التي تقام في لبنان قال إمام جمعة مسجد الإمام

المهدي الشيخ حسن طراد: إن إيران ولبنان شعب واحد وبلد واحد، وكما قال أحد

العلماء الأعلام: إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً

وعسكرياً [12] .

وفي مناسبة تأبينية أخرى قال الناطق باسم حزب الله ذاك الوقت إبراهيم

الأمين: نحن لا نقول: إننا جزء من إيران؛ نحن إيران في لبنان ولبنان في

إيران [13] .

ويقول محمد حسين فضل الله المرشد الروحي لحزب الله: إن علاقة قديمة مع

قادة إيران الإسلامية بدأت قبل قيام الجمهورية الإسلامية، إنها علاقة صداقة وثقة

متبادلة، ورأيي ينسجم مع الفكر الإيراني ويسير في نفس سياسته [14] .

ويقول حسن نصر الله: إننا نرى في إيران الدولة التي تحكم بالإسلام والدولة

التي تناصر المسلمين والعرب. وعلاقتنا بالنظام علاقة تعاون، ولنا صداقات مع

أركانه ونتواصل معه، كما إن المرجعية الدينية هناك تشكل الغطاء الديني

والشرعي لكفاحنا ونضالنا [15] .

ويُؤَمِّن على كلام أمين الحزب مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون

العربية والإفريقية، د. محمد صدر فيقول: إن السيد حسن نصر الله يتمتع بشعبية

واسعة في إيران كما تربطنا به علاقات ممتازة [16] .

وقد حذر علي خامنئي مرشد الثورة من إضعاف المقاومة الإسلامية وقال: إنه

يجب التيقظ ومنع الأعداء من ذلك، إن شعلة المقاومة يجب أن لا تنطفئ؛ لأن

أولئك الأبطال واجب على إيران مساعدتهم [17] .

فهكذا يتبين الترابط المتكامل بين إيران الثورة وحزب الله وشيعة لبنان، فقد

أصبحت إيران الأم الرؤوم والمحضن الدافئ والمرعى الخصيب والنموذج الذي

يتطلع إليه عموم الشيعة؛ فهي القبلة الدينية والسياسية لهم.

المنتظرون إلى متى! ؟

نتعرض هنا لقضية مهمة حول (التبديل) الكبير الذي حدث في عقيدة ومنهج

الشيعة الاثني عشرية والذي حوَّلهم من طائفة على هامش التاريخ بفعل (نظرية

الانتظار) ، بعد دخول محمد بن حسن العسكري السرداب وغيابه على حد قولهم

إلى طائفة ثورية تريد تغيير العالم كله ومواجهة قوى الاستكبار في العالم وإنارته

بالإسلام (الصحيح) ، وتطهير الأرض من رجس يهود! ! وقد كان لحزب الله

نصيب وافر من هذه الشعارات الرنانة والمواجهة المدَّعاة.

وتقوم نظرية (الانتظار والتَّقِيَّة) على تحريم الثورة والإمامة والجهاد وإقامة

الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة الجمعة؛ فقد تأثر الفكر

السياسي الشيعي تأثراً كبيراً بنظرية وجود الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري

داخل السرداب، واتسم لقرون طويلة بالسلبية المطلقة؛ وذلك لأن هذه النظرية قد

انبثقت من رحم النظرية الإمامية التي تحتم وجود إمام معصوم معيَّن مِنْ قِبَلِ الله،

ولا تجيز للأمة أن تعيِّن إماماً أو تنتخبه؛ لأنه يجب أن يكون معصوماً، وهي لا

تعرف المعصوم الذي ينحصر تعيينه من قِبَلِ الله؛ ولذلك اضطر الإماميون إلى

افتراض الإمام الثاني عشر، بالرغم من عدم وجود أدلة علمية كافية على وجوده.

وقد كان من الطبيعي أن يترتب على ذلك القول بانتظار الإمام الغائب، تحريم

العمل السياسي، أو السعي لإقامة الدولة الإسلامية في عصر الغيبة، وهذا ما حدث

بالفعل؛ حيث أحجم النواب الخاصون بالإمام عن القيام بأي نشاط سياسي في فترة

الغيبة الصغرى، ولم يفكروا بأية حركة ثورية، في الوقت الذي كان فيه الشيعة

الزيدية والإسماعيلية يؤسسون دولاً في اليمن وشمالي إفريقيا وطبرستان.

لقد كانت نظرية انتظار الإمام الغائب بمعناها السلبي المطلق تشكل الوجه

الآخر للإيمان بوجود الإمام المعصوم، ولازمة من لوازمها؛ ولذلك فقد اتخذ

المتكلمون الذين آمنوا بهذه النظرية موقفاً سلبياً من مسألة إقامة الدولة في عصر

الغيبة، وأصروا على التمسك بموقف الانتظار حتى خروج المهدي الغائب.

وقد نسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل أعمال أمتي

انتظار فرج الله عز وجل. يعنون به خروج الغائب المنتظر، وجعلوا الانتظار

أحب الأعمال إلى الله، والمنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان [18] .

وبالرغم من قيام الدولة البويهية الشيعية في القرن الرابع الهجري، وسيطرتها

على الدولة العباسية، فإن العلماء الإماميين ظلوا متمسكين بنظرية الانتظار وتحريم

العمل السياسي، وقد قال محمد بن أبي زينب النعماني (توفي سنة 340هـ) في

كتابه الغيبة: (إن أمر الوصية والإمامة بعهد من الله تعالى وباختياره، لا من خلقه

ولا باختيارهم؛ فمن اختار غير مختار الله وخالف أمر الله سبحانه ورد مورد

الظالمين والمنافقين الحالِّين في ناره) .

(كل راية تُرفع قبل راية المهدي فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله) .

(كل بيعة قبل ظهور القائم فإنها بيعة كفر ونفاق وخديعة) .

(واللهِ لا يخرج أحدٌ منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من

وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به) [19] .

وجاء في كتاب بحار الأنوار عن المفضل بن عمر ابن الصادق أنه قال:

يامفضل كل بيعة قبل ظهور القائم فبيعة كفر ونفاق وخديعة، لعن الله المبايع والمبايَع

له) [20] .

وكما أثَّرت قضية الإمامة والولاية فكذلك أَثَّرتْ نظرية (الانتظار) على

موضوع حديثنا، العمل الثوري (الجهاد) فتعطل، وكان مُحرَّماً.

وقد نتج عن الالتزام بنظرية الانتظار، وتفسير شرط الإمام المُجمَع عليه في

وجوب الجهاد أنه الإمام المعصوم أن تَعَطَّلَ الجهاد في عصر الغيبة؛ فقد اشترط

الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط في وجوب الجهاد اشترط ظهور الإمام العادل

الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره، ولا يسوغ لهم الجهاد دونه، أو حضور مَنْ

نصَّبه الإمام للقيام بأمر المسلمين، وقال بعدم جواز مجاهدة العدو متى لم يكن الإمام

ظاهراً، ولا مَنْ نصَّبه الإمام حاضراً، وقال: (إن الجهاد مع أئمة الجور أو من

غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، وإن أصاب لم يؤجر وإن أصيب كان

مأثوماً) .

واعتبر ابن إدريس: (أن الجهاد مع الأئمة الجُوّار أو من غير إمام خطأ

يستحق فاعله به الإثم، إن أصاب لم يؤجر وإن أُصيب كان مأثوماً) ، وقال: (إن

المرابطة فيها فضل كبير إذا كان هناك إمام عادل ولا يجوز مجاهدة العدو من دون

ظهور الإمام) .

وصرح يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع بحرمة الجهاد من دون إذن إمام

الأصل، و (أن وجوبه مشروط بحضور الإمام داعياً إليه أو من يأمره) .

وبالرغم من قيام الدولة الشيعية الصفوية تحت رعاية المحقق الكركي الشيخ

علي بن الحسين، فإنه رفض تعديل الحكم في عصر الغيبة، وحصر في كتاب

(جامع المقاصد في شرح القواعد) وجوب الجهاد بشرط الإمام أو نائبه، وفسَّر

المراد بالنائب بـ (نائبه المنصوص بخصوصه حال ظهور الإمام وتمكنه، لا

مطلقاً) .

وأغفل الشيخ بهاء الدين العاملي بحث الجهاد في كتابه: (جوامع عباسي)

وفسر سبيل الله في عصر الغيبة ببناء الجسور والمساجد والمدارس.

ولا يذكر أحدٌ من العلماء المعاصرين - كالكبايكاني والشاهرودي والخونساري

والخوئي والقمي والشريعتمداري الذين يعلقون على العروة الوثقى - لا يذكرون

شيئاً عن الجهاد أو تفسير كلمة سبيل الله به.

ومن هنا - وإذا استثنينا عدداً محدوداً جداً من الفقهاء الذين شككوا في تحريم

الجهاد، وربطه بالإمام العادل المعصوم - يكاد يكون إجماع الفقهاء الإمامية عبر

التاريخ ينعقد على تحريم الجهاد، بمعنى الدعوة للإسلام والقتال من أجل ذلك،

وخاصة لدى العلماء الأوائل منهم [21]

وقد قال الخميني: (في عصر غيبة ولي الأمر وسلطان العصر عجل الله

فرجه الشريف يقوم نوابه وهم الفقهاء الجامعون لشرائط الفتوى والقضاء مقامه في

إجراء السياسات وسائر ما للإمام عليه السلام إلا البدأة بالجهاد [22] .

فهكذا كانت هذه النظرية (العقدية) والسياسية عائقاً كبيراً أمام الشيعة الإمامية

في الانطلاق إلى تحقيق عقيدة الثأر الكربلائية، والانتقام ممن قتل الحسين -

رضي الله عنه - وإن كان هذا الموقف ظاهرياً يُخفي خلفه أحلاماً توسعية

فارسية [23] ؛ فقد بدأ الانقلاب على البدعة ببدع أخرى؛ ولكنها هذه المرة تساعد على الخروج من هذه الشرنقة القاتلة التي وضعوا أنفسهم فيها بعد أن ضاقت عليهم بدعتهم وقال قائلهم: اللهم طال الانتظار وشمت بنا الفجار وصعب علينا الانتظار [24] .

الأطوار المنسوخة [*] :

والمنهج الشيعي مر بأطوار يختلف بعضها عن بعض بشكل كبير؛ فبعد وفاة

الإمام الحادي عشر الحسن العسكري بغير ولد اضطرب الشيعة وتفرق جمعهم؛

لأنهم أصبحوا بلا إمام، ولا دين لهم بلا إمام؛ لأنه هو الحجة على أهل الأرض،

وبالإمام عندهم بقاء الكون؛ إذ (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) وهو أمان

الناس (ولو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله)

ولكن الإمام مات بلا عقب، ولم يحدث شيء من هذه الكوارث، فتحيرت فرق

الشيعة واختلفت، فادعت طائفة منهم أن الحسن له ولد غائب حفاظاً على المكاسب

الأدبية والمادية، وأن له نواباً هم الواسطة بينه وبين الناس، وكانوا أربعة، وكانوا

يجمعون الأموال من الناس لإيصالها لهذا الغائب، وكانت لهم الطاعة، فلهم ما

للإمام، ولقولهم صفة القداسة والعصمة، وهم مخولون كذلك بالتشريع، ثم كان أن

توفي رابع النواب، ولم يوص بنائب خامس بعده، وأخرجوا مرسوماً موقعاً من

الإمام الغائب يقول فيه. (أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم

حجتي عليكم، وأنا حجة الله) .

فانتهت بذلك ما تسمى الغيبة الصغرى وبدأ تطور جديد بتفويض أمر النيابة

عن الإمام المنتظر إلى رواة حديثهم وواضعي أخبارهم بعد النواب، وقد أفاد هذا

التطور الشيعة في تخفيف التنافس على منصب البابية وبدأت الغيبة الكبرى [25] .

وكل هذا العنت كان لربط الناس بأحلام مستمرة عن قيام دولة شيعية، وكلما

اقتربت مرحلة التخدير النفسي من النهاية، بدأ تطور آخر وأحلام أخرى حتى لا

يتفلت الناس من هذه البدع وإن كان هذا قد حدث بالفعل مع نهاية كل مرحلة وبداية

كل تطور جديد.

وكانت نظرية (ولاية الفقيه) التي تنازل فيها الفكر الإمامي عن شرط

العصمة والنص في الإمام، وسمح بالنيابة الواقعية للفقهاء عن الإمام، والتي تسمح

لهم بممارسة القضاء وتوجب التقاضي إليهم، وهو ما كان محرماً عندهم من قبل،

وفتح باب الاجتهاد الذي كان محرماً كذلك، والقول بالقياس، وانسحبت أشكال

التطور أو (التبديل) على كافة محرمات (نظرية الانتظار) كالعمل المسلح

(الثورة) والإمامة والجهاد والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلاة ... الجمعة؛ فقد طالت غيبة الإمام وتوالت القرون دون أن يظهر، والشيعة محرومون من دولة شرعية حسب اعتقادهم، فبدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي تداعب أفكار المتأخرين؛ فهذا الخميني يقول: (قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا ... المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة، فهل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ القوانين التي صدع بها نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وجهد في نشرها، وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، هل كان كل ذلك لمدة محدودة؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ.

ثم يقول: (إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل

الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها

وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف) [26] .

ويقول: (وبالرغم من عدم وجود نص على شخص من ينوب عن الإمام حال

غيبته، إلا أن خصائص الحاكم الشرعي موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر؛

فإذا أجمعوا أمرهم كان في ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة منقطعة

النظير) [27] .

وإذا كانت حكومة الآيات والفقهاء لا مثيل لها في العدل كما يقول فما حاجتهم

بخروج المنتظر إذاً؟

وهو يرى أن ولاية الفقيه الشيعي كولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول: (فالله جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً ومن بعده كان الإمام ولياً، ومعنى

ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع) ثم يقول: نفس هذه الولاية

والحاكمية موجودة لدى الفقيه، بفارق واحد هو أن ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين

لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم؛ لأن الفقهاء في الولاية متساوون من

ناحية الأهلية) [28] .

(وإن معظم فقهائنا في هذا العصر تتوفر فيهم الخصائص التي تؤهلهم للنيابة

عن الإمام المعصوم) [29] .

هذا الانقلاب يعتبر نسخاً لكل ما انبنى عليه دين الإمامية، أو على حد قول

من قال: إن الخميني أخرج (المهدي المنتظر) عند الروافض [30]

من الانتظار إلى الثوار:

والفكر السياسي الإمامي هو فكر ثوري بطبيعته، وانتقامي من نشأته إلى

منتهاه، وكما يقول قائلهم. الشيعة هم التيار الثوري على مدار تاريخ المسلمين،

لديهم عقدة ذنب متأصلة منذ مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء على

يد زبانية يزيد بن معاوية ثاني حكام الدولة الأموية، عقدة سببها أنهم تخلوا عن

الحسين الذي خرج يطلب الإمارة، وخذلوه؛ بل وسلمه نفر منهم إلى عدوه اللدود،

ليمثل بجثته ويسبي أهله وذويه، وقد أتاح لهم الزمن (عدواً جديداً) ! ! يعوضون

في جهاده وقتاله والثأر منه ما اقترفوه في كربلاء؛ وبالفعل هم يقاتلون بكل الهموم

والآلام والأحزان والاضطهاد الذي جثم على صدورهم طيلة ما يقرب من 1300

سنة، يجاهدون ضده بعقيدة متماسكة وشعار حاد (كل يوم عاشوراء وكل أرض

كربلاء) ، وإذا لم تكن الدماء قد جرت في كربلاء دفاعاً عن الحسين، فلتَسِلْ أنهاراً

يغسلون بها العار عن الأرض ويستعيضون بها عن الشرف الضائع [31] .

وتمت المبالغة في تحويل نظرية: (الانتظار) السلبية إلى نظرية ثورية،

كما قال عبد الهادي الفضلي: إن الذي يُفاد من الروايات في هذا المجال هو أن

المراد من الانتظار هو وجوب التمهيد والتوطئة بظهور الإمام المنتظر. وإن

التوطئة لظهور الإمام المنتظر تكون بالعمل السياسي عن طريق إنارة الوعي

السياسي والقيام بالثورة المسلحة! ! [32] .

وإن كانت الدولة النبوية في المدينة التي أقامها المصطفى صلى الله عليه وسلم

هي أمنية الأماني التي يُسعى لتحقيقها باعتبارها أنموذجاً ومثالاًَ يُقتفى أثره ويُرجى

الوصول إلى صورته فإن هذا النموذج لم يكن هو المثال والهدف الذي يسعى إليه

الإمامية؛ بل كان مثالهم دائماً وحتى يظهر مهديهم المنتظر هذه (المصيبة)

الكربلائية التي هي دائماً ماثلة أمامهم.

(فالأمة الحسينية أمة متصلة قوام اتصالها بـ (المصائب) المتعاقبة عليها،

ومواقف الثورة الكربلائية التي لم تنقطع، هناك تدرك تماماً أنك تعرفهم فرداً فرداً

منذ آلاف السنين، قاتلت معهم وقاتلوا معك، واستشهدتم سوياً في كربلاء، هناك

تدرك تماماً أن المهدي ليس بعيداً وأنه في مكان ما على الجبهة) [33] .

وإذا غدا استمرار الثورة ودوامها من بعد حدوثها إنجاز الثورة الأعظم أوجب

تجديد الإعجاز كل يوم، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ، ولا يُرتب تجديد

الإعجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية بين كربلاء وبين ظهور المهدي، إلا

إظهار الدلائل على قيام الثورة، وحفظ معناها، والحؤول بين هذا المعنى وبين

الاضمحلال والضعف. ولا يتم ذلك إلا بالإقامة على الحرب وفي الحرب. وينبغي

لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة، ولو طالت قروناً؛ لأنها تؤذن بتجديد العالم

كله، وبطيِّ صفحة الزمان [34] .

فلم تكن الحرب بضواحي البصرة وعلى ساحل شط العرب إلا مقدمة حروب

كثيرة أوكلت إليها القيادات الخمينية الشابة التمهيد لـ (فَرَج) المهدي صاحب

الزمان من غيبته الكبرى، ولبسطه راية العدل على (الأرض) كلها، وتوريثه ملك

الأرض للمستضعفين [35] .

وهذا المفهوم الثوري المستمر كان له في الحركة السياسية الشيعية اللبنانية ...

نصيب وافر؛ فقد ترجمه خطباء الحركة الخمينية بلبنان وينقلونه إلى (اللبنانية) ،

أو الكلام السياسي اللبناني، بعبارة (الحالة الجهادية) أو (الثورية أو الإسلامية) ،

وهي تعني الخروج من كل أشكال الإدارة التي تمتُّ بصلة إلى الدولة ومؤسساتها

وقوانينها عامة، وإلى كيانها الحقوقي خاصة. لذا يحرص أبناء (حزب الله) على

استمرار التشرذم والتجاذب والتخبط حرصهم على حدقات عيونهم. ويرفعون هذه

الحال إلى مرتبة المثال.

ويخاطب محمد حسين فضل الله جمهور المصلين في مسجد بلدة النبي عثمان

قائلاً: وعلينا أن نخطط للحاضر والمستقبل؛ لنكون مجتمع حرب! ! ويضيف

الخطيب: إن الحرب هذه (مفروضة) ، شأن كل الحروب التي يحل خوضها

للإماميين، ولا يحل لهم خوض غيرها [36] ، والحرب (المفروضة) هي النظير

الإيراني لحرب التطويق السو. ياتية. فكلُّ ما يوقف توسع أصحاب مجتمع الحرب

عدوانٌ عليهم.

بين بداية القرن ونهايته:

كانت الحالة الدينية السياسية الشيعية في بداية هذا القرن الميلادي حالة

منكمشة إلى حد ما، وكان هناك تهميش واضح للشيعة باعتبارهم (طائفة) ، وكان

ذلك التهميش الذي عاناه (جبل عامل) والشيعة عامة خلال فترة الانتداب على

لبنان، وفترة بناء الدولة والاستقلال حال دون احتلال مواقع في الدولة تسمح أو تدفع بالمشاركة في سباق ادعاء رموز تاريخية مؤسسة لها من الطائفة

الشيعية [37] .

وعلى مستوى الحالة الدينية، فقد ضعف دور العلماء وعزف الشيعة اللبنانيون

عن العمامة أي طلب العلم الشيعي الديني وانزوى المسجد، وقد شهد أحدهم على

هذا الواقع فقال: فهذه القرى العاملية لا تذكر اسم الله تعالى في ليل ولا نهار،

برغم سخاء المهاجرين على بناء المساجد وكان يوجد وقتها 1920 1930م ما يزيد

على الأربعمائة مسجد بين مسجد كبير وصغير [38] .

وتزامنت هذه الحالة الرثة والهامشية مع تغيرات عالمية ضخمة، فكان سقوط

الخلافة العثمانية، وبدايات الدعوة إلى القومية العربية عقب الدعوة الطورانية

التركية، والحرب العالمية الأولى، ثم كانت الدولة البهلوية (العلمانية) وكانت هذه

الظروف وغيرها مجتمعة أدت إلى أن كانت بدايات النهضة الحديثة للشيعة الإمامية

التي انتهت في 1979م، بقيام الجمهورية الإسلامية ورغبة في قيام جمهوريات

أخرى على غرار المثال الأم.

وبين هذه النهضة في بداية القرن وقيام الدولة وسعيها إلى إنشاء دول أخرى،

خاصة في لبنان كانت هناك جهود كبيرة لذلك، وكان (حزب الله) مرحلة من

مراحل ينبغي أن نقف عليها.

أما كيف كانت بدايات النهضة السياسية والدينية الشيعية اللبنانية على يد

موسى الصدر وفضل الله وغيرهما؟ وكيف أصبحت (الطائفة) الشيعية رقماً مهماً

في الحسابات اللبنانية؟ وكيف صنعوا (قوافل الانتحاريين) ؟ فهذا وغيره موضوع

حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015