الورقة الأخيرة
عبد الرحمن الحسيني
عجيبٌ هو أمر القلوب في حبها وكرهها.. وإقبالها وإدبارها.. وقبولها
ورفضها.. وقوتها وضعفها.. وصحتها وسقمها!
والأعجب أن ترى لها وتسمع عنها في القرآن الكريم تصويراتٍ فذةً،
وعباراتٍ قويةً معبرة؛ تشد الأسماع، وتحير الألباب، وترسخ في الحس ... إن
أمرها أخطر بكثير مما يحسب الإنسان!
وليس شيءٌ يملك به الإنسان قلبه أعظم من الثقة بربه عز وجل بل بها يملك
دنياه وآخرته.
إنها التاج الحق الذي لم يعرفه أصحاب التيجان، والقدم الصدق الذي يفر منه
أهل الحوْل والصولجان!
ولنتأمل موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام واهتزاز نمرود أمامه، وكيف أنه
بمنطقٍ بسيط استطاع أن يهزمه؛ حتى وهو في النار، وهو يرد على جبريل بقوله: أما إليك فلا!
أو موقف غلامٍ صغير في مملكةٍ كبيرة أمام ملكٍ جبار (صاحب الأخدود) ، وقد
سد عليه الملك السبيل؛ فيفتح هو بتاجه المغاليق، ويرجع إليه معلناً عن الفوز
بجولةٍ جديدة! !
ويلخص لنا أحد العلماء سر تلك المواقف في قوله: (استحضرتُ عظمة الله؛
فرأيتُ السلطان أمامي كالقط) .
أي ثقة تلك التي يستشعرها الداعية وهو يقرأ قول ربه: [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا] [الطور: 48] ، أو قوله تعالى: [وَاصْبِرْ فَإنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
المُحْسِنِينَ] ؟ ! [هود: 115] .
وأي بردٍ يجده وهو يطرح همومه وشجونه وحوله وطوله وقوته بين يدي ربه
في خلوة مسجد أو خبوة دار، وهو ينادي مَنْ وَسِعَ سمعه الأصوات: [أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ؟ ! [الأنبياء: 83] .
إن أهل الثقة هم أهل الولاية والهداية والرعاية والنصرة والإمامة والتمكين: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ]
[السجدة: 24] .
وهذه الثقة لها في القرآن مواقف شتى، وأمثلةٌ كثيرة، وهي في سِيَر
الصالحين؛ حتى لتكاد أن يكون لها لسانٌ حيناً لتنطق به في قول يعقوب عليه
السلام: [إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ]
[يوسف: 86] وعلى لسان السحرة: [ ... فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ] [طه: 72] .
وتبث أحاسيسها حيناً آخر؛ ليخفق بها القلب وتحرك المواقف والأشخاص..
[وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأََ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ... ]
[التوبة: 118] .
والأمثلة كثيرة، والمواقف أكثر، غير أن موقف امرأةٍ يشي بذلك كله؛ وهي
تُلقي بفلذة كبدها في اليم كي تحفظه! ! ثم تدفع بعد ذلك الخوف والحزن عن نفسها، وتستبشر بفرج السماء! ؛ ليخرج وليدها من اليم؛ فيغير الله به الأرض: [فَإذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
المُرْسَلِينَ] [القصص: 7] .
حقاً! ! إن تغيير وجه الأرض يبدأ من نقطةٍ واحدة: هي تغيير ما في القلوب
أولاً.. [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] .
ويوم أن يوجد في كل مدينة رجلٌ من هذا الطراز يربي على يديه رجلاً في
كل حي؛ ليُخرِج كلّ منهم نموذجاً في كل مسجد؛ فهنالك يأتي الفرج إن شاء الله
تحقيقاً لا تعليقاً.
فثقوا بالله وأبشروا [وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ] [يوسف: 87] ،
و [وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ] [الحجر: 65] .