الافتتاحية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما
بعد:
فإن تراجع الهجمة العقدية على مستوى الساحة العالمية أمر مشاهد ومحسوس
بعد أن فقدت الدعوات العقدية الغربية من نازية وشيوعية واشتراكية بريقها،
وأصبحت الساحة رهينة للعبة السوق التي تتدثر بالليبرالية رداء حين تقدم الى
مستهلكي الأفكار- مع ما تقدمه من بضائع - تحت لافتة خادعة تسمى (العولمة) .
وهذه العولمة هي - باختصار-: افتراس المنتصر المتوحش لضحاياه الأقل شراسة
وقدرة على البقاء؛ حين تضمن للقوي تصدير سلعته وخدماته وأفكاره بحجة حرية
السوق وحرية المعتقد وحرية الثقافة، وليت هذه الثقافة أو تلك الحرية تكون أصيلة
أو حقيقية وهي ليست كذلك؛ فمع مرور الوقت يتضح جليا أن العولمة لا تحوي
فكرا متكاملا أو عقيدة منطقية بقدر ما تمثل مجموعة من القيم الغربية السلوكية الفجة
تختفي وراء شعار فضفاض يطالب بالحرية الدينية للنصارى في بلاد الإسلام،
بينما يمنع ارتداء غطاء الرأس للمسلمة في دياره، أو يرفض الاعتراف بالجاليات
المسلمة التي تشكل في الدول الغربية الرئيسة الجالية الثانية بعد النصارى، ويسلبهم
حقوقهم المدنية، أو يشن عليهم حربا قذرة، وكل ذلك ضمن القانون القابل للتمدد
والانكماش حسب معتقد المتهم ودينه! !
يصنف بعض المفكرين وأصحاب الرأي المرحلة التالية لانهيار الإمبراطورية
السوفييتية وانعكاس هذا الانهيار على الساحة العربية والإسلامية إلى مراحل رئيسة
ثلاث تبدأ بحرب الخليج وما أفرزته تلك الحرب من عملية سلام زائف تم تمريره
عبر شعارات براقة (الشرق أوسطية) سرعان ما أدت إلى مرحلة الهوان الحالية
التي تتحدى حكومة الصهاينة من خلالها شعوب الجوار وحكوماتها والعواصم الدولية
دون أن تتصور وجود مقاومة لغطرستها عدا تلك المشاعر المتأججة في الصدور
وهذه العقيدة التي يشكل معتنقوها آخر حائط صد في وجه الطوفان
الأمريكي / الصهيوني.
لم يبق بالفعل سوى الإسلام عقيدة ومنهجا على الساحة العربية يمنحها شيئاً
من الصمود وقليلا من المقاومة بمقاييس المادة والنزال الدنيوي. لقد استطاعت تلك
القوى من خلال التحالف البشع مع دولة اليهود أن تجرم أي نشاط إسلامي سياسي
على مستوى المنطقة عموما، وذلك تحت شعار محاربة الإهاب، وأصبح أمام
المسلم طريق واحد إذا ما هو فكر في ممارسة واجبه الشرعي في الحفاظ على
هويته وكيانه أو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استطاعت
تلك القوى أن تضعه في لائحة التجريم والملاحقة إلى جانب جريمة ترويج
المخدرات! !
وإن كان أعداء الإسلام قد صرحوا منذ البداية أن الإسلام دين عنف، متخلف، وغير حضاري، وأن القضاء عليه مطلب ضروري من أجل أن تنعم البشرية
بحياة هانئة بعيدة عن القلق والاضطراب، وإن كان الأعداء الوقحون قد كشفوا ما
في صدورهم فإن فئة أخرى تشاركهم نمط الحقد نفسه والضغينة نفسها غلفت هذا
العداء بشعار تجفيف المنابع، وخرجت بنظربة كرتونية تربط بين عود الأراك
وفوهة الكلاشنكوف، ووصلت إلى علاقة طردية بين أداء الصلاة وتهديد قداسة
أصنام العلمانية، وبين ظهور شعر العارضين وانفجارات أوكلاهوما وانخفاض
مستوى أسعار النفط!
أصبحت الأصولية والإسلام الإرهابي والظلام وغيرها من عبارات، العهر
الفكري هي (النظرية) التي تفسر كل ما أصاب الأمة وشعوبها من إحباط وخيبة
وأنماط تخلف وفساد وتحلل، بل إن أحط الفئات خلقا وسيرة خرجت للجماهير
العربية بنظرية: أن محاربة (طيور الظلام) لا تتم إلا من خلال نشر أوكار
الدعارة، ونشر الثقافة الجنسية الفاجرة حتى يتعرف الإرهابيون والمخدوعون
بالإسلام أن هناك حياة أنقى من التزام شرع الله تتمثل في الخنا والفجور والذوبان
في مجتمع العولمة وانسلاخ الذات!
إن سياسة تجفيف المنابع كشفت بلا مواربة أن الحرب الآن على الإسلام
باعتباره عقيدة وشريعة وسلوكا؛ فبعد أن حُد من الجانب الاحتسابي الذي يظهر
وجهة النظر الإسلامية في القضايا السياسية والاقتصادية الكبرى فإن الدور الآن
على الجوانب الاجتماعية التي تحكم علاقات وسلوكيات المسلمين. إنها حرب غير
أخلاقية لمحاصرة الجوانب الأخلاقية من قيم ومبادئ ومثل وممارسات يومية،
وأخطر ما استخدم في هذه الحرب هو الخطاب الإعلامي المتفسخ، وتوظيف انفجار
الثورة الإعلامية وتقنية الاتصالات ببث الرسائل التافهة، وترسيخ العولمة بنكهة
الكوكاكولا والهامبورجر بترجمة عربية رديئة تجعل من المطربات والمطربين
والراقصات ولاعبي الكرة (نجوم) المرحلة و (منظري) العولمة اليعربية.
وتغذى القوم - بحكم خلو الساحة من حق المقاومة - بوقود الدعم الكبير حتى
بدءوا يحتفلون مباهين بأن بلدا عربيا لا يتجاوز سكانه بضع ملايين أخذ يقدم لكل
1000 مواطن مطربا آو مطربة في الوقت الذي تبلغ نسبة الأطباء لكل مواطن في
هذا البلد نسبة مخجلة لا تجعل المقارنة في صالح حزب تجفيف المنابع! !
إن ما يحصل الآن من انفجار فضائي وإعلامي هو مؤشر لحالة السعار التي
تريد أن تقضي على مظاهر التميز، بل الوجود؛ بحجة اللحاق بالركب العالمي،
وهو ركب تتركه اليوم الأمم التي تحترم نفسها ولا تضع حاضرها ومستقبلها لعبة
تتسلى به الأفاعي الدولية!
وبحجم الهجمة فإن دعاة الإسلام ورموزه لم يستوعبوا بعد حجم التأثير وقوة
الغزو الخبيث الذي ينطق بلساننا ويتخفى بأسمائنا. وأمام تلك الهجمة فدعاة الإسلام
أقسام:
- قسم لا زال يقاوم الهجمة المحدثة بأساليب قديمة وخطوات لا تناسب
الظروف الحالية، وهو - على كل حال - مخلص في هدفه مستقيم على منهجه!
- وقسم يحاول أن يقاوم الهجمة بأدواتها الماكرة وذلك من خلال تحديث أسلحة
المعركة وتطوير وسائل حماية الشعوب من مكر الليل والنهار وهو - على كل حال
- ضعيف في قدراته مجتهد في وسائله ملتزم بمنهجية واضحة..
- وقسم ثالث يحاول أن يصد الهجمة وقد أصابته بحالة من الذهول حتى غدا
الدخول في المعركة هدفا بحد ذاته وإثبات وجود الصوت المسلم مطلبا تهون أمامه
الثوابت ولا ينضبط حينها بقيد شرعي أو ضابط منهجي..
- وصنف رابع تحتار أن تصفه: هل هو عدو لك أم متعاطف معك! ؟ !
أعماله وقود لتسعير الشهوة وتجديد وسائل اقتلاع الأخلاق، وكلامه البارد يتحدث
عن توقير القيم وسيلة للدعوة، ولا تدري أي دعوة تلك أمام ذلك التناقض المريب؟
إن الهجمة الفضائية الشهوانية المستعرة اليوم التي تتعرض لها أجيالنا بخاصة
تتطلب من الدعاة والمصلحين والأفراد والجماعات وقفات عدة:
- وقفة لتقويم رسالة العدو ورصدها وتحليلها وتأثيرها على فئات المجتمع
الأقل إدراكا ومناعة، كما تقتضي مراجعة أساليبنا في الوصول إلى الواقع المسلم
بأصوات جديدة وقوالب جذابة تجتذب الفئات المستلبة بالبريق الخادع كما تقتضي
دعم البرامج
الدعوية التي أثبت نجاحها لفئات معينة مع العمل على دعمها وتطويرها رغم
أنها وسائل تقليدية إلا أنها تبقى قوية فاعلة أمام أخطر التحديات حين يقدم الإسلام
للمسلم البسيط الذي تجرد من الإسلام قطعة قطعة وأصبح مولودا ممسسوخا لا يمت
للإسلام بصلة سوى بعض الأماني الكاذبة والرؤى الضبابية في صدور أولئك الذين
يعتقدون أنما الأعمال بالنيات وكفى! فيقدمون أبشع وأحط الأعمال التي تفسد أمجاد
شعوب استنادا إلى نوايا في صدورهم لا تؤثر في الواقع؛ بل إنها تقدم أعذارا
لأسراب الهالكين بأن القائمين على هذا الفساد والفجور هم من أصحاب النيات
الطيبة، وبعض هؤلاء قد يتمادى فيهاجم أولئك القابضين على دينهم المتصدين
للهجمة الإعلامية الفاسدة بوسائل نظيفة تتهمهم بأنهم (رجعيون) لا يفهمون لغة
العصر ولا يفقهون عناصر الرسالة الإعلامية التي يجب أن لا تفرق بين الوسائل
الإسلامية وسواها إلا من خلال المضمون أما الشكل، فلا ضير أن لا يكون إسلاميا
أو أخلاقيا، لأن علينا أن نثق بنيات وأسماء هؤلاء الرموز العقلانيين الذين لهم
وحدهم حق التنظير والتفكير وتوزيع الخطأ والصواب (يمنة ويسرة) حتى في أدق
الأمور الشرعية وأكثرها حاجة لعالم بصير بالقواعد والنصوص والواقع!
إن من حقنا على أولئك المجتهدين - وقد أثمرت اجتهاداتهم أخطاء شرعية
ومواجع واقعية - أن نقول لهم: إن الهجمة على أهل الإسلام ودينهم ورموزهم
أكبر من أن ينضم إليها أولئك الذين كان ينتظر منهم أن يعتلوا المنابر لا أن يشاركوا
في تلك (المواخير) التي تجمع بين التحدث عن الإسلام ومهاجمته واتهامه بأقصى
التهم في الوقت ذاته.
والله نسأل أن يجعل لأمتنا من أمرها رشدا، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا
اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.