البيان الأدبي
إسلام دعدوشة
ثلاثة.. أربعة.. عشرة عدد خشبات سقف الصالة التي يجلس فيها عماد،
أخذ يكررها ويحصيها مرة بعد مرة، لا يعرف كم مرة عدها وهو في حالة القلق
التي خالجته. ووسط لحظات الترقب والحيرة التي استبدت به؛ ظهر شعر رأسه
القصير من تحت طاقيته البيضاء، وبدت عيناه المنتفختان يكسو بياضهما اللون
الأحمر، انسكبت منهما دمعة رغماً عنه، وانتشر دخان الأرق والقلق الذي يعبق به
البيت، ورقد والده ممدداً على السرير النحاسي العتيق في الحجرة الكبيرة،
والأقارب حوله يحبسون أنفاسهم كلما شهق الرجل شهقة واهنة.
وجلست أخته الكبرى عند رأسه تجفف حبات العرق الذي تصبب بارداً غزيراً، وتردَّد صوته الخافت:
- أريد أش.. أشر.. أشرب.
- اعصر برتقالة يا حسن!
- لا.. أنا أريد ماءً.
كاد قلب عماد يذوب كمداً.. ففي الغرفة المقابلة ترقد زوجه وقد برحت بها
آلام الولادة، تضغط على أسنانها ضغطاً شديداً لتكتم آلامها، ازداد قلب زوجها
خفقاناً وعيناه موزعة زائغة، حائرة بين الغرفة التي يكابد فيها أبوه السكرات،
والحجرة التي ترقد فيها زوجه تعاني الزفرات ترقباً للحظة الولادة، ودنت منه
حماته وهمست:
- كان من الأفضل أن تلد في بيت أمها بدل الحالة التي يعيش فيها البيت هنا.
- من كان يعرف أنه سيحدث ما حدث!
ودخلت قابلة القرية البيت قائلة:
- كيف حال الشيخ المريض الآن؟
- ندعو الله أن يلطف به.
وأسرعت القابلة إلى غرفة زوجه وقد دوَّت صيحات الألم المبرح:
- ماءاً حاراً يا أولاد.. بسرعة.
وأحضرت بعض النسوة الماء الساخن في إناء نحاسي تتصاعد منه أبخرة تكاد
تحرق من شدة غليانه، واستمرت القابلة تصدر أوامرها في حزم، والجميع مذعن
مطيع.
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
أخذ عماد يحوقل ويتلو آيات من القرآن الذي كان قد حفظه في صباه في
الكتّاب، وظل يقرأ حتى وقف عند قوله - تعالى -: [لا يكلف الله نفسا إلا ما
آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا] [الطلاق: 7] حتى خنقته العبرات، والنسوة
يخرجن ويدخلن غرفة زوجه.
- كيف الحال؟ هل آن الأوان؟
الصمت مخيم على المكان، والترقب يضرب بأطنابه، وأنَّات المرأة تكاد
تقطع قلب من تصل إليه؛ لكم جاهد ليتزوجها رغم عدم رضا والديه، استحالت
صالة المنزل إلى ساحة سوداء يتخللها رؤوس نسوة بين جالسة تترقب، ورافعة
يديها إلى السماء تلهج بالدعاء، أخذ يدور في البيت ينظر إلى السقف.. هل يعد
خشبات السقف أم يلهج قلبه بالدعاء أن يعين الله زوجه ويوفقها. ازداد خفقان قلبه،
وهو يدور في البيت في حركة لا إرادية، يذهب ليلقي نظرة على أبيه ثم أخذ يتمتم
بكلمات لا تفهم منها سوى كلمة واحدة.. يا رب.. يا رب.
دوَّت صرخة اهتزت لها جنبات المكان، إنه صوت طفل يبكي، هرول إلى
غرفة الزوجة وهو يردد:
- الحمد لله. الحمد لله ...
وفي الغرفة الكبيرة دوَّى صوت أمه الثكلى، فضم أمه إلى صدره مواسياً
ومسلِّياً لها قائلاً:
- إنه قضاء الله ولا راد لقضائه.
- الحمد لله.. ربنا يبارك فيكم يا ابني.