مجله البيان (صفحة 3181)

دراسات في العقيدة والشريعة

الإسلام والمجتمعات الإقليمية الدولية

د. عثمان جمعة ضميرية

مقدمة:

(خلق الله تعالى الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا،

فيرجع كل منهم إلى قبيلته كما يرجع إلى الشعب الذي تتفرع عنه القبيلة؛ لأن

الشعوب أعم من القبائل، فقال الله تعالى [يّا أيُّها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى

وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم] [الحجرات: 13]

فكان هذا تنبيهاً على أن الجميع في الشرف بالنسبة إلى آدم وحواء عليهما

السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية؛ وهي. طاعة الله، ومتابعة رسوله

صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا المقال نتناول نظرةَ الإسلام إلى العالم مقارنةً بنظرة الغربيين، ثم

تعريفَ دار الإسلام ودار الحرب باعتبارهما مجتمَعَيْن دوليَّيْن، ثم نوضح أساسَ

هذا التقسيم للعالم، وشرعيَّتَهُ، والردَّ على الشبهاتِ التي أُثيرت حياله.

أولاً: نظرة الغربيين إلى العالم:

ابتدع العالم الغربي على مر القرون عديداً من الوسائل لتقسيم الجنس البشري؛ فقد قسم اليونانيون العالم إلى: يونانيين، وبرابرة، كما قسم اليهود العالم إلى: يهود، وأمم أخرى. وفي فترة متأخرة ابتكر اليونانيون أيضاً تصنيفاً جغرافياً يظهر فيه العالم على أنه مكوَّنٌ من قارات هي: قارتهم أوروبا، وآسيا التي تقع على الجانب المواجه لبحر إيجه، وخلف الشاطئ الإيجي عند نهاية المنطقة التي أطلق عليها اسم آسيا الصغرى كانت تبدو آسيا الكبرى. ولقد كان اسم آسيا يعطي امتداداً أوسع، وبمرور الوقت تم تجزئة آسيا (اللا أوروبية) إلى أقسام.

أما الجزء الذي يقع على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط فقد أُطلق عليه

أسماء يونانية لاتينية جديدة؛ إذ أُطلق عليه أولاً: ليبيا، وفيما بعد أطلق عليه:

إفريقيا.

أما بالنسبة للأوروبيين فإن العالم خلال فترة العصور الوسطى كان مقسَّماً بين

المسيحيين والوثنيين، ثم بعد ذلك بين الممالك المسيحية والملكية. ولقد تبنَّى العالم

الحديث مفهوم دولة الشعب على أنه تصنيف أساسٌ مُحدِّد للهوية والولاء [1] .

ثانياً: أساس تقسيم العالم في الإسلام:

ألمحنا فيما سبق إلى أن الإسلامَ دعوةٌ عامةٌ موجهة للناس كافةً، وأنَّ أحكامه

تخاطب الناس جميعاً، لا يختصُّ بها قومٌ دون قومٍ، ولا جنسٌ دون جنسٍ، ولا

إقليمٌ دون إقليم، وبذلك تهدف الشريعةُ الإسلامية إلى تكوين مجتمع إنساني واحدٍ

يخضع لنظامٍ واحد. لكن لمَّا لم تمتدَّ الشريعةُ وأحكامها إلى كافة أرجاء العالم، ولم

تكن لها السيادة الفعلية على العالم كله، فقد قضتْ ظروف المكانِ والواقعِ أن لا

تُطبَّق الشريعة إلا على البلاد التي يدخلها سلطان المسلمين دون غيرها من البلاد،

فكانت - من حيث الواقع - إقليمية تطبَّق على البلاد التي تخضع لسلطة المسلمين.

وقد نظر الفقهاء إلى هذا الاعتبار فأوجدوا تقسيماً للعالم كله ينطوي على

قسمين اثنين لا ثالث لهما:

الأول: يشمل كل بلاد الإسلام، ويسمى (دار الإسلام) .

والثاني: يشمل كل البلاد الأخرى، ويسمى (دار الحرب) ؛ لأن القسم الأول

يجب فيه تطبيقُ الشريعة الإسلامية، أما القسم الثاني فلا يجب فيه تطبيقها؛ لعدم

إمكان هذا التطبيق [2] .

وعلى هذا فإن كلمة (الدار) في الفقه الإسلامي تطلق على الإقليم الذي يشكِّل

عنصراً من عناصر الدولة في القانون الدستوري والقانون الدولي؛ فالدولة بالتعبير

المعاصر يطلق عليها الفقهاء اسم: (الدار) [3] ، والدولة المسلمة يطلقون عليها

اسم: (دار الإسلام) في مقابل: (دار الحرب) .

وفي هذا يقول العلاَّمة ابن عابدين: (المراد بالدار الإقليم المختصّ بقهر ملك

إسلام أو كفر ... فليس المراد دار السكنى) [4] .

ثالثاً: دار الإسلام:

دار الإسلام هي البلاد التي تكون تحت سلطة المسلمين، وتظهر فيها أحكام

الإسلام ويَأْمَنُ فيها المسلمون، ويستوي أن يكون سكانها المقيمون على أرضها كلُّهم

من المسلمين أو من غير المسلمين الخاضعين لسلطة الدولة الإسلامية (الذميين) أو

من المسلمين وغير المسلمين.

وظهورُ أحكامِ الإسلام يعني: أن تكون هي الغالبة التي تعلو على غيرها،

فتكون لها السيادة والهيمنة؛ لأن أصل مادة الكلمة (ظهر) تفيد معنى المعونة والعلوِّ

والظَّفَرِ. وبهذا يظهر أن بعض البلاد الأوروبية التي يقيمُ فيها المسلمون صلاةَ

الجمعة والأعياد، ويعلنون فيها إسلامهم، وهم في أمْنٍ مِنْ أن يُفْتَنوا في دينهم لا

تعتبر دار إسلام؛ لأن السلطان فيها ليس للمسلمين، والأحكام لا تنفذ هناك بقوة

المسلمين، وهذه المعاني في معنى دار الإسلام (الدولة الإسلامية بالمفهوم المعاصر) هي ما يؤخذ من تعريف الفقهاء لها، كقول الإمام السَّرَخْسِيّ: (إن دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك: أن يأمن فيه المسلمون) . ... وكذلك قال أبو يَعْلَى الفرَّاء الحنبليّ: (هي كلُّ دارٍ كانت الغَلَبةُ فيها لأحكامِ

الإسلامِ دون أحكام الكفر) .

رابعاً: دار الحرب:

أما دار الحرب: فهي البلاد التي ظهرت فيها أحكام الشرك عند غَلَبَة أهل

الحرب عليها. فالموضع الذي لا يأمن فيه المسلمون على أنفسهم، ولا تجري فيه

أحكام الإسلام هو من جملة دار الحرب.

ولذلك جاء تعريفها عند بعض الفقهاء بأنها (ما يجري فيه أمر رئيس الكفار

من البلاد. أو هي ما خافوا فيه من الكافرين) .

وعرَّفها بعض فقهاء الحنابلة فقال: هي ما غلب عليها أحكام الكفر. وقالوا: الحربي منسوب إلى الحرب وهو القتال والتباعد والبغضاء أيضاً، ودار الحرب هي دار التباعد والبغضاء؛ فالحربيُّ سمي بذلك بالاعتبار الثاني.

وليس من غرضنا هنا أن نقف طويلاً عند تعريفات الفقهاء لكل من الدَّارَيْن،

فحَسْبُنَا هذه الإشارات التي تجمع ما اتفقوا عليه في ذلك [5] .

خامساً: مناط الحكم على الدار:

يمكن أن نخرج من استقراء آراء الفقهاء في معنى دار الإسلام ودار الحرب

بخلاصة جامعة في العلَّة التي بُنِي عليها تقسيمُ العالم إلى دار إسلام ودار كفر هي

مناط الحكم [6] على الدار ووصفها بإحدى الصفتين.

فقد أصبح ظاهراً جلياً أن هذا المناط هو. غلبة الأحكام وظهورها بحيث

تكون لها السيادة، فإذا كانت الغلبة والسيادة لأحكام الإسلام فالبلاد دار إسلام، وإذا

كانت الغلبة والسيادة لأحكام الكفر فهي دار حرب أو كفر. ولا فرق بين دار الكفر

ودار الحرب، ولم يكن سبب التسمية بدار الحرب هو حالة وقوع الحرب فعلاً؛ بل

تسمى بذلك ولو لم تكنْ حربٌ فعلية، باعتبار ما بينهما من تباعد، ولذلك يسمونها

دار كفر أو دار شرك أو دار حرب، ويعنون بها حقيقة واحدة.

وهذا المعنى نصَّ عليه جمهور الفقهاء فيما نقلناه عنهم في تعريف الدار،

ومن ذلك قول السَّرَخْسِيّ: (إن الدار إنما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة

والغَلَبة) [7] . وهو الذي بسطه الكَاسَانِيُّ فقال: (فإذا ظهرت أحكام الكفر في د ار فقد صارت دار كفر، وتصير الدار دار كفر بظهور أحكام الكفر) [8] . ولم يعتبروا وقوع حالة الحرب لتصحَّ التسمية بذلك، ولهذا قال الحنابلة. (الحربيُّ منسوب إلى الحرب وهو القتال، والتباعد والبغضاء أيضاً، ودار الحرب. أي دار التباعد والبغضاء، فالحربي سمي بذلك بالاعتبار الثاني أي التباعد والبغضاء) [9] .

سادساً: رأْي بعض المعاصرين في تقسيم العالم:

عمد بعض الكاتبين المعاصرين إلى مهاجمة تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار

حرب. وكان أول من اتجه هذا الاتجاه هم غير المسلمين؛ حيث اعتبره بعضهم

ناشئاً عن تصور يتطابق مع نزعةٍ تميل إلى السيطرة العالمية، لا ينسجم مع مبدأ

المساواة القانونية بين الأمم، ثم قال: وفي وقت كانت هذه الفكرة مرفوضة من

أولئك الذين دخل الإسلام معهم في صراع نَجَمَ التقسيمُ الأساس للعالم إلى (دار

الإسلام) و (دار الحرب) ، مع ما يتفرع عنه من تقسيم قابل للتطبيق في القانون

الداخلي وفي الخارج على السواء، ألا وهو: تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار على

أنه لا بد من القول بأن هذا التصور لم يكن متَّسقاً مع الإسلام، وإن كان منسجماً

تماماً مع أفكار العصر الذي أنتجه. وقد انتهت هذه الثنائية الواضحة بالانفجار على

المستوى الدولي، وتمثلت برد فعل ضد مفهوم الإمبراطورية النصرانية آنذاك،

وارثة فكرة السلم الروماني [10] .

ثم عمق هذا الاتجاه بعضُ الكُتَّاب المسلمين المعاصرين وحاولوا دعمه ببعض

التعليلات وبأقوال الفقهاء. ويمكن أن نوجز خلاصة رأيهم في تقسيم الدنيا إلى

دارين بما يلي في نقاط متتابعة.

1- إن هذا التقسيم مبني على أساس الواقع لا على أساس الشرع، وهو من

محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري.

2- إنه تقسيم طارئ بسبب قيام حالة الحرب، فهو ينتهي بانتهاء الحرب

والأسباب التي دعت إليه، ودار الحرب هي التي لم تكن في حالة سلم مع الدولة

الإسلامية. وهذا أمر عارض يبقى بقيام حالة الحرب.

3- إن الدنيا - بحسب الأصل - هي دار واحدة، كما هو رأي الشافعي؛

ولذلك قال الشافعي مع جمهور الفقهاء: إن الحدود تجب على المسلم أينما وقع سببها.

4- أما الحنفية فإنهم اعتبروا أن الدنيا داران؛ ولذا لم يوجبوا إقامة الحدود

على المسلم في دار الحرب.

5- إن الأحكام التي اختلفت بسبب وصف الدار إنما كانت أثراً من آثار

الحرب الدائرة بين المسلمين وغيرهم، أو بسبب مجرد قيام حالة الحرب [11] .

6- والخلاصة في رأيهم: (أن أساس اختلاف الدارين هو انقطاع العصمة،

وأن مناط الاختلاف هو الأمن والفزع كما بينه أبو حنيفة؛ فالدار الأجنبية أو دار

الحرب. هي التي لم تكن في حالة سلم مع الدولة الإسلامية، وهذا أمر عارض

يبقى بقيام حالة الحرب وينتهي بانتهائها) .

ثم ينتهي إلى النتيجة التي يريد تقريرها فيقول: (وبذلك يلتقي القانون الدولي

والشريعة الإسلامية في اعتبار أن الدنيا دار واحدة، وأن الحرب أمر عارض يقيم

حالة عداء مؤقت بين بلدين، فإذا ما انتهت الحرب زالت معها هذه الحالة، وحينئذ

يتضح لكل إنسان أن كلمة (الحربي) - بحسب اصطلاح الفقهاء المسلمين - لا يلزم

أن ترادف كلمة (عدو) دائماً) [12] .

سابعاً: شرعية التقسيم والرد على المنكرين:

تلكم هي خلاصة القول في رأيهم في تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار

الحرب، لم يكن لنا فيها أي إضافة أو نقص، وإنما جعلناها مرتَّبة متسلسلة لنعود

إليها بإبداء بعض الملاحظات حيالها، لنرى مدى دلالتها على ما يريدون الوصول

إليه أو عدم الدلالة على ذلك.

1- إن هذا التقسيم الذي وضعه الفقهاء للعالم تقسيم أصيل وإن لم يجرِ به

الاصطلاح في عهده صلى الله عليه وسلم؛ فهو لم يكن ابتداعاً ابتدعه الفقهاء، بل

إن أصوله في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، شأنه في ذلك شأن كثير من

التقسيمات في الفقه الإسلامي.

ففي القرآن الكريم نجد تقسيم الناس إلى مؤمنين وكفار، ولكل من هذين

القسمين بلاد أو دار تجمعهم، كقوله تعالى. [والَّذين تبوَّءوا الدار والإيمان من

قبلهم يحبون من هاجر إليهم] [الحشر: 9] وقوله [سأريكم دار الفاسقين]

[الأعراف: 145] ، وقوله [تمتعوا في داركم ثلاثة أيام] [هود: 65] وغيرها

من الآيات كثير.

وفي السُّنَّةِ النبوية وفي الآثار عن الصحابة جاء هذا المعنى واضحاً باسم دار

الشرك ودار السُّنَّة، ودار الإسلام، ودار الهجرة، وهذه الثلاثة الأخيرة تعني حقيقة

واحدة، وتنوعت فيها التسمية بتنوع الوصف. وهذه طائفة من الأحاديث والآثار

في ذلك:

- عن جابر بن زيد قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إن رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر كانوا من المهاجرين؛ لأنهم هجروا

المشركين، وكان من الأنصار مهاجرون؛ لأن المدينة كانت دار شرك، فجاءوا

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة العقبة) [13] .

- وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أمَّر أميراً على

جيش أو سرية أوصاه، ثم قال: (وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادْعُهُمْ إلى ثلاث

خصال، فَأَيَّتُهُنَّ ما أجابوك فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم. ادعهم إلى الإسلام، فإن

أجابوك فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهُمْ إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين

... ) [14] . فالدار الأولى هي دار المشركين، والثانية هي دار المهاجرين وهي

دار الإسلام، التي جاءت في رواية الإمام محمد بن الحسن للحديث بلفظ، فقال: ... (وادعوهم إلى التحول إلى دار الإسلام) .

- وعن سليمان بن بريدة أن عمر رضي الله عنه بعث سلمة بن قيس على

جيش فقال: (فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال. ادعوهم

إلى الإسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة ... ) [15] .

- وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن عبد الرحمن بن عوف قال لعمر

بن الخطاب: يا أمير المؤمنين: إن الموسم (أي: الحج) يجمع رعاع الناس

وغوغاءهم، وإني أرى أن تمهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة

والسُّنَّة [16] .

- وفي كتاب خالد بن الوليد لأهل الحيرة: (وجعلتُ لهم: أيما شيخٍ ضَعُفَ

عن العمل، أو أصابته آفة، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دِينِه يتصدقون عليه

طرحت جزيته، وعِيلَ من بيت مال المسلمين وعيالُه ما أقام بدار الهجرة ودار

الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام، فليس على المسلمين

النفقة على عيالهم) [17] .

(ففي هذه الأحاديث والآثار وفي غيرها أيضاً جاء اسم (دار الهجرة) و (دار

الإسلام) ، و (دار السنَّة) ، و (دار الشرك) كما رأينا، فقد كانت هذه المسميات

موجودة منذ عهد الرسول. وعهد الصحابة، وحتى لو لم تستعمل مصطلحاً شائعاً

مشتهراً، فإن الأحكام التي طبقها الفقه بعد ذلك على الوحدة التي سماها (دار

الإسلام) ، والأخرى التي سماها (دار الحرب) كانت موجودة في عهده صلى الله

عليه وسلم، واستمد الفقه منها تقنينه لما أُطلق عليه كلٌّ من الاسمين، فلا دلالة إذن

للقول بأن هذه التسمية طارئة مستحدثة، ولا سند للقول بعدم شرعية تقسيم العالم

إلى دار إسلام ودار حرب) [18] .

2- ومن استقراء أقوال الفقهاء في تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب

يظهر أنه لا علاقة لحال الحرب بأصل التقسيم؛ إذ هو كما سبق عند جمهور الفقهاء

مبني على سيادة الأحكام، ولذلك فإن بناء التقسيم على أصل العلاقات سلماً أو حرباً

فيه عكس للقضية؛ فإن العلاقات إنما تتحدد بناءًا على وصف الدار وموقف أهلها

من الإسلام ودعوته؛ ولذلك فإن (تقسيم الدور الأصلية ثابت عند الفقهاء ومحل

إجماع، وليس له علاقة بقضية الحرب والسلم حتى يمكن أن تتغير الأوصاف؛ فإن

الأوصاف الأصلية وهي: دار الإسلام، ودار الكفر لا تزال ما دام هناك مسلمون

وهناك كفار، فلا يجوز أن تُخلط هذه المفاهيم بعضها ببعض) [19] .

3- وأما أن الدنيا دار واحدة عند الشافعي كما نقله الدّبُوسِيّ عنه واحتج به

بعض المعاصرين فهذا من حيث الأحكام التي وقع الخلاف فيها بينه وبين الحنفية؛

فهي دار واحدة من حيث التزام المسلم بالأحكام أينما كان، ويوضح هذا ويؤكده أن

الشافعية يقسمون الديار إلى: دار إسلام، ودار كفر، ويقولون بوجوب الهجرة

أحياناً من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأحياناً باستحبابها حسب حاله، ويتحدثون

عن مسائل اختلاف الدارين وأنه لا يؤثر في الأحكام، وعلى هذا فالتقسيم عندهم

متفق عليه، وكتبهم كلُّها شاهدة بذلك.

4- أما اختلاف بعض الأحكام بين دار الإسلام ودار الحرب عند القائلين بذلك

كالحنفية فلا علاقة له بقيام الحرب كما هو ظاهر واضح؛ فإن الحنفية لما قالوا

بامتناع تطبيق العقوبة على المسلم الذي ارتكب موجبها وهو في دار الحرب، عللوا

ذلك بأنه لا ولاية للحاكم المسلم على دار الحرب، وتطبيق العقوبة يقتضي الولاية،

فلما وقعت الجريمة غيرَ موجِبَةٍ للعقوبة وقتَها لم تجبِ العقوبةُ بعد عودته؛ لأنها

وقعت أصلاً غَيْرَ موجِبة.

5- ويزكِّي هذا الذي تقدم ويؤيده أن رأي الحنفية في درء الحد عن المسلم

الذي ارتكب ما يوجب العقوبة في دار الحرب لا يختلف باختلاف حال الحرب

وحال السلم والأمن أو الموادعة؛ فهو قد يكون آمناً عندهم بعقد الأمان ولا يؤثر ذلك

على درء الحد، بل غالباً ما لا يكون دخوله إلا بأمان، وعندئذ يظهر أن اختلاف

الأحكام لم يكن بسبب قيام حالة الحرب، وإنما بسبب عدم الولاية والسلطة.

6- أما توفر الأمن والسلام فإنه لا يؤثر في التقسيم أيضاً؛ إذ قد يكون المسلم

آمناً في دارهم بعقد أمان، ومع ذلك فإن دارهم دار كفر وحرب، ولا فرق في

التسمية، وإن كان بعضهم قد جعلها دار كفر لا دار حرب اسماً.

واشتراط الإمام أبي حنيفة الأمان للمسلمين لتكون الدار دار إسلام، لا ينصبُّ

على أصل وصف الدار وتقسيم العالم إلى دارين، وإنما هو في شروط تغير صفة

الدار من دار إسلام إلى دار كفر؛ حيث قال: لا تصبح دار كفر إلا بالشروط

الثلاثة مجتمعة؛ فإذا بقي المسلمون آمنين بالأمان الأول لم تصر الدار دار حرب؛

فهما قضيتان مختلفتان لا يجوز الخلط بينهما، ولا يدل رأيه على ما أراده

المعاصرون أو فهموه من رأيه في ذلك.

7- أما أن كلمة (الحربي) فلا يلزم أن ترادف كلمة (عدو) كما انتهى إليه

بعض المعاصرين فهذا كلام عجيب غريب، يصادم آيات القرآن الكريم ومدلولات

اللغة العربية؛ فإن الحربي عدو للمسلمين، وعدو المسلمين محارب لهم حقيقة أو

حكماً؛ ولذلك فإن محاولة تأويل النصوص وتمييع الأحكام من أجل أن نظهر أمام

أعدائنا من الكفار بأننا أصدقاء لهم، هذا كله يتناقض مع أحكام الدين، وهو في

الوقت نفسه لا يقنع أولئك القوم، ويعرفون أنه مجاملة أو انهزامية فحسب؛ فهم قد

(درسوا قضية ديار الحرب وديار الإسلام، وكيف يقسم الفقهاء المسلمون الدار إلى

دارين، وهل لدى المسلمين استعداد لأن يتنازلوا عن هذه القسمة ويعترفوا بالنظام

العالمي الجديد؟) [20] .

والأمر الذي ينبغي أن يكون واضحاً هو أنه (لا مكان لما يسمى بالنظام

العالمي الجديد أمام القسمة الثابتة التي تجعل للمسلمين دارهم وشريعتهم وولاءهم

وتميزهم وتوجههم) [21] .

وقد ألمحنا في مناسبات سابقة إلى خطورة المنهج التسويغي في البحث

ومحاولة التقريب ولو بالتعسُّف والتَّمَحُّل بين القانون والشريعة، هذه المحاولة التي

تنم عنها النتيجة التي وصل بعضهم إليها فقال: (وبذلك يلتقي القانون الدولي

والشريعة الإسلامية في اعتبار أن الدنيا دار واحدة) .

ثامناً: دار العهد والموادعة:

ألمحنا فيما سبق إلى اتفاق العلماء على أن البلاد التي تظهر فيها أحكام الإسلام

وتخضع للسيادة الإسلامية تكون دار إسلام. وهذا يشمل ما إذا أسلم أهل البلاد

وأقاموا بدارهم، وما إذا فتحت البلاد عنوة وأجرى المسلمون فيها أحكام الإسلام،

وما إذا دخل أهل البلاد في ذمة المسلمين وخضعوا لأحكام المسلمين؛ فإن أهل الذمة

من أهل دار الإسلام، ويشمل أيضاً البلاد التي فتحت صلحاً على أن تكون الأرض

للمسلمين ويُقَرَّ أهلها فيها ويوضع عليهم الخراج، وما عدا ذلك من البلاد فهي دار

كفر أو حرب.

واتفقوا أيضاً على تقسيم العالم أو الديار إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما، هما.

دار الإسلام، ودار الحرب، ولا دار لغيرهما [22] .

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام. أن دار الحرب تقسم إلى قسمين. دار

حرب لا يوجد بيننا وبينها معاهدة أو موادعة وميثاق، ودار حرب بيننا وبينهم

موادعة ومعاهدة، وهذه يجعلها الإمام محمد ابن الحسن الشيباني وغيره من الفقهاء

رحمهم الله من جملة دار الحرب، ويجعلها بعض الكاتبين المعاصرين داراً مستقلة

يسميها دار العهد [23] .

تاسعاً: رأي الإمام الشيباني:

تناول الإمام محمد بن الحسن الموادعة والمعاهدة في أبواب كثيرة [24] ،

وتحدث عن أهل الموادعة، وأن دار الموادعة ليست داراً مستقلة، بل هي دار

حرب، وبنى على ذلك مسائل فقهية كثيرة، وجاء تعليلها عند السرخسي بأن دار

الموادعة دار حرب.

قال الإمام محمد بن الحسن: (لو أن أهل دار من دور الحرب وادَعوا

المسلمين على أن يؤدوا إليهم كل سنة خراجاً، أو شيئاً معلوماً في كل سنة على أن

لا يُجْرِيَ المسلمون عليهم أحكام الإسلام، ولا يكونوا ذمَّة لهم، ثم إن رجلاً منهم

خرج إلى دار الإسلام بأموال كثيرة على تلك الموادعة فهو آمِنٌ) .

(ويعلل السَّرَخْسِيُّ ذلك بأن هذا الرجل الذي خرج إلى دار الإسلام حربيٌّ

على حاله إلا أنه آمِنٌ، ولم يَصِرْ ذمِّياً؛ لأن حكم المسلمين غير جارٍ على أهل

الموادعة ولم تصرِ الدارُ دارَ إسلامٍ بتلك الموادعة؛ لعدم جريان حكم الإسلام،

فكانت دار حرب) [25] .

ويقول الإمام محمد أيضاً: (لو أن رجلاً من الموادعين قتل رجلاً منهم في

دار الموادعة لم يكن عليه القصاص، ولو قتل مستأمِنٌ مستأمَناً في دارنا يجب عليه

القصاص) .

ويعلِّل السرخسي ذلك فيقول: (لأن أهل الموادعة لم يلتزموا شيئاً من حكم

الإسلام، فإنهم وَادَعُونَا على أن لا تجري عليهم أحكامُنا، فكانت دارهم دار حرب

على حالها) [26] .

ويقول أيضاً: (لأنهم بالموادعة ما خرجوا من أن يكونوا أهل حرب وإن

كانوا موادعين حين لم ينقادوا لحكم الإسلام، ألا ترى أنهم بعد مضي مدة الموادعة

يعودون حرباً للمسلمين؟) [27] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015