في دائرة الضوء
محمد أحمد الزهراني
لا شك أن الاهتمام بموضوع التفكير هو من الاهتمامات المطلوبة شرعاً.
والتفكير الإبداعي بخاصة هو مما ينبغي أن توليه جماعات أهل السنة وأفرادهم
اهتماماً كبيراً وخاصة في وقتنا الحاضر.
تشير بعض الدراسات إلى أن معارفنا التقنية والفنية والتدريبية تشكل فقط 15% من مجموع معارفنا، أما الـ 85% الباقية فإن الأمور والصفات الشخصية فينا
هي التي تمثلها: كالحماس، والهدوء، واللياقة، والإبداع، والرفق، والتصميم،
والشجاعة ... إلخ. ولذلك؛ فإن رؤية الأشياء على حقيقتها ليست دائماً بالبساطة
التي نفترضها؛ حيث إن كلاً منا يبني تصوره للأمور في حدود عالمه وقدرات
حسه وعقله.
ونتيجة لما سبق: فإن ما ستحصل عليه هو نتاج ما تفكر فيه فقط.
الإبداع مقصود في هذا الدين:
لقد حرص الإسلام على تحرير العقول وتجردها من المؤثرات السابقة القائمة
على الظنون والأهواء والتقليد الأعمى الذي وُرِثَ عن الآباء والأجداد دون وعي أو
تمييز؛ قال - تعالى -: [وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أََنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أََلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا أََوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ] [البقرة: 170] ، وعن
حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا
تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا
أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن اساؤوا فلا تظلموا) [1] .
وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي وهب الجشمي كما عند
أحمد وأبي داود [2] : (أصدق الأسماء حارث وهمام) .
وقد قيل: ليس الإخبار عن صدق الاسم في ذاته، وإنما صدقه من مطابقته
لحال صاحبه الذي هو المسمى به أياً كان، فإن كل إنسان حارث أي: صاحب
حرث وعمل، وكل إنسان همّام أي صاحب تفكير في شأنه وأمره، وهذا الحديث
دليل على أن الجميع يفكر.
التعريف بعملية التفكير وكيف تحدث:
إن جسم الإنسان كل لا يتجزأ؛ لكن تقدم العلوم يكاد أن يجعل العقل غير
الجسم، بل يقسم العقل إلى أكثر من قسم، والذي يهمنا هنا هو أن العملية الذهنية
(والتي هي عملية افتراضية وضعت لتوضيح الأدوار الوظيفية في العقل) تنقسم إلى
ثلاثة أقسام هي: الوعي أو (العقل الواعي) ، واللاوعي أو (العقل الباطن) ،
واللاوعي الابتكاري.
1 - فالعقل الواعي هو الذي يقوم بوظائف منها: إدراك البيئة المحيطة وما
فيها من معلومات تهم الفرد واتخاذ القرار المناسب لمصلحة الفرد بناءً على هذه
المعلومات، ثم تقييم القرارات والتصرفات وربطها بما يستجد من المعلومات.
2 - أما العقل الباطن أو (اللاوعي) فهو جزء من العقل، ووظائفه هي:
- التحكم في الوظائف التلقائية في الجسم (اللاإرادية) مثل: ضربات القلب،
والتنفس، وإفراز الغدد ... إلخ التي تعمل في وقت غياب الوعي بنوم أو إغماء أو
غيرهما.
- تخزين كل ما يحدث للفرد ويعرفه في صورة (ذاكرة) باعتبارها جزءً من
هذه المقدرة على التخزين؛ فإن باستطاعة العقل الباطن دفع أفعال الفرد وأفكاره
بصورة تلقائية أو مبرمجة في أنماط من الفعل تسمى: (العادات الفردية) .
والعقل الباطن يجمع كل ما يأتيه من المعلومات عن طريق (العقل الواعي)
ولا يميز بين ما ينبغي رفضه أو لا ينبغي.
3 - وهناك اللاوعي الابتكاري: وتعد وظائفه من أهم مراحل العملية الفكرية
وهي:
- الحفاظ على العقل من الجنون؛ حيث إنه يشعر بجميع حالات الضغط
والتوتر والاضطراب العاطفي التي قد تسبب الإزعاج، فيقوم بالتخفيف من آثارها
على الصحة العقلية بتحويل هذه الحالات إلى أفكار ذات مغزى.
- حل المعضلات بطرق مبتكرة سريعة.
- إيجاد الدوافع القوية والمستمرة لتنفيذ أمرها.
- ابتكار الأساليب والوسائل التي تعين على تحقيق الهدف.
إن كثيراً من الأفكار التي ترد على العقل لأول مرة لا تتكون كلها في مستوى
الوعي، بل تقفز من اللاوعي كما لو أنها ولدت لتوّها.
وعندما يحرر الوعي نفسه من السؤال المطروح أو المشكلة التي أعجزه حلها
تنفجر الأفكار المبتكرة. ومع ذلك فإن تلك الأفكار المبتكرة لا تكون في حيز الوجود
إلا بعد أن يبدأ العقل الواعي في الاهتمام بالمشكلة وحلها لكي يشغل ملكة الإلهام لديه، ويجعلها تعمل بعد إحاطته بكل حقائق الحالة ومعطياتها ودراسة جميع الخيارات
المتاحة، ثم يسترخي العقل الواعي تاركاً خيال اللاوعي يشرع في العمل.
وبهذا؛ فإنك تعطي (الآلية الإبداعية) في ذاتك فرصة لتبدأ العمل، وستخوض
هي تلقائياً في المعطيات المتوفرة في اللاوعي لتخرج بالحل المناسب لتلك المعضلة، وأحياناً وأنت تفكر في الحل أو تكون مشغولاً بغيره تجد أن عقلك الواعي قد تسلّم
الزمام فُجاءة وأعطاك الحل [3] .
ولعلنا نعرّف هنا ما يسمى بالإبداع؛ لأن الذي نريده هو الفكر الإبداعي:
فالإبداع: هو الإتيان بشيء جديد على غير مثال سابق؛ فعندما تواجه المبدعَ
مسألةٌ نظرية أو عملية يبدأ في إعمال فكره في إيجاد حل لها، وقد يكون لها حل
متعارف عليه؛ لكنه لا يقنع به ويبحث عن حل أفضل، ومع الإصرار وإجالة
الفكر والتأمل ينقدح في ذهنه حل للمسألة القائمة قد يكون فتحاً لمن بعده [4] .
ومعظم الباحثين يرون أن الإبداع هو: تحقيق إنتاج جديد ذي قيمة من أجل المجتمع، وهو النشاط الفردي أو الجماعي الذي يقود إلى إنتاج يتصف بالأصالة والقيمة
والجدة والفائدة من أجل المجتمع. وبمعناه العام فهو إيجاد حلول جديدة للأفكار
والمشكلات والمناهج [5] .
والتفكير الإبداعي: هو التفكير الذي يسعى إلى حل المشكلات والإجابة عن
التساؤلات بطريقة بديعة مبتكرة. والتفكير الإبداعي هو أن تسعى للحصول على
أبكار الأفكار التي لم تُسبق إليها، وإن كان لا يلزم من ذلك أن تكون هذه الأفكار
كبيرة ومعقدة؛ بل المهم أن تساعد في حل مشكلة مهما صغرت هذه المشكلة [6] .
إن على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنه ما من ظرف أو حالة أو موضوع
... إلا ويمكن إدخال شيء من الإصلاح عليه بإكثار ما فيه من الخير والفائدة وتقليل
ما فيه من الضرر.
إن إدخال مثل هذا الاعتقاد في مُرَكّبنا العقلي ضروري جداً لمقاومة سلسلة
الإحباطات التي تواجه المسلم في حياته [7] .
ونحن تشتد حاجتنا إلى التفكير والإبداع؛ لأننا في مجتمع تعوّد الرتابة وتعود
أن يتلقى الأشياء وأحياناً الأفكار معلبة وجاهزة.
ولكن كيف السبيل إلى تحسين التفكير وتربية الإبداع؟ وما هي معوقات ذلك؟
سنتعرض أولاً لإنتاج الفكرة الجديدة، ثم نتعرف على بعض عوائق الإبداع،
ثم كيف نعلم الآخرين التفكير؟ وكيف نطوره ونرفع مستواه؟
إنتاج الفكرة الجديدة:
وذلك إما بالتعامل مع الأفكار القديمة وإما بإنتاج فكرة جديدة بالكلية:
أولاً: بالتعامل مع الأفكار القديمة؛ وذلك بإحدى الطرق الآتية [8] :
1 - الاستعارة: وهي أن يستعير الإنسان فكرة موجودة ومطبقة في مجال من
المجالات، فيستخدمها في مجال جديد تكون فيه نافعة، وتحل مشكلة كانت موجودة
من قبل في هذا المجال.
ومثالها: توظيف شبكة الإنترنت وغيرها من شبكات المعلومات للتعريف
بالإسلام والدعوة إليه.
2 - الإضافة: وهي أن يأتي بفكرة قائمة مطبقة لكن فيها نقص أو ثغرة،
فيضيف إليها ما يسد هذا النقص ويجعلها أكثر عملية وأعم فائدة وهو التطوير.
ومثالها: ما يذكر من تطوير وسائل النقل أو الأدوية أو الاتصال ونحو ذلك.
3 - الجمع والمزج: وذلك بأن نأتي لفكرتين ونمزج بينهما لنخرج بفكرة
مركبة ثالثة نحل بها إشكالاً كان قائماً.
ومثالها: لو طرحت مشكلة في وضع دعويّ مّا، واقترح اثنان حلين مختلفين، فجاء ثالث وجمع بين الحلين ومزجهما وإن حذف بعض جزيئاتهما.
4 - التعديل: بأن نأتي إلى فكرة قائمة نعدل فيها ونهذبها بحيث تناسب
وضعاً آخر.
ومثاله: بعض الدعاة رأى صفحات التعارف في المجلات تعج بأسماء عديدة
فاستغل هذه الفكرة في الدعوة إلى الله فكانت النتائج باهرة.
ثانياً: قد يكون إنتاج الأفكار الجديدة مستقلاً عن الفكرة القديمة وناتجاً عن
الشعور بالمشكلة والمعرفة بما يدور حولها.
- ولا يشترط في الفكرة الإبداعية أن تكون مركبة ومعقدة بحيث لا يستطيع
إبداعها إلا من كان صاحب تأهيل علمي في ذلك المجال؛ بل إن الأمر من السهولة
بحيث يتعجب بعض من يراها كيف لم يتفطن لها من قبل؟
يذكر أن شاحنة عالية دخلت تحت جسر فالتحم أعلاها بالجسر بحيث لا يمكن
تحركها دون أن يتأثر الجسر؛ وفي أثناء حيرة رجال الإنقاذ في كيفية إخراجها تقدم
طفل صغير إلى أحد رجال الشرطة وهو يستفسر عن سبب الحيرة، وعندما أخبره
رد عليه الطفل بسرعة قائلاً: فرّغوا إطارات الشاحنة من الهواء. وكان ذلك هو
الحل الوحيد.
أما السؤال المحتمل وروده هنا فهو: هل للإبداع علاقة بالذكاء؟
والذي عليه أكثر الباحثين في هذا الباب من علماء النفس والاجتماع [9] أن
الذكاء ليس لازماً للإبداع وإن كان مؤثراً فيه. ويمكن القول: إنه لا صلة مباشرة
بين الذكاء والإبداع.
من عوائق الإبداع في التفكير:
1 - عدم التعود على التفكير.
2 - عدم تخصيص أوقات للتفكير غير أوقات العمل والجهد البدني.
3 - التفكير وقت الإرهاق والتعب الجسمي أو في وقت النعاس مثلاً. وهنا
يذكر أن أنسب الأوقات هو وقت ما بعد النوم الكافي لحاجة الجسم.
4 - عدم حل المشكلات وتصورها تصوراً دقيقاً، وغموض بعض جوانب
المشكلات، والنظر إليها بنظرة من جهة واحدة، أو قل: عدم النظرة الشمولية
للمشكلة.
5 - الظن أن الفكرة الإبداعية لا بد أن تكون جديدة من أصلها؛ وهذا أمر
خاطئ.
6 - الظن بأن الإبداع إنما هو من نصيب الأذكياء والموهوبين.
7 - الخوف من الإخفاق ولن يكون مبدعاً من لم يكن شجاعاً في تفكيره.
والانهزام المؤقت ليس إخفاقاً. وقد قيل: لولا المشقة لساد الناس كلهم.
8 - وكذلك إلزام الإنسان نفسه التفكير بقيود سابقة أو بالطريقة التي يفكر بها
الناس.
يذكر أن إديسون اخترع المصباح الكهربائي بعد أن أجرى أكثر من ألف
تجربة غير ناجحة.
وأن ابن سينا قال: قرأت كتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو فما فهمته حتى
قرأته أربعين مرة [10] .
ويكاد المبدعون أن يجمعوا أنهم واجهوا في بداياتهم إحباطات وصعوبات
وإخفاقات كادت أن تقعدهم عن الاستمرار.
كيف نعلّم الآخرين التفكير السليم؟
لا بد من الإشارة إلى تفاوت الناس في قدراتهم العقلية، وإلى تأثر مستوى
التفكير أحياناً بالبيئة النفسية والاجتماعية؛ ولكنْ هناك أمور يمكن بها أن يتقدم
تفكير الإنسان كثيراً بالاتجاه الصحيح: فمن ذلك:
1 - تعليم الآخرين ما هو الثابت في حياتنا وما هو المتغير، والقابل للتحويل
من أمورنا وعاداتنا.
2 - تعويدهم الانتباه والنظر للمضار والمنافع لكل ما هم مقدمون عليه.
مثل: تنبيه الأطفال إلى مضار اللعب في الشمس المحرقة أو الجلوس فيها؛
وهو أمر يجعلهم يقتنعون بترك هذا الفعل فيما بعدُ بلا نهي عنه.
3 - تعويدهم النظر في البدائل عن الأمر الذي يريدونه إن كان ضاراً، أو أن
غيره أنفع منه.
مثل: تفضيل لعبة نافعة على أخرى ليس فيها فائدة.
4 - التعويد على النظر في جميع العوامل المحيطة بالموقف، وأخذها بعين
الاعتبار قبل إصدار أي حكم.
5 - تركهم ليتخذوا بعض القرارات بأنفسهم تدريجاً مما يجعلهم أكثر تحرياً
للأصوب ونظراً في عواقب الأمور.
6 - تشجيعهم على ما يفعلونه من صواب، والثناء عليهم وإعانتهم عند الخطأ، والتخفيف من الشعور بالإخفاق.
7 - ربطهم بالله، وأن التوفيق من عنده - سبحانه -، والسعيد من وفقه الله
بسبب علاقته بربه قال - تعالى -: [وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً]
[الطلاق: 2] وإن العلماء كان ذلك منهجهم؛ فقد كان شيخ الإسلام إذا استغلقت عليه مسألة بقي يستغفر الله حتى يفتح الله عليه.
كيف نحسن التفكير؟
بما أن قدراتنا العقلية على التحليل والتركيب وإدراك المترابطات متفاوتة؛
فإن عمليات تحسين التفكير تؤدي إلى نجاحات متفاوتة.
ولكن الذي يراه كثير من العلماء هو أن مستوى التربية الاجتماعية وثراء
المناخ العام أكثر تحكماً في تطوير التفكير وتحسينه من تأثير القدرات الخاصة.
وهذا أمر يجعل إمكانات تحسن التفكير أكبر مساحة وأسهل تحقيقاً.
ومن أهم الأمور التي تساعد على تحسين التفكير:
1- صرف وقت خاص له في حل مشكلة أو تطوير وضعٍ مّا، أو الاستفادة
من طاقةٍ مّا.
وحاول أن تجعل خطواتك العملية الصحيحة عادات تسير عليها لتصبح ضمن
برنامجك اليومي.
2- أطلق لنفسك العنان في التفكير؛ فإنه لا بد للمفكر من الخيال الواسع،
ولا تحتقر أي فكرة في مجالٍ مّا مهما بدا أنها بعيدة أو صعبة التنفيذ.
3- محاولة النظر إلى كل أمر أو مشكلة نظرة شمولية واسعة تعين على
المعرفة الصحيحة التي هي مفتاح كل عقدة وبداية لحل كل معضلة.
الإبداع والتغيير:
إن كثيراً من الناس لم يعرف حتى الآن قدرات عقله ولم يستفد منها كما يجب، وذلك ربما يعود لجهل هؤلاء الناس بخصائص ومزايا هذا الجهاز العظيم الذي
يسمى المخ، ولقناعتهم بالحد الأدنى من الاستفادة منه وهو ما ليس من صفات
العظماء والعباقرة على الإطلاق.
إن على المصلحين أن يعرفوا أن بداية الرقي في سلم الكمال وبداية السير في
الطريق الصحيح تكون بأمورٍ منها [11] :
1- الشعور بأننا مهما حسن حالنا وتعدل تفكيرنا أنا لسنا في آخر مراقيه.
وعلينا أن ندرك أن التفكير الذي هو للتغيير ليس درساً نحفظه ولا نصائح نسمعها
من هذا وذاك؛ بل إن هناك من العقبات في أنفسنا وواقعنا الكثير الذي يحتاج إلى
التفكير للتغيير والحل.
2- أن نعرف أن التفكير الذي نريده الآن هو إرادة وقدرة:
- إرادة تساعدنا على تجاوز العقبات، وترك الكسل والخمول وحب الرتابة
والبقاء على ما كان عليه من قبلنا.
- وقدرة تعني إدراكنا لما ينبغي أن يثبت في هذا الوجود؛ فلا يتحول أبداً،
وإدراكنا لما ينبغي أن يتغير فلا يثبت أبداً.
3- ولا بد من الاطلاع والتعمق في الدراسات التاريخية والاجتماعية والنفسية؛ حيث تكشف لنا السنن التاريخية عن سنن الله في قيام الحضارات والدول وأُفولها؛ والذي معناه تمييز المقدمات من النتائج وسلسلة المتغيرات بينهما؛ والذي معناه
فهم النتائج برؤية المقدمات لمن وفقه الله - تعالى -.
وتُطلِعُنا الدراسات الاجتماعية على السنن التي تحكم اجتماع الإنسان مع
الإنسان، وما يحكم الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها؛ وذلك يجنبنا كثيراً
من التعسفات في تعاملنا مع تلك الظواهر وتعيننا على أن تكون الحلول والأحكام
أقرب إلى المنطق والواقع وأكثر قبولاً عند الناس والمدعوين.
وأما الدراسات النفسية فهي ضرورية لمعرفة الظروف الشخصية لأصحاب
الأفكار الصادة من حيث المكونات والدوافع وردود الأفعال.
4- ولا بد من الانفتاح الذي يساعد في تكوين العقل والوعي بكل قضية
بحجمها الحقيقي ليتخذ بشأنها القرار الصحيح.
5- ثم إنه لا بد أيضاً لكي نكون أصحاب فكر تجديدي ألا نُصغي لكل ما هو
شائع من أفكار وآراء وعادات؛ لأن كثيراً منه لا يكون شائعاً نتيجة جدارة ذاتية؛
فهناك سلطان اسمه: سلطان القديم؛ حيث يميل أكثر الناس إلى منح كل قديم مكانة
خاصة.
ثم هنا نظرة إلى بعض ما ينبغي أن نفكر في تغييره:
- فمن ذلك ما يخص الدعاة في أوضاعهم وأحوالهم.
- وما يخص المجتمع من حولنا وطريقة إصلاحنا له ...
وكلا القسمين يحتاج إلى تفكير.
إن التفكير في التغيير الذي نريد ينبغي أن يشمل كثيراً مما في أنفسنا نحن -
أهلَ السنة - وتجمعاتنا وأفكارنا مما لا يرضاه منهج أهل السنة.
وبعد ذلك؛ فإن صدق الرغبة في التغيير عند المصلحين تقتضي قوة المراجعة
والنقد البنّاء الذي يبنى على فكر صحيح يشخّص الداء ويصف الدواء، وعليهم إزاء
ذلك ألا يعيقوا تفكيرهم بآراء خاطئة سابقة ربما تُسقِط بعضَ الإمكانات المتاحة لحل
معضلةٍ مّا أو تغيير أمرٍ من الأمور.
إن لمعة الفكر هي التي تقود العمل.
والفكر المقلّد لا يقود؛ بل يشطح أو تصل حلوله متأخرة وناقصة؛ وإنما
الفكر الاجتهادي الإبداعي هو الذي يقود ويدق باب المستقبل [12] .
إن انطلاق أهل السنة والجماعة لاستيعاب لغة العصر وعلومه وثقافته،
وامتلاك أسباب القوة المادية في جميع المجالات ومنها قوة التفكير في التغيير في
الناس والمجتمعات ما زال فريضة شرعية شبه غائبة قبل أن يكون واجباً عقلياً أو
حتمية تاريخية.
وعلى أهل السنة قبل غيرهم أن يتوافقوا مع سنن الله الكونية، وأن يعملوا بها
بدلاً من إهدار طاقاتهم ووقتهم بعيداً عن ذلك [13] .
الدعاة والمصلحون اليوم بحاجة إلى مرونة في الذهن، وقوة التفكير في
التغيير ولكن بدقة ومرونة تميز بين المصالح والمفاسد ... مرونة كتلك التي علّمت
الخضر - عليه السلام - كيف يوازن بين الإبقاء على سفينة المساكين المعيبة وبين
ذهابها بالكلية.
أما ما يخص التفكير في إصلاح المجتمع: فإنه لا زال أكثر الناس تتحكم فيهم
غريزة القطيع (التقليد) وهو السير مع الآخرين دون تحديد غاية، فتكثر الأخطاء
والخسائر.
أما نحن؛ فنحتاج إلى نظر جديد وفكر جديد يسد الثغرات القائمة في العمل
الإسلامي.
وبداية كل ذلك أن يجلس الدعاة ويعكفوا الساعات الطوال والليالي ذوات العدد
على التفكير في السبيل الأحكم والأسلم لهذا التغيير المنشود مستعينين في كل ذلك
قبله وبعده بساعات الثلث الأخير من الليل وطلب العون ممن له الأمر من قبلُ ومن
بعدُ وإليه ترجع الأمور.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم