مجله البيان (صفحة 3183)

دراسات في الشريعة والعقيدة

الإجماع.. حقيقته وحجيته

(2-2)

محمد عبد العزيز الخضيري

تطرق الكاتب في الحلقة الأولى إلى تعريف الإجماع، ووقف عند حدوده

ومكانته، ثم ساق الأدلة على حجيته، ويواصل في هذه الحلقة بقية عناصره:

البيان

أقسام الإجماع:

يُقسِّم الأصوليون الإجماع أقساماً متعددة باعتبارات مختلفة [1] :

1 - باعتبار ذاته: ينقسم إلى إجماع صريح، وإجماع سكوتي، وسيأتي

تعريفهما.

2 - وباعتبار أهله: ينقسم إلى إجماع عامة، وإجماع خاصة. والمراد

بإجماع العامة: هو المعلوم من الدين بالضرورة؛ فإن هذا ينقله عامة المسلمين

وخاصتهم، أما غيره فينقله الخاصة، وهم أهل العلم.

3 - وباعتبار عصره: ينقسم إلى إجماع الصحابة - رضي الله عنهم -

وإجماع غيرهم.

4 - وباعتبار نقله إلينا: ينقسم إلى إجماع يُنقل بطريق التواتر، وإجماع

يُنقل بطريق الآحاد.

5 - وباعتبار قوته: ينقسم إلى إجماع قطعي، وإجماع ظني. فالقطعي مثل: المعلوم من الدين بالضرورة. والظني: كالإجماع السكوتي الذي غلب على الظن

فيه اتفاق الكل.

وسأقتصر في هذه المقالة على بحث قِسْمَيِ الإجماع باعتبار ذاته؛ لأهميته:

القسم الأول:

الإجماع الصريح: هو عبارة عن اتفاق كل مجتهدي الأمة المحمدية في عصر

من العصور على حكم شرعي لواقعة، بأن يبدي كل واحد منهم رأيه صراحةً، أو

يبين بعضُهم الحكم قولاً، ويفعل البقية على وفق ذلك القول؛ فهذا حجة قاطعة بلا

نزاع [2] ، وقد تقدمت الأدلة على ذلك.

وجمهور الأصوليين على أن المجتهدين إذا اتفقوا في الفعل بما يدل على حكمه

- وهو ما يسميه بعضهم الإجماعَ الفعليَّ الصريح - فهو حجة أيضاً، قياساً على

أفعال النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قالوا: إن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوتها

للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان فعلُه حجةً فكذلك اتفاقهم في الفعل حجة.

القسم الثاني:

الإجماع السكوتي: وهو أن يعمل بعض المجتهدين عملاً، أو يبدي رأياً في

مسألة اجتهادية، قبل استقرار المذاهب فيها، ويسكت باقي المجتهدين عن إبداء

رأيه بالموافقة أو بالمخالفة - بعد علمهم - سكوتاً مجرداً عن أمارات الرضا

والسخط، مع مضي زمن يكفي للبحث والنظر [3] .

ومثله الإجماع الاستقرائي، وهو: (أن تُستَقْرأ أقوال العلماء في مسألة، فلا

يُعلم خلاف فيها [4] .

وهذا يعني أنه لا يُسمى إجماعاً سكوتياً إلا ما توافر فيه الشروط الآتية [5] :

الأول: أن يظهر القول أو الفعل وينتشر، حتى لا يخفى على الساكت.

الثاني: أن تمضي مدةُ التأمل والنظر في حكم الحادثة؛ لينقطع احتمال أنهم

سكتوا في مهلة النظر.

وتختلف المدة باختلاف الحوادث؛ ففي بعضها تكفي المدة القصيرة، وفي

بعضها لا بد من مدة طويلة.

الثالث: ألا تظهر من المجتهد أمارة إنكار مع القدرة عليه.

الرابع: أن يكون السكوت مجرداً عن علامات الرضا والسخط؛ لأنه إن وجد

ما يدل على الرِّضا كان من قبيل الإجماع الصريح؛ لأنه بمنزلة قولهم: رضينا

بهذا القول، وإن وجد ما يدل على السخط لم يكن إجماعاً أصلاً.

الخامس: أن يكون السكوت قبل المذاهب؛ لأنه إن كان بعدها لم يدل على

موافقتهم؛ لأن الظاهر أنهم سكتوا اعتماداً على معرفة مذهبهم في تلك المسألة من

قبل، كما إذا سكت الحنفي عن قولٍ للشافعية؛ فإن سكوته لا يعد موافقة؛ للعلم

بخلافه ومذهبه في ذلك.

السادس: أن تكون المسألة اجتهادية تكليفية؛ لأنها إن كانت قطعية كان

السكوتُ فيها غير دال على الرضا بذلك؛ لما هو معلوم فيها من حكم؛ لأن الظاهر

أنهم سكتوا اكتفاءً بما علم الناس فيها من حق، وإن كانت غير تكليفية كانت خارجة

عن محل النزاع؛ لأن ما ليس تكليفياً ليس ديناً، والإجماع لا يكون إجماعاً يحتج

به إلا في الأمور الدينية، كما لو قيل: أبو هريرة - رضي الله عنه - أفضل من

أنس - رضي الله عنه - أو العكس، فالسكوت في هذا لا يدل على شيء؛ إذ ليس

فيه تكليف، فلا يلزم النظر ولا الإنكار.

حجية الإجماع السكوتي:

اختلف العلماء في الإجماع السكوتي، وجمهور العلماء على القول بحجيته،

على خلاف بينهم: هل هو حجة قاطعة أو ظنية؟

وسبب الخلاف: هو أن السكوت محتمِلٌ للرضا وعدمه، فمن رجَّح جانب

الرضا وجزم به قال: إنه حجة قاطعة، ومن رجَّح جانب الرضا ولم يجزم به قال: إنه حجة ظنية، ومن رجح جانب المخالفة قال: إنه لا يكون حجة [6] .

تحرير محل النزاع:

أولاً: لا خلاف بين العلماء القائلين بحجية الإجماع في أن الإجماع السكوتي

حجة فيما تعم به البلوى، إذا اشتهر الحكم المجمَع عليه، وتكرر السكوت من

مجتهدي عصر الإجماع؛ لأن السكوت مرة بعد أخرى يحصِّلُ علماً ضرورياً

بالرضا بذلك القول، كما أن العادة تحيل السكوت في كل مرة من غير رضا به.

ثانياً: لا خلاف بين العلماء أنه ليس بحجة، إذا حصل السكوت بعد استقرار

المذاهب.

ثالثاً: إذن فمحل النزاع فيما إذا كان السكوت في غير ما تعمُّ به البلوى، ولم

يكن هناك مانع من إبداء الرأي، وكان السكوت قبل استقرار المذاهب، ومضت

مدةٌ تكفي للنظر والتأمل بعد الفتوى أو القضاء، وكانت المسألة اجتهادية تكليفية [7] .

ومن أدلة الجمهور [8] على حجية الإجماع السكوتي [9] :

أولاً: أنه لو شرط لانعقاد الإجماع التنصيص من كل واحد منهم لأدَّى إلى ألا

ينعقد الإجماع أبداً؛ لتعذر اجتماع أهل العصر على قول يُسمع منهم، والمتعذر

معفو عنه بالنص، قال الله - سبحانه -: [ «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

حَرَجٍ] [الحج: 87] والمعتادُ في كل عصر أن يتولَّى الكبار الفتوى، ويسلِّم الباقون لهم. ...

ثانياً: أنه قد وقع الإجماع على أن السكوت معتبر في المسائل الاعتقادية (أي

يعتبر رضا، فلا يحل السكوت على باطل) ، فيقاس عليها المسائل الاجتهادية؛ لأن

الحق في الموضعين واحد.

ثالثاً: أن السكوت من بعض المجتهدين على حكم شرعي أفتى به آخرون من

المجتهدين بعد مضي مدة التأمل، وتوفر باقي الشروط دليلٌ على موافقة الساكتين

ورضاهم؛ لأن السكوت منهم حال المخالفة سكوت على مُنْكَرِ فيكون حراماً، وهذا

ممتنع وقوعه من العدل.

وقفة لا بد منها:

إن المتأمل فيما ينقله ويحتج به عامة العلماء سلفاً وخلفاً من مفسرين وفقهاء

وغيرهم من مسائل الإجماع يجد غالبه من قبيل الإجماع السكوتي أو الاستقرائي،

باستثناء المسائل المجمع عليها مما هو من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة. أما

الإجماع الذي يذكره الأصوليون بشروطه المعروفة في كتب الأصول، فإنه إجماع

صحيح؛ لكنه نادر الوقوع، إن لم يكن عديمَ الوجود؛ وذلك لما تضمنه من شروط

يستحيل معها وقوع الإجماع؛ لصعوبة تحققها مجتمعة، ويفضي إلى عدم الانتفاع

بأصل الإجماع نفسه، هذا فضلاً عن كونه يفتح باباً لضعاف النفوس الذين يريدون

هدمَ أصل الإجماع، وإغلاق بابه، بأن يطبقوا تلك الشروط التي ذكرها الأصوليون

على ما يُحكى من الإجماع، فلا تنطبق عليه، فيعودوا على جملة عظيمة من

المسائل المجمع عليها بالنقض.

يقول الأستاذ الأشقر: (فتح القولُ بهذا النوع من الإجماع - يعني الإجماع

الذي يذكره الأصوليون - بابَ شرٍّ على المسلمين؛ فبعض ضعاف النفوس الذين

يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم يجادلون وينازعون في قضايا مسلَّمة عند

جمهور الأمة، وعندما يواجَهون ويحاوَرون يقولون: إن هذه المسائل خلافية ليس

فيها إجماع، أثبتوا أن جميع علماء الأمة ذهبت هذا المذهب، أو قالت بهذا القول! ! فإذا لم نستطع إثبات ذلك جعل هؤلاء عدم قدرتنا على تلبية طلبهم ذريعةً لمخالفتهم

ما سار عليه جمهور علماء الأمة، كما هو حادث في هذه الأيام) [10] .

شروط الإجماع:

ذكر العلماء شروطاً كثيرة في الإجماع والمجمعين، وسأقتصر في هذه المقالة

على أهم تلك الشروط [11] .

الشرط الأول: أن يكون الإجماع عن مستند:

المستند: هو الدليل الذي يعتمد عليه المجتهدون فيما أجمعوا عليه. والمراد

أن يكون لدى المجمعين دليل قد اعتمدوا عليه في إجماعهم، وهذا قول جمهور

العلماء، بل قال الآمدي: (اتفق الجميع على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن

مأخذ ومستند يوجب اجتماعها، خلافاً لطائفة شاذة) .

ومن أدلتهم:

أن الحكم في الدين بدون مستند خطأ؛ لكونه قولاً في الدين بغير علم، والأمة

يمتنع إجماعها على الخطأ، فيكون قولهم دائماً عن دليل، وهو المطلوب.

ويتصل باشتراط المستند للإجماع مسألتان:

المسألة الأولى: نوع الدليل الذي يكون مُستنداً للإجماع.

من العلماء من يرى أنه لا يكون مستند الإجماع إلا الكتاب والسنة.

ومنهم من يرى أن الإجماع يمكن أن يستند إلى الاجتهاد أو القياس.

وقد انتصر شيخ الإسلام ابن تيمية للقول الأول، فقال: (كلُّ ما أجمع عليه

المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالمخالف لهم

مخالفٌ للرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن المخالف للرسول صلى الله عليه

وسلم مخالف لله - تعالى -، لكن هذا يقتضي أن كل ما أُجمِعَ عليه قد بيَّنَهُ الرسول

صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصواب، فلا يوجد قطُّ مسألةٌ مجمَع عليها إلا

وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يخفى ذلك على بعض الناس،

ويعلَم الإجماع فيستدل به، كما أنه يَسْتَدِلُّ بالنص من لم يعرف دلالة النص) إلى أن

قال: (ولا يوجد مسألة متفق عليها إلا وفيها نص) [12] .

ثم ذكر بعض الأمثلة التي قيل عنها: إن مستند الإجماع فيها الاجتهاد أو

القياس، وبين النص الذي خفي عمَّن زعم ذلك [13] .

ثم قال: (وعلى هذا فالمسائل المجمَعُ عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم

يعرفوا فيها نصاً، فقالوا: باجتهاد الرأي الموافق للنص، لكن كان النص عند

غيرهم) .

ويقول: (استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وكثير من

العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة) [14] .

وهذا الخلاف يمكن إرجاعه إلى اللفظ؛ لأن كلاً من الفريقين أخبر بحاله؛ إذ

كلٌّ منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم؛ فأحد الفريقين يستند إلى الاجتهاد؛ لأنه لا

يدري النص، والآخر يحيل ذلك على النصوص العامة. وعلى كلٍّ فالجميع متفقون

على ضرورة استناد الإجماع إلى دليل، وهذا الدليل قد يجعله بعضهم اجتهاداً

ويجعله الآخرون نصاً [15] .

المسألة الثانية: الاستغناء بنقل الإجماع عن نقل دليله:

إذا ثبت نقلُ الإجماع فإنه يمكن الاستغناء به عن دليله؛ لأنه قد ثبت أن

العلماء لا يُجمِعون إلا عن دليل؛ فإذا حُفظ الإجماع ونُسي الدليل أو لم يُعرف فإن

ذلك لا يقدح في الإجماع الثابت.

الشرط الثاني: أن يكون المجمعون من العلماء المجتهدين:

ويكفي في ذلك الاجتهادُ الجزئي؛ لأن اشتراط الاجتهاد المطلق في أهل

الإجماع يؤدي إلى تعذُّر الإجماع؛ لكون المجتهدِ المطلق نادر الوجود.

والمعتبر في كل المسألة: من له فيها أثرٌ من أهل العلم المجتهدين.

قال ابن قدامة: (ومن يَعرِفُ من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم، كأهل

الكلام واللغة والنحو ودقائق الحساب، فهو كالعامي لا يُعتدُّ بخلافه؛ فإن كل أحد

عامِّيٌّ بالنسبة إلى ما لم يُحصِّل علمَه، وإن حصَّل علماً سواه) [16] .

الشرط الثالث: أن يكون الإجماع صادراً من جميع مجتهدي العصر:

ومعنى ذلك: أنه إذا خالف واحد أو اثنان، فإن قول الباقين لا يعتبر إجماعاً،

وهذا قول جمهور العلماء، خلافاً لمن اعتد بقول الأكثر فجعله إجماعاً، كأبي

الحسين الخياط - من المعتزلة - وابن جرير الطبري، وأبي بكر الجصاص،

وبعض المعتزلة، ورُوي عن الإمام أحمد، لكن الصحيح عنه موافقة الجمهور.

ومن الأدلة على ذلك:

الأول: أن المُتمَسَّكَ به في كون الإجماع حجة إنما هو النصوص الدالة على

عصمة الأمة، ولفظ الأمة إنما يطلق حقيقةً على الجميع، وقول الأكثر ليس قولاً

للجميع، بل هو قول مختلف فيه، وقد قال الله - جلَّ وتقدَّس -: [فَإن تَنَازَعْتُمْ

فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ] [النساء: 95] .

الثاني: وقوع اتفاق الأكثر في زمن الصحابة مع مخالفة الأقل لهم؛ فقد

سوَّغوا لهم الاجتهادَ بلا نكير، فلو كان اتفاق الأكثر إجماعاً يلزم غيرهم أن يأخذوا

به لأنكروا عليهم.

وبعد: فإن ما تقدم من نصرة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لا يعدو أن

يكون تضعيفاً للقول بأن قول الأكثر إجماعٌ يجب اتباعه، وهذا لا يعني ألا يُلتفَت

إلى قول الأكثر، بل إن اتباع الأكثر هو الأوْلى إذا لم يظهر أن الحق مع الأقل.

الشرط الرابع: أن يكون المجمِعون أحياءاً موجودين:

أما الأموات فلا يعتبر قولهم، وكذلك الذين لم يوجدوا بعدُ، أو وُجِدوا ولم

يبلغوا درجة الاجتهاد حال انعقاد الإجماع؛ فالقاعدة أن المستقبَل لا يُنظر، كما أن

الماضي لا يُعتبر.

فالمعتبَرُ في كل إجماع أهلُ عصره من المجتهدين الأحياء الموجودين،

ويدخل في ذلك: الحاضرُ منهم والغائبُ؛ لأن الإجماع قول مجتهدي الأمة في

عصر من العصور.

أما اعتبار جميع مجتهدي الأمة في جميع العصور فغيرُ ممكن؛ لأن ذلك

يؤدي إلى ألا تجتمع الأمة، ولا يُنتفع بالإجماع.

ويتصل بهذا الشرط مسألة اشتراط انقراض عصر المجمِعين أي: هل يشترط

لصحة الإجماع أن ينقرض عصر المجمعين بموتهم أو بمرور زمن طويل على

إجماعهم؟

ذهب الجمهور إلى عدم اشتراط انقراض العصر لصحة الإجماع، بل المعتبر

في إجماع مجتهدي العصر الواحد اتفاقهم ولو في لحظة واحدة.

قال الغزالي - رحمه الله -: (إذا اتفقت كلمة الأمة - ولو لحظة - انعقد

الإجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ) [17] .

ومن أدلتهم على ذلك:

الأول: أن الأدلة السمعية توجب حجيةَ الإجماع بمجرد اتفاق مجتهدي عصر

ولو في لحظة؛ إذ الحجية تترتب على الاتفاق نفسه؛ لأنه مناط العصمة؛

فالاشتراط لا موجب له، بل الأدلة توجب خلافه.

الثاني: أن الحكم الثابت بالإجماع كالحكم الثابت بالنص؛ فكما أن الثابت

بالنص لا يختص بوقت دون وقت، فكذلك الثابت بالإجماع.

الثالث: أنه لو اشترط انقراض العصر لم يثبت الإجماع أصلاً؛ وذلك أنه

كلما ولد إنسان وبلغ رتبة الاجتهاد، وقد بقي واحد من المجتهدين المجمعين السابقين

له، فإنه يلزم - بناءًا على شرط الانقراض - اعتبار قول هذا المجتهد اللاحق في

ذلك الإجماع المتقدم، ولَمَّا كانت الولادة باقية فلا ينتهي تلاحق المجتهدين، وعليه

فلا يتحقق الإجماع.

هذا ولا شك أن الداعي إلى اشتراط الانقراض عند القائلين به هو زيادةُ

التثبت في نسبة قول المجمعين إليهم، وشدةُ استقرار أهل المذاهب على مذاهبهم،

وهذا الأمر - وهو التثبت - حاصل في الإجماع الصريح، ولو في لحظة واحدة؛

لأن الظاهر من حال المجمِعين ألاَّ يصدرَ القولُ عنهم دون بحث ونظر؛ فإذا ثبت

أنهم قالوا في مسألةٍ مَّا بقولٍ علمنا قطعاً أنهم غير مترددين في قولهم.

لكن يبقى النظر في الإجماع السكوتي؛ لأنه لا تُعلم أقوالُ الساكتين من

المجتهدين، ولا موقفهم من القول الذي يُحكى الإجماع عليه إلا بعد مُضي مدة

طويلة يُعرف بها أن القول بلغهم، ونظروا فيه، ولم ينكروه - مع زوال ما يمنع

إنكارَهم له -؛ ولذلك رأى بعض العلماء أن انقراض العصر شرط لصحة الإجماع

السكوتي لهذه العلة، وحكى بعضهم أنه لا خلاف في ذلك. وهذا قول قوي في

المسألة.

الشرط الخامس: أن يكون المجمعون عدولاً:

العدالة في اللغة: الاستقامة والاعتدال.

وفي الاصطلاح: مَلَكَةٌ راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى

والمروءة.

وقد اختلف العلماء في اشتراط العدالة في المجمعين، والجمهور على القول

بالاشتراط.

وعليه؛ فلا يتوقف الإجماع ولا حجيته على موافقة غير العدل - مبتدِعاً كان

أو فاسقاً - إذا بلغَ رتبةَ الاجتهاد، ولا تضرُّ مخالفته.

وقد عزا ابن بَرْهان هذا القول إلى كافة الفقهاء والمتكلمين.

وقد استدلوا على ذلك بأن الأدلة الدالة على حُجِّية الإجماع تتضمن العدالة،

وبخاصة قول الله - تعالى -: [وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً] [البقرة: 341] إذ

الوسطُ: العدل.

ولأن غيرَ العَدْل أوجب الله التوقف في أخباره بقوله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا

الَذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا] [الحجرات: 6] ، واجتهاده إخبارٌ بأن

رأيه (كذا) ، فيجب التوقف في قوله.

ومقتضى قول الجمهور عدمُ الاعتداد بقول المبتدع مطلقاً؛ ولذا فصَّل بعض

العلماء في هذا فقالوا: إن كانت البدعة مكفرة فلا شكَّ في عدم اعتبار قوله، وحكى

بعضهم نفي الخلاف في هذا.

وإن كانت البدعة غير مكفِّرة، فإن كان داعياً: فقال بعضهم: لا يُعْتَدُّ بقول

الداعي مطلقاً، وقال آخرون: بل لا يعتد بقوله في أمر البدعة التي يدعو إليها،

ويعتبر قوله فيما سوى ذلك.

وإن لم يكن داعياً إلى بدعته: فأكثرهم على اعتبار قوله، والاعتداد بمخالفته

مطلقاً، وقيل: بل يُعتدُّ بقوله في غير بدعته [18] ، والله أعلم.

حكم إجماع الصحابة على قولٍ مما اختلفوا فيه:

اتفاق الصحابة على أحد أقوالهم، إما أن يكون قبل استقرار الخلاف بينهم -

بأن قصر الزمن بين الاختلاف والاتفاق - وإما أن يكون بعد استقرار الخلاف؛

فهنا مسألتان:

المسألة الأولى: اتفاقهم على أحد أقوالهم قبل استقرار الخلاف [19] .

فقد حكى الشيرازي: أنه يزيل الخلاف ويصيِّر المسألة إجماعية، بلا خلاف.

المسألة الثانية: اتفاقهم بعد استقرار الخلاف بينهم.

وجمهور الأصوليين على أنه يجوز اتفاقهم مطلقاً [20] .

ودليلهم على ذلك:

جواز اطلاعهم على مستند فيرجعون إليه جميعاً، وبذلك يكون لا عبرة

باستقرار الخلاف بينهم؛ حيث وجد ما يحملهم على الرجوع.

ومن أمثلة ذلك: ما رُوي أن علياً وابن عباس - رضي الله عنهما - كانا

يقولان بحِلِّ الْمُِتْعة، ثم رجعا بعد ما رُوي لهما ما يدل على تحريم ذلك [21] ،

وكذلك ما روي من رجوع ابن عباس - رضي الله عنه - في مسألة ربا الفضل،

لما روي له الحديث في ذلك [22] .

فدل ذلك على أن الرجوع - لأجل مستند ظهر بعد استقرار الخلاف - جائزٌ

لا شيء فيه.

حكم إجماع التابعين على أحد قَوْلَيِ الصحابة:

لا يخرج اتفاقهم عن أن يكون قبل استقرار الخلاف أو بعده.

فإن كان قبل استقرار الخلاف فجائز كما تقدم.

وأمَّا إن كان بعد استقرار الخلاف بين الصحابة ففيه خلاف بين الأصوليين،

والجمهور على المنع من الإجماع [23] ، فإذا أجمع التابعون على أحد قولي

الصحابة لم يَزُلْ بذلك خلافُ الصحابة، ويجوز لتابِعِي التابعين الأخذ بكلٍّ من قولي

الصحابة، وهذا ما لم يرجع الصحابي عن قوله، أو تظهر مخالفته لنصٍّ صحيح

صريح في المسألة.

وبهذا قال الإمام أحمد، والأشعري، والقاضي أبو يعلى، والغزالي، وإمام

الحرمين، وشيخ الإسلام ابن تيمية. وقال الشيرازي: (وهو قول عامة أصحابنا

- يعني الشافعية) [24] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإنهم - يعني السلف - أفضلُ ممن بعدهم،

ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خيرٌ وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع

غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا

يخرج عنهم؛ فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من

أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه) [25] .

ومن أدلتهم على ذلك:

أن أهل العصر قد اتفقوا ضمناً على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، فلو

قلنا بأن إجماع التابعين حجة، لترتب عليه أن الحق محصور فيما أجمعوا عليه،

والقول بهذا فيه مخالفة للإجماع السابق المتضمن جواز الأخذ بكل من القولين.

وعليه؛ فمن ادعى وقوع إجماع في مسألة اختلف فيها الصحابة فلا يخلو ذلك

من أحد ثلاثة أمور:

الأول: أن الخلاف الذي وقع بين الصحابة لم يستقر بينهم، وما دام كذلك فإن

الإجماع صحيح كما تقدم؛ إذ الممتنع هو وقوع الإجماع على مسألة استقر فيها

الخلاف بين الصحابة.

الثاني: أن المسألة التي اختلف فيها الصحابة غير المسألة التي أجمع عليها

المتأخرون؛ لأن اختلاف الزمان قد يؤدي إلى تغير في صورة المسألة وبعض

أوصافها، مما يجعل حقيقة المسألتين عند إمعان النظر مختلفة، فيكون من حق من

جاء بعد الصحابة الإجماع على تلك المسألة.

الثالث: أن تكون دعوى الإجماع غير صحيحة [26] .

ويتصل بهذه المسألة: ما إذا نقل عالمٌ الإجماع ونقل غيره الخلاف سواء سمى

المخالف أم لم يُسمه؛ فإنه لا يقبل قول مدعي الإجماع [27] ، وهذا رأي شيخ

الإسلام ابن تيمية [28] ، وقد أيده بالأمور الآتية:

الأول: أن ناقل الإجماع نافٍ للخلاف، وناقل النزاع مثبت له، والمثبت

مقدَّم على النافي.

الثاني: أنه إذا كان ناقلُ النزاع يمكن أن يكون قد غلط فيما أثبته من الخلاف، إما لضعف الإسناد، وإما لعدم الدلالة، فإمكان الغلط من ناقل الإجماع أوْلى

وأحرى.

الثالث: أن عدم علم الناقل للإجماع بالخلاف ليس علماً بعدم الخلاف.

وعليه، فمتى نقل عالمٌ الإجماع، ونقل آخر النزاع، ولم يثبت واحدٌ منهما،

فلا يجوز أن يُحتج بالإجماع.

وإذا استوى الطرفان - نَقْلُ الإجماع والنزاع - عند المجتهد فلم يترجَّح لديه

أحدهما، لزمه التوقف، فليس له أن يقدمه على النص، ولا يُقدَّم النص عليه؛

لعدم رجحان أحدهما عنده.

حكم إحداث قول زائد على أقوال الصحابة:

يرى جمهور العلماء أنه لا يجوز إحداث قول زائد على ما اختلف عليه

الصحابة؛ لأن في ذلك نسبة الأمة إلى تضييع الحق والغفلة عنه، وخلوِّ الأرض

من قائم لله بالحجة، وأنه لم يبقَ من أهل العصر أحد على الحق، وهذا كله من

الباطل.

وما يقال في الأحكام يقال أيضاً في تفسير القرآن وشرح الحديث؛ فإن

المفسرين من الصحابة إذا اختلفوا على قولين أو أكثر في تأويل آية؛ فإن ذلك

إجماعٌ منهم على أن الحق محصور فيها لا يتجاوزها، فلا يجوز لمن بعدهم

الخروج عن أقوالهم، أو الزيادة عليها؛ لأن ذلك يتضمن أن الصحابة لم يفهموا

القرآن، وأنهم كانوا ضالين جميعاً عن الحق في معرفة تأويله، وذلك باطل

قطعاً [29] .

قال ابن القيم - رحمه الله -: (إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي

كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو

تكون أقوالُ السلف المخالفة له خطأ! ! ولا يشك عاقل أنه أوْلى بالغلط والخطأ من

قول السلف) [30] .

وقال الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله -: (ولا يجوز إحداث تأويل في

آية أو سُنَّة لم يكن على عهد السلف، ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن

أنهم جهلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) .

إلا أن يكون المراد من إحداث تأويل لم يقل به الصحابة: إيرادَ معنى تحتمله

الآية لم يتعرض له الصحابة، أو كان من قِبَلِ الاستنباط من دلالة الآية؛ فإن مثل

هذا لا يقتصر على قوم، أو أهل عصر بعينهم، بل هو باق مستمر؛ إذ القرآن

مَعِينٌ ثَرٌّ لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي دلالاته ومعانيه؛ ولذلك نرى أهل العلم

يرجعون إلى القرآن الكريم للاستدلال به على معرفة حكم ما يستجد من النوازل

على مرور الأعصار.

قال الإسنوي فيما إذا أحدث أهل العصر الثاني تأويلاً آخر للدليل لم يذكره

أهل العصر الذي قبلهم: (جاز على الصحيح، ونقله ابن الحاجب عن الأكثرين؛

لأن الناس لم يزالوا على ذلك في كل عصر من غير إنكار، فكان ذلك

إجماعاً) [31] .

وكذلك إذا كان المرادُ من إحداث تأويل زائد للآية على ما فهمه السلف: إيراد

معنى تحتمله الآية أو الحديث من غير حكم بأنه المراد؛ إذ ليس فيه نسبة الأمة إلى

تضييع الحق، والغفلة عن الصواب، والإجماع على الخطأ، فالمحذور هو أن

تكون الأمة قد قالت: إن هذه الآية أو الحديث لا يُراد بهما إلا هذا المعنى وهذا

المعنى، فيكون القول الثالث تجويزاً لخفاء مراد الله عن كافة الأمة، وهذا ممتنع

قطعاً [32] .

وعدم جواز إحداث قول ثالث مشروط بأن يكون الخلاف قد استقر [33] .

أما إحداث دليل لم يستدل به السابقون، فإن هذا جائز سائغ؛ لأن الاطلاع

على جميع الأدلة ليس شرطاً في معرفة الحق، بل يكفي لمعرفة الحق في مسألة أو

تأويلٍ بعضُ أدلته بل دليل واحد، ولا يتضمن إحداثُ دليل جديد - بحالٍ - نسبةَ

الأمة إلى تضييع الحق، بخلاف مسألة إحداث قول ثالث في المسألة.

وجمهور الأصوليين على أنه متى اختلف أهل عصر في مسألة على قولين أو

أكثر، فإنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث قول آخر خارج عن أقوالهم، كالذي تقدم

تقريره في اختلاف الصحابة، وأنه لا يجوز لمن بعدهم الزيادة على أقوالهم [34] .

ومن أدلتهم على ذلك:

أن القول الآخر - عند القائلين بجوازه - إما أن يكون ناشئاً عن دليل أو عن

غير دليل، فإن كان عن غير دليل امتنع قبولهُ، وإن كان عن دليل لزم منه وصفُ

الأمة بتضييع الحق والغفلة عنه، وأدى لزاماً إلى القول بخلو العصر عن قائم لله

بالحجة؛ وهذا كلُّه باطل.

ولأن اختلاف الأمة في مسألة على قولين أو أكثر مع عدم التجاوز عنهما

إجماعٌ منها من جهة المعنى على المنع من إحداث قول آخر؛ قالوا: لأن كل طائفة

توجب الأخذ بقولها، أو بقول مخالفها، وتحرِّم الأخذ بغير ذلك.

وقد فصَّل جماعةٌ من الأصوليين القول في المسألة، على نحو لا يعتبر

إسقاطاً لقول الجمهور، بل فيه الجمعُ بين قول المانعين والمجيزين؛ فهو أشبه أن

يكون خارجاً عن محل النزاع، فقالوا: إن القول الحادث إن لزم منه رفع القولين لم

يجز إحداثه، وإلا جاز، وقد روي هذا التفصيل عن الشافعي، ورجحه جماعةٌ من

الأصوليين، منهم: ابن الحاجب، والرازي، والآمدي، وغيرهم.

الأحكام المترتبة على الإجماع:

إذا صحَّ الإجماعُ ترتبت عليه جُملةٌ من الأحكام، وهذا بيانُ أهمها:

الأول: وجوب اتباعه وحُرمة مخالفته [35] ، وهذا معنى كونه حجة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام،

لم يكن لأحدٍ أن يخرج عن إجماعهم) [36] .

ويترتب على هذا الحكم: أنه لا يجوز للمجمِعين مخالفة ما أجمعوا عليه،

وأنه لا يجوز لمن يأتي بعدهم أن يخالفهم.

الثاني: أن هذا الإجماع حق وصواب، ولا يكون خطأ، ويترتب على هذا

الحكم ما يأتي:

أولاً: لا يمكن أن يقع إجماعٌ على خلاف نص أبداً، ومن ادَّعى وقوع ذلك،

فإما أن تكون دعوى الإجماع غير صحيحة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة،

ومخالفة النصِّ ضلالةٌ، وإما أن يكون النص - الذي يُدَّعى مخالفةُ الإجماع له -

منسوخاً، فكان إجماع الأمة مستنداً إلى نص ناسخ له. قال ابن القيم: (ومحال أن

تجتمع الأمة على خلاف نص إلا أن يكون له نص آخرُ ينسخهُ) [37] .

ثانياً: ولا يمكن أيضاً أن يقع إجماع خلاف إجماع سابق؛ فمن ادعى ذلك فلا

بد أن يكون أحد الإجماعين باطلاً؛ لأن ذلك يستلزم تعارضَ دليلين قطعيين، وهو

ممتنع.

ثالثاً: ولا يمكن للأمة تضييع نص تحتاج إليه [38] ، بل هي معصومة عن

ذلك، وكونُ بعض المجتهدين يجهل بعض النصوص أمرٌ وارد، بل كثيرُ الوقوع،

لكن يستحيل أن تجهل الأمة كلُّها نصاً تحتاج إليه، أو تغفل عن نقله.

قال الشافعي - رحمه الله -: (سنن رسول الله لا تعزب عن عامتهم، وقد

تَعزُب عن بعضهم) [39] .

رابعاً: حرمة الاجتهاد [40] ، فمتى ثبت الإجماع وجب اتباعه؛ لأنه لا بد

أن يستند إلى نص، ووجود النص وحده مُسقط للاجتهاد، فإذا انضم إلى النص

الإجماع سقط الاجتهاد من باب أوْلى.

الثالث: حُكم مُنكِر الحكم المجمَع عليه:

إن كان الإجماع على أمر معلوم من الدين بالضرورة فإن مخالفه يكفر بلا شك.

قال المحلي: (جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، كوجوب

الصلاة والصوم، وحرمة الزنا والخمر كافرٌ قطعاً؛ لأن جَحْدَه يستلزم تكذيب النبي

صلى الله عليه وسلم) [41] .

وأما إن كان الإجماع على غير ذلك فقد اختلف العلماء اختلافاً كثيراً في حكم

جاحده أو خارقه. قال الآمدي: (مع اتفاقهم على أن إنكار حكم الإجماع الظني غير

موجب للتكفير) [42] .

والسبب في خلافهم: هو اختلافهم في حقيقة الإجماع، وشروطه وما يتصل

بذلك.

قال الغزالي - رحمه الله -: (فإن قيل: هل تُكَفِّرون خارِقَ الإجماع؟ قلنا:

لا؛ لأن النزاع قد كَثُر في أصل الإجماع لأهل الإسلام، والفقهاء إذا أطلقوا التكفير

لخارق الإجماع أرادوا به إجماعاً يستند إلى أصل مقطوع به من نص أو خبر

متواتر) [43] .

وقد اشتدَّ نكيرُ العلماء على من أطلق القول بتكفير خارق الإجماع دون قيود أو

ضوابط. قال أبو المعالي الجويني: (فَشَا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر، وهذا باطل قطعاً) [44] .

وفي غضون خلاف العلماء في كفر جاحد الحكم المجمَع عليه أو خارق

الإجماع، يجدُ الباحث أن الأئمة يحكمون بكفر من يخرق الإجماع إذا انطبقت عليه

جملة من الضوابط التي وضعوها لذلك.

ومن ذلك: ما ذكره الجويني في كفر (من اعترف وأقر بصدق المجمِعين في

النقل، ثم أنكر ما أجمعوا عليه) [45] ، والسر في ذلك كما يقول - رحمه الله -

أن (هذا التكذيب آيلٌ إلى الشارع - عليه السلام - ومن كذَّب الشارع كفر) [46] .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفرُ مخالفهُ كما

يكفر مخالفُ النصِّ بتركه، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره) [47] .

هذا خاتمة ما أردت بيانه في هذا الأصل العظيم والدليل الكبير من أدلة

الشريعة، والذي وقع بالتهاون في معرفته وبيان حقيقته خلط كبير في قضايا كثيرة، فالله المستعان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015