مجله البيان (صفحة 3136)

قضايا ثقافية

دور المسلمين الحضاري في تطور العلوم

أ. د. عبد الله بن عبد الله حجازي

من الخطأ أن يُظنّ أن العلم المحمود يقتصر على دراسة علوم الشريعة فقط،

وأن ما وراءها نافلة يؤديها من شاء تطوعاً، أو يتركها وليس عليه من حرج ... ! ! هذا خطأ كبير؛ فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث المتواصل في هذه العلوم

في زماننا هذا لا تقل أهمية عن علوم الدين المحضة. وحسبنا أن نعلم أن الإعداد

للعدو يتطلب معرفة كل سلاح، وهذا لا يتأتى إلا إذا نفرت طائفة من المسلمين

تتفقه في العلوم الكونية.

ولم يحضّ الإسلام أتباعه على العلم وهم مكتوفو الأيدي؛ بل هيأ لهم الحرية

الفكرية التي لولاها لما كانت هذه الأعداد الكبيرة من العلماء المسلمين منهم وغير

المسلمين في شتى علوم المعرفة. والحرية الفكرية التي بسط الإسلام سلطانها ذات

دلالة بالغة فيما يخص علاقة العلم بالدين الحق؛ ذلك أنه لم يشهد تاريخ الإسلام

حادثة واحدة من حوادث القتل أو الحرق من جراء الإفصاح أو التلميح بفكرة علمية

طبيعية، مثل كروية الأرض أو دورانها أو مثل ظاهرة قوس المطر. وعلى العكس

كان الحال في أوروبا؛ فقد كان عقاب الكنيسة لمن يصرح بمثل هذه الأفكار الحرق

حياً أو الإعدام شنقاً.

هذا، ولا يخفى بالطبع أن سكان الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا في معزل

عن العالم الخارجي من الناحية العلمية، إلا في أمور يسيرة اقتضتها ظروف

المعيشة آنذاك. لهذا فإن الإنجازات والإسهامات الهائلة التي شملت جميع فنون

العلوم والمعرفة ما كانت لتكون لولا هذا الدين العظيم دين الإسلام. ومن الصعب

أن نلم في هذه العجالة بما أنجزه المسلمون عبر القرون السابقة، وسنقصر الحديث

على الإسهامات والإنجازات التي كان لها أثرها المباشر في التقدم الحضاري

الإنساني الذي نعيشه اليوم.

إلا أنني أستبق القول، مستشهداً بما جاء على لسان جورج سارطون (ت

1375هـ = 1955م) شيخ مؤرخي العلوم - في عصرنا - في محاضرة ألقاها في

مكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1370هـ = 1950م، فقد جاء فيها:

(يحاول نفر من المؤرخين أن يبخسوا قدر هذا الإنتاج العظيم بادعائهم أنه لم

يكن فيه ابتكار ما، وبأن العرب لم يكونوا سوى مقلدين ... ويبخسونه مرة ثانية

بقولهم: إن الأخذ من مصادر متعددة ليس - على كل حال - خيراً من الأخذ من

مصدر واحد. تلك طريقة في المجادلة مضللة، وخصوصاً إذا كان الكلام يتناول

الرياضيات. ثم إن الرياضيين العرب لم ينسخوا من المصادر اليونانية

والسنسكريتية نسخاً، ولو أنهم فعلوا ذلك لما جاؤوا بفائدة؛ ولكنهم جمعوا بين

المصدرين ثم ألقحوا الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وإذا لم يكن هذا الذي فعله

العرب ابتكاراً، فليس في العلم إذن ابتكار على الإطلاق؛ فالابتكار العلمي في

الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد؛ وليس ثمة ابتكارات

مخلوقة من العدم) [1] .

وقد أفلح المسلمون في شتى فنون المعرفة؛ ففي مجال الصيدلة تذكر

الموسوعة البريطانية: (أن كثيراً من أسماء الأدوية وكثيراً من تراكيبها المعروفة

حتى يومنا هذا أيضاً. وفي الحقيقة فإن المبنى العام للصيدلية الحديثة - فيما عدا

التعديلات الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال - قد بدأه العرب) [2] .

أما (لوبون) فيذكر أن: (الطب مدين للعرب بعقاقير كثيرة.. ومدين لهم بفن

الصيدلة وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل كالأشربة واللعوق

واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة.. إلخ) [3] .

إلا أنه من أهم مآثر المسلمين وإنجازاتهم في ميدان الصيدلة والأدوية إدخالهما

في نظام المراقبة، خصوصاً بعدما تفشى الغش وفسدت النفوس. يرى

(القفطي) [4] و (ابن أبي أصيبعة) [5]- كلٌ في كتابه -: أن (يوسف لقوة) الكيميائي كان من أوائل من أشار على الخليفة المأمون باختبار أمانة وصدق الصيادلة. ثم كان (زكريا الطيفوري) الذي اقترح على (الإفشين) أن يمتحن الصيادلة على هذا المنوال. وبالفعل، فقد تبين للإفشين أن غالبية الصيادلة المرافقين في المعسكر غشاشون، فأمر الإفشين بإحضار جميع الصيادلة، فمن أنكر معرفة تلك الأسماء التي وضعها الإفشين أَذِنَ له بالمقام في معسكره، ونفى الباقين عن المعسكر، ونادى في معسكره بذلك، وكتب إلى المعتصم يلتمس بعثه إليه بصيادلة لهم أديان ومطبّبين مثل ذلك، فاستحسن المعتصم فعله ووجه إليه بمن سأل. وهكذا سُنّ امتحانُ الصيادلة منذ ذلك الوقت، في عهد المعتصم، أي منذ عام 221هـ =836، وبذلك كان المسلمون أول من أنشأ فن الصيدلة على أساس علمي سليم وأقام الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة التي تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس.

ولقد أقيمت الصيدليات ملحقة بالبيمارستانات وهي المستشفيات، وأقيمت مع

المعسكر على صورة مستشفى ميداني، وكانت حافلة بكل ما يحتاجه المرضى في

البيمارستان أو في المعركة.

ولقد كُتبت في الأدوية مؤلفات لا يسعنا أن نذكر منها إلا واحداً، وهو:

(الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) لعبد الله بن أحمد المالقي المعروف بابن البيطار

(ت 646هـ =1248م) ، جمع فيه معلومات يونانية، وأودعه مقدمة تعكس المنهج

التجريبي الذي اتبعه في تدوين المعلومات التي جمعها؛ فقد ورد في الغرض الثاني

من وضعه الكتاب قوله: (صحة النقل فيما أذكره عن الأقدمين وأحرره عن

المتأخرين، فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لديّ بالخُبْر لا بالخَبَر ادخرته

كنزاً سرياً، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سوى الله غنياً، والتنبيه على

كل دواء وقع فيه وهْم أو غلط لمتقدم أو متأخر؛ لاعتماد أكثرهم على الصحف

والنقل، واعتمادي على التجربة والمشاهدة حسبما ذكرت من قبل) [6] .

هذا وقد كان (ابن البيطار) يعاين منابت النبات ويتحقق من هويته قبل أن

يدوّنه. أما (رشيد الدين الصوري، ت 639 هـ =1241م) ، فكان يصطحب معه

رساماً ويدرس النباتات في مواطنها وفي جميع مراحل نموها، ويتأمل هناك لون

النبات ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويُصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها [7] ، وبهذا عرف الصيادلة من أي أجزاء النبات يكون العقار أفيد وأفضل، كما عرفوا

مواعيد جمع العقاقير من النباتات وجَنْيِها وقطفها، وكيفية ادخارها.

ولقد كان للصيدلة العربية أثرها في أوروبا؛ إذ كان استيراد العقاقير العربية

أحد الأركان الأساسية للتجارة الإيطالية مع الشرق العربي، بل إن ازدهار مدينة

البندقية يعود إلى الثروات التي أمكن جمعها من بيع العقاقير العربية ذات الثمن

المرتفع.

أما في مجال الفيزياء ومجال الكيمياء، فنقتصر على الإشارة إلى: (علم

الحِيَل) أو ما يسمى الآن بـ (علم الميكانيك) وما يشتمل على القوانين الثلاثة، التي

تنسب إلى نيوتن (ت 1140 هـ = 1727م) ؛ فالقانون الأول: ويتعلق بالقصور

الذاتي أو ما يسمى (العطالة) ، ورد في كتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا (ت

428هـ =1037م) ، وقد جاء فيه ما نصه: (لا يجوز أن يكون في جسم من

الأجسام قوة طبعية تحرك ذلك الجسم بلا نهاية) . [8] فهو ينفي الحركة الدائمة.

وبخصوص القانون الثاني: يذكر (هبة الله بن ملكا البغدادي، ت 560هـ =

1165م) ما نصه: (وكل حركة ففي زمان لا محالة؛ فالقوة الأشد تحرك أسرع،

وفي زمان أقصر؛ فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة، فقَصُرَ الزمان، فإذا لم

تتناهَ الشدة لم تتناهَ السرعة، وفي ذلك: أن تصير الحركة في غير زمان وأشد؛

لأن سلب الزمان (أي قطع مسافة في مدة زمنية) في السرعة نهاية ما للشدة (أي شدة

القوة) [9] .

وينص القانون الثالث: أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار، ومضاداً

له في الاتجاه، وهذا ما يُفهم من قول فخر الدين الرازي (ت 606هـ =1210م)

في معرض شرحه لكتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا: (فالحبل الذي يجذبه

جاذبان متساويا القوة إلى جهتين مختلفتين لا يخلو إما أن يقال: إنه ما فعل واحد

منهما فعلاً، وهو محال؛ لأن الذي يمنع كل واحد عن فعله هو وجود فعل الآخر،

فلو لم يصدر من كل واحد من القادرين شيء لكان الفعل متعذراً على القادر من غير

مانع؛ وإنه محال، أو يقال: فعل أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال؛ لأن

القادرين لمّا كانا متساويين، لم يكن الحكم بوجود مقدور أحدهما أوْلى من

الثاني [10] .

هذا وقد درس المسلمون الحركة في الماء وفي الهواء وفي الخلاء،

واستنبطوا (أن الجسم إذا تحرك في مسافة فكلما كان الجسم الذي في المسافة أرق

(أقل لزوجة) كانت الحركة فيه أسرع، وكلما كان أغلظ (لزجاً أكثر) كانت الحركة

فيه أبطأ) [11] .

أو بعبارة أفصح وأوضح: (لو تحركت الأجسام في الخلاء لتساوت حركة

الثقيل والخفيف والكبير والصغير) [12] ، وهذا ما توصل إليه الفيزيائيون من واقع

التجربة، وبهذا بطل الرأي الذي خلفه اليونان وساد في أوروبا طويلاً ومفاده: أن

سرعة الجسم الساقط تزداد بازدياد وزنه.

وللمسلمين باع طويل في موضوع الجاذبية الأرضية وتجاذب الأجسام بعضها

من بعض، وفي هذا نقتبس النص الآتي: (المدرة تعود إلى السفل؛ لأن بينها وبين

كلية الأرض مشابهة في الأعراض: البرودة واليبوسة والكثافة، والشيء ينجذب

إلى مثله، والأصغر ينجذب إلى الأعظم) [13] .

وقد ابتكر المسلمون الساعة المائية، والساعات ذات الأثقال التي تفننوا في

تركيبها حتى غدت أعجوبة من الأعاجيب، منها ساعة الجامع الأموي الشهيرة التي

وصفها ابن جبير في رحلته [14] ، وقد بقي ذكرها يرن طوال أربعة قرون.

إلا أن أَجَلّ ابتكار عمله المسلمون في مجال الفيزياء كان في علم البصريات

الذي طوره ابن الهيثم أبو علي الحسن البصري (429هـ = 1038م) ، وأبدع فيه

حتى أوصله إلى الأوج، وهذا ما دفع المستشرق (مايرهوف) أن يصرح، وقد

بهرته بحوث ابن الهيثم في الضوء وأثارت إعجابه قائلاً: (إن عظمة الابتكار

الإسلامي تتجلى لنا في البصريات) [15] .

وقد ثبت بالتحري والتدقيق أن (روجر بايكون) (ت 692هـ = 1292م)

وفيتلو (ت 669 هـ =1270م) ، ومن بعدهما ليوناردو دافنشي (ت 917هـ =

1519م) ثم كبلر (ت 1040هـ =1630م) الذي كان يعمل على أثر فيتلو، والذي

تنسب إليه القوانين الثلاثة في حركات الأجسام السماوية، ثبت أنهم جميعاً استفادوا

كثيراً من كتاب ابن الهيثم: (المناظر) .

وإلى ابن الهيثم ترجع الحقيقة التي يدرسها طلابنا في المدارس والجامعات

وهى أن زاويتي سقوط الضوء وانعكاسه (وهما متساويتان) تقعان في مستوى واحد، وهو أول من نقض رأي إقليدس وبطليموس [16] حين قال: إن شعاع النور

يأتي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس، وهو أول من صرح بأن الضوء

لا ينتشر إلا في زمان، وإن كان (هذا الزمان) خفياً على الحس؛ أي أن للضوء

سرعة معينة ينتشر فيها.

ولا تقلّ إنجازات المسلمين في الكيمياء عنها في الفيزياء؛ فهم الذين جعلوه

علماً يقوم على أسس مدروسة، وذلك بعد طول معاناة وطول بحث أكسبهم خبرة

ومراناً في اكتشاف مواد جديدة مثل اكتشاف حمض الكبريت [17] ، وكانوا يسمونه: (الزاج الأخضر) . ومعلوم لدى الكيميائيين في الوقت الحاضر أن تقدم الأمم

صناعياً كان يقاس إلى وقت قريب بمقدار ما تستهلك من حمض الكبريت، حتى

سُمّي: (خبز الصناعة) . واكتشفوا حمض الآزوت (النيتروجين) وكانوا يسمونه:

(ماء الفضة) أو (الماء الناري) ؛ لأنه يفصل الفضة عن الذهب. وتوصل المسلمون

إلى أن المواد إذا تفاعلت فبنسب وأوزان: (الزنجفر يتخذ من الزئبق والكبريت.

يجمعان في قوارير ويوقد عليها فيصير زنجفراً، وللنار قدر تخرجه التجربة مرة

بعد أخرى، والوزن أن تأخذ واحداً من زئبق وواحداً من كبريت) [18] .

وهذا مفاد القانون الذي ينسب إلى بروست (ت 1242هـ = 1826م) ، وقد

تُوفي بعد الخوارزمي بأكثر من تسعة قرون.

بل إن القانون الذي ينسب إلى لافوازيه (ت 1209هـ = 1974م) وإلى

بريستلي (ت1219هـ =1804م) باسم: (مصونية المادة) ، مأخوذ على ما يبدو

من كتاب (رتبة الحكيم) لمسلمة بن أحمد المجريطي (ت 398 هـ = 1007م) ،

وهذا ما حدا بغوستاف لوبون أن يقول: (قال بعض المؤلفين: إن لافوازيه هو

واضع علم الكيمياء، فنسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم - ومنها الكيمياء -

وكأنما صار ابتداعه دفعة واحدة، ومن المعلوم أنه كان عند العرب من المختبرات

ما وصلوا به إلى اكتشافات لولاها لما استطاع لافوازيه أن ينتهي إلى

اكتشافه) [19] .

بل إن روسكا الكيميائي الشهير وفيدمان الفيزيائي الكبير يربطان تطور

الكيمياء في بلاد الغرب بالكتب العربية التي تُرجمت إلى اللاتينية، وبخاصة كتب

الرازي (ت 313 هـ = 925 م) وجابر بن حيان (ت 200 هـ =815 م) ،

ويؤكد روسكا: (أن الفضل في تحويل السيمياء (وما تتضمنه من خزعبلات) إلى

شكل من أشكال العلوم المحضة - إن هذا الفضل يعود إلى الرازي، فكُتُبُه هي التي

دفعت السيميائيين في بلاد الغرب أن يسلكوا الطريق الصحيح، وكانت سبباً في

تطور الكيمياء التطور المطّرد [20] .

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى أن المسلمين استثمروا خبراتهم في

الكيمياء في استخراج الذهب من التبر، وأنهم اكتسبوا خبرة في التدابير الكيميائية

كالتقطير والتصعيد والتحليل والتشويه والتشميع ... إلى آخر هذه الأعمال التجريبية، وقد أفادتهم خبرتهم هذه في استخلاص العطور من أوراق الورد والنرجس

والياسمين والزنبق وأزهار النارنج ... وغيرها [21] .

وأخيراً: لا يحسن أن يُختم موضوع الكيمياء عند المسلمين دون التعريج على

اكتشافين عظيمين أنجزهما المسلمون، وكان لهما دور خطير جداً في حياة الإنسان

وتقدّم العلوم وتطورها المذهل بجميع فروعها.

أما الاكتشاف الأول فهو: اختراع البارود الذي عُزي في أول الأمر إلى

روجر بايكون، وثبت فيما بعد - نتيجة البحث والدراسة التي قام بها مسيو رينوا

ومسيو فافيه: (أن الصينيين هم الذين اكتشفوا ملح البارود واستعملوه في النار

الصناعية.. وأن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة، أي أن العرب هم

الذين اخترعوا الأسلحة النارية) [22] .

وأما الاكتشاف الخطير الآخر فهو: التطور الهائل الذي أصاب اختراع

الورق [23] ، فلقد أحدث القرنان الثالث والرابع الهجريان انقلاباً عظيماً في صناعة الورق، محرراً مادة الكتابة من احتكار بلد من البلاد له، واستئثارها به، وصيره رخيصاً جداً. وكان الناس - طوال استعمالهم للبردي - يعتمدون على مصر. أما في النصف الأول من القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي، فقد عطلت كواغيدُ سمرقند - كما يذكر الثعالبي - قراطيسَ مصر، والجلودَ التي كان الأوائل يكتبون عليها؛ لأنها أحسن وأنعم وأرفق وأوفق، ولا تكون إلا بسمرقند والصين. وكان أجود الورق آنذاك هو الكاغد الذي نقلت صناعته من الصين وناله على أيدي المسلمين تطوير مهم، فكان حدثاً عظيماً في تاريخ العالم؛ فلقد كان الأوروبيون يكتبون على الرقوق، وكان غلاء أسعارها مانعاً من توافر المخطوطات فيها، ونشأ عن ندرتها أن تعوّد الرهبان حَكّ كتب كبار المؤلفين من اليونان والرومان ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية [24] .

وبينما كانت صناعة الورق تقتصر في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، على بلاد ما وراء النهر فقط، انتشرت مصانع الورق في القرن الرابع، بفضل

التطوير والتحسين الذي قام به المسلمون في كلٍ من: دمشق، وطبرية، وطرابلس

الشام، وبلغت جودة الكاغد في القرن السادس الهجري بمدينة شاطبة بالأندلس

مرحلة لم يكن لها نظير بمعمور الأرض؛ فضلاً عن ذلك؛ فقد عم المشارق

والمغارب.

هذا، وانتقلت صناعة الورق الراقية من العالم الإسلامي إلى أوروبا إثر

الحروب الصليبية؛ فقد تعلمها أسير صليبي عند المسلمين ونقلها إلى فرنسا ومنها

انتقلت إلى أنحاء أوروبا.

ولسائل أن يسأل: لقد كان التراث الإسلامي الضخم في العلوم الكونية والطب

نتيجة جهود أعداد غفيرة من العاملين في هذه المجالات. ومنهم: البر والفاجر،

والمؤمن والكافر، ومنهم: المسلم واليهودي، والنصراني والمجوسي، فما الذي

يجعله تراثاً إسلامياًَ؟

أَجَلْ، إن هذا ما كان فعلاً؛ غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها أنه لو لم يكن

- في ذلك العهد - للإسلام سلطانه على الحياة العامة، ولو لم يبسط الإسلام سماحته

على الناس جميعاً، ولو لم يهيئ المناخ الخصب للإبداع والابتكار لكل من عاش في

ظل سلطانه ... لولا ذلك لما تمكن هؤلاء وهؤلاء من أن ينجزوا ما أنجزوا.. دعك

من فرار النساطرة والمفكرين من مدرسة الرها، ومن المدرسة الأفلاطونية في أثينا، ومن مدرسة الإسكندرية التي أغلقها جستنيان. دعك من هؤلاء جميعاً؛ فإن

فرارهم من ملاحقة السلطان الروماني والكنيسة كان قبل ظهور الإسلام بأكثر من

قرن ... لكن ما بال حوادث البطش والتنكيل والقتل والحرق التي كانت شريعةَ

الكنيسةِ إزاء العلماء والمفكرين إبان القرون الوسطى الأوروبية؟ أي إبان كانت

سُرُجُ العلماء والمصنفين والمفكرين في البلاد التي حكمها الإسلام لا تنطفئ في

طول البلاد وعرضها.

فقد روى لنا التاريخ الذي كتبه الأوروبيون أنفسهم أن عدد الذين أُحرقوا وهم

أحياء في أوروبا وحدها، خلال ثمانية عشر عاماً، وذلك ما بين عام 886 هـ =

1481م وعام 905 هـ =1499م، بلغ عشرة آلاف ومائتين وعشرين شخصاً،

وشُنق خلال المدة نفسها ستة آلاف وثمانمائة وستون فرداً، وكان من بين من أعدم

ثم أحرقت جثته العالم الفيزيائي (برونو) ، بتهمة أنه يؤمن بتعداد العوالم! ولا تخفى

على أحد قصة العالم الفيزيائي (غاليليو) ؛ فقد حكم عليه بالإعدام بتهمة أنه يؤمن

بدوران الأرض حول الشمس، ولم يَحُلْ دون التنفيذ إلا تظاهره بالتراجع أو النزول

على رأي الكنيسة، أما العالم (دي رومنس) فقد أُودع السجن حتى وافاه الأجل فيه،

ثم أُخذت جثته وكُتُبه وحوكمتا، وصدر عليهما الحكم بالحرق؛ ذلك لأنه صرّح بأن

قوس المطر ليست قوساً حربية بيد الله ينتقم بها من عباده إذا أراد، بل هي نتيجة

انعكاس ضوء الشمس على بخار الماء في الهواء.

والطريف أن ابن الهيثم، قبل دي رومنس بمئات السنين، لم يصرح بما

صرح به دي رومنس بخصوص قوس المطر فحسب، بل كتب رسالة بعنوان:

(قوس قزح والهالة) لا تزال تُقرأ حتى يومنا هذا، ولم ينل ابن الهيثم أذى، بل

استحق الإكبار والإعجاب.

والحق أن الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من الجهل والضلال ونقله إلى

العلم والهدى لأسمى من أن يُهين الإنسان، وكتاب الإسلام الأعظم يقول:

[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] [الإسراء: 70] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015